مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وقائع الشهادة
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
زبان: عربی
تعداد صفحات: 531 ص
خیراندیش دیجیتالی : بیادبود مرحوم حاج سید مصطفی سید حنایی
ص:1
ص: 2
مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وقائع الشهادة
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
ص: 3
أقسام الأخبار. 45
الأسر. 49
حركته (علیه السلام) من الميدان إلى القصر. 61
باب قصر الخبال... 69
عطشه (علیه السلام) . 79
داخل القصر. 97
الوصيّة. 113
المحاججة والمناظرة. 213
الأمر بالقتل... 311
الشهادة. 317
الصَّلب.... 369
جرّه في الأسواق... 377
تجهيز الأجساد الطاهرة. 385
ناصر الجثمان المقدس حنظلة بن مرّة. 389
بعث الرؤوس إلى الشام.. 393
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾، صدق الله العليّ العظيم.
والحمد لله ربّ العالمين، وبه تعالى نستعين، والصلاة على المبعوث رحمةً للعالَمين، المصطفى محمّدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
حقّاً من دواعي السرور أن يدعوني أخي العزيز المفضال سماحة السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني (دامت بركاته) للتقديم لكتابه الموسوم (مسلم بن عقيل.. وقائع الشهادة)، سيّما وأنا أتشرّف بخدمة المرقد الطاهر للمولى الغريب منذ ثمان سنين بمَنٍّ مِن الله (سبحانه وتعالى)، فمُسلم (سلام الله عليه) هو فرعٌ من تلك الدوحة الهاشميّة الّتي عمّ الورى نوالها، وانتفع الخلق ببركاتها، تربّى في بيت عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام) ،
ص: 5
وكفاه ذلك فخراً، ثمّ قلّده بعد ذلك إمامُنا الحسين (علیه السلام) بقلادة الشرف الباذخ يوم كلّفه السفارة بقوله لأهل الكوفة: «إنّي باعثٌ لكم أخي وابن عمّي، وثقتي مِن أهل بيتي».
وهكذا يتقلّب مسلم في منازل الساجدين، ويترقّى في مدارج العارفين، حتّى ينال الشهادة هبةً من ربّ العالمين على يدَي أحقر المخلوقين.
ثمّ يبدأ التاريخ ليكتب لنا حياة هذا الرجل العظيم، وليته لم يكتب! لأنّ الأقلام المأجورة ما انفكّت مِن أسر المالكين والحاكمين تسطّر لهم رغباتهم، وإن اقتضى الأمرُ قلبَ الحقائق، أو أن تذكر بعضاً منها وهي خَجِلةٌ من مموّليها، وهذا ما حدث في تاريخ مسلم بن عقيل (علیه السلام) .
ولا عجب، فلم يكن هو الوحيد الّذي شملته هذه المؤامرة القذرة، بل إنّها طالت كلَّ ذراري الأئمّة الأطهار وأتباعهم ومواليهم، وظلّت الأُمور على ما هي عليه مع تقادم السنين، حتّى أصبح البعض منها - وللأسف الشديد - من المسلَّمات عندنا.
ولكن شاء الله أن يقيّض لها رجالاً شمّروا عن سواعدهم، ليغوصوا في أعماق التاريخ، ويُعيدوا دراستَه بشكلٍ واعٍ وبموازين ثابتة، تستند إلى كتاب الله وسنّة النبيّ الأكرم والأئمّة الهداة الميامين (عليهم أفضل الصلاة وأتمّ التسليم).. ومن هؤلاء سماحة السيّد علي الحسيني (أعزّه الله)، الّذي درس حياة الشهيد مسلم بن عقيل دراسةً تحليليّةً واعية، وقف بها عند كلّ الشبهات الّتي أحاطت بتاريخه (علیه السلام) ، ومنها: قصّة شراء والدته مِن قِبل
ص: 6
معاوية، أو محاولة اغتيال ابن زياد في بيت هانئ بن عروة، أو قصّةالتطيّر من المهمّة الموكَلة إليه، وغيرها.. واستطاع أن يُخرِجها التخريج الصحيح القريب من المنطق السليم، وأن يُجيبَ على كثيرٍ من التساؤلات الّتي قد تخطر على ذهن المتتبّع لتاريخ مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فهي دراسةٌ جديدة تبعث الأمل في النفوس، فكنّا من قبل نسمع من المثقّفين أنّنا بحاجةٍ إلى إعادة كتابة التاريخ، واليوم لعلّ هذا الكتاب الّذي نحن بصدد التقديم له والكتب الّتي سبقته في حياة مسلم بن عقيل (علیهما السلام) هي بداية موفّقة لنهضة جادّة، تعيد كتابة تاريخنا المشرق وتضعه بصورته الناصعة بين يدي الأبناء أو الأجيال القادمة، حتّى يُبصِروا الحقائق كما هي، لا كما يرسمها أعداء آل البيت (علیهم السلام) ، وهذا ما نلمسه في التفاصيل الدقيقة الّتي أشار إليها المؤلّف للمشهد الأخير لحياة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، بدءاً من مصرعه إلى وصوله للقصر، ثمّ الوصيّة ورميه وصلبه وبعث الرأس الشريف إلى الشام وتجهيز الجثّة, كما نرى في منهجيّة سماحة السيّد تتبُّعَ مُعظَم النصوص الواردة في أُمّهات المصادر والمراجع، سيّما المختلَف منها، فيذكرها أوّلاً ثمّ يبدأ محاكمتها للوصول إلى الحقيقة الّتي تتطابق مع معتقداتنا، وهذا نهجٌ جديد وجهد كبير يبيّن سعة اطّلاع المؤلّف ودقّته في التحقيق، يؤجر عليه ويُشكَر.
ولا بدّ من القول أنّنا اليوم أمامنا فسحة من الوقت وفرصة ثمينة، علينا أن نستثمرها جيّداً لنُثبِت الحقائق الّتي ضيّعتها الأيام، فلْيسمَحْ لي أخي المؤلّف (أعزّه الله) أن أُوجّه الدعوة من خلال هذا التقديم المتواضع
ص: 7
لكتابه الكبير إلى كلّ الباحثين والمحقّقين والمفكّرين أن يحذوا حذوهفي إعادة كتابة التاريخ، وأن يستوقفوا كلَّ المصادر التاريخيّة، ويُخضِعوا نصوصها للمحاكمة العادلة، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا يخشوا أيّاً من الأسماء الّتي كتبت التاريخ، فليس هؤلاء بمعصومين، بل متّهَمون حتّى تثبت براءَتُهم، نحن أصحاب موازين حقٍّ لا تنطق عن الهوى، فبها نضع النصوص التاريخيّة، فما وافقها نأخذ به وما خالفها نرمي به جانباً ولا نبالي أبداً.
في الختام، أتقدّم بوافر الاحترام والتقدير للقارئ الكريم، كما أُكرّر الشكر للأخ العزيز المؤلّف (حفظه الله ورعاه) الّذي أتاح لي الفرصة في كتابة هذه السطور، وكلّي دعاءٌ له من جوار سفير الحسين مسلم بن عقيل (علیهما السلام) أن يتقبّل اللهُ عمله ويقضي حوائجه، وأن يديم عليه نعمة البحث والتأليف بما هو جديد ونافع، والدعاء موصولٌ لكلّ مَن ساهم في إخراج الكتاب، إنّه سميعٌ مجيب، مع اعتذاري عن التقصير.
السيّد موسى السيّد تقي الخلخالي
أمين مسجد الكوفة والمزارات الملحقة به
9 جمادى الآخرة 1435 هجري قمري
ص: 8
الحمد لله الّذي لا إله إلّا هو الملك الحقّ المبين، المدبِّر بلا وزير، ولا خلقٌ مِن عباده يستشير، الأوّل غير موصوف، والباقي بعد فناء الخلق، العظيم الربوبيّة، نور السماوات والأرضين وفاطرهما ومبتدعهما، بغير عمَدٍ خلقهما، فاستقرّت الأرضون بأوتادها فوق الماء، ثم علا ربُّنا في السَّماواتِ الْعُلى، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى، فأنا أشهد بأنّك أنتَ الله، لا رافع لما وضعت، ولا واضعَ لما رفعت، ولا معزَّ لمَن أذلَلت، ولا مذلّ لمَن أعزَزْت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطيَ لما منعت ((1)).
اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِك، وَنَوَامِيَ بَرَكَاتك، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولك، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ،
ص: 9
وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ، وَالدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ، فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِك، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ، حَافِظاً لِعَهْدِكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ، وَأَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ، وَأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَنَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَخَازِنُ عِلْمِكَ الْمخْزُونِ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ، وَرَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ ((1)).
اللّهم وضاعِفْ صلواتِكَ ورحمتَك وبركاتِكَ على عِترة نبيِّك، العترةِ الضائعة الخائفة المستذَلَّة، بقيّةِ الشجرة الطيّبة الزاكية المباركة، وأعلِ - اللّهمّ - كلمتَهُم، وأفلِجْ حجّتَهم، واكشِفِ البلاءَ واللّأْواءَ، وحَنادِسَ الأباطيل والعمى عنهم، وثبِّتْ قلوبَ شيعتهم وحزبَكَ على طاعتهم وولايتهم ونصرتهم وموالاتهم، وأَعِنْهم، وامنحهم الصبرَ على الأذى فيك، واجعل لهم أيّاماً مشهودة، وأوقاتاً محمودةً مسعودة، توشِكُ فيها فَرَجَهم، وتُوجِبُ فيها تمكينهم ونصرهم، كما ضمِنتَ لأوليائك في كتابك المنزَل، فإنّك قلتَ -- وقولك الحقّ -- : ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ((2)).
ص: 10
والعن اللّهم أوّلَ ظالمٍ ظلَمَ حقَّ محمّدٍ وآلِ محمّد، وآخرَ تابعٍ له على ذلك، اللّهم وأهلِك مَن جعل يومَ قتلِ ابنِ نبيِّك وخيرتك عيداً، واستهَلَّ به فَرَحاً ومَرَحاً، وخُذْ آخرَهم كما أخذتَ أوّلهم، وأضعِفِ اللّهمّ العذابَ والتنكيل على ظالمي أهل بيت نبيّك، وأهلِكْ أشياعَهُم وقادتَهم، وأَبِر حماتهم وجماعتهم ((1)).
وصلّ اللّهمّ على حبيبي ومالك رقّي وسيّدي وإمامي، الشهيد السعيد، والسبط الثاني، والإمام الثالث، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، المتحقّق بصفات الله، والدليل على ذات الله، أفضلِ ثقات الله، المشغول ليلاً ونهاراً بطاعة الله، الناصر لأولياء الله، المنتقِم من أعداء الله، الإمام المظلوم، الأسير المحروم، الشهيد المرحوم، القتيل المرجوم، الإمام الشهيد، الوليّ الرشيد، الوصيّ السديد، الطريد الفريد، البطل الشديد، الطيّب الوفيّ، الإمام الرضيّ، ذو النسب العلي، المنفِق الملي، أبو عبد الله الحسين بن علي (علیهما السلام) .
منبع الأئمة، شافع الأُمّة، سيّد شباب أهل الجنّة، وعَبرة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة، صاحب المحنة الكبرى، والواقعة العظمى، وعَبرة المؤمنين في دار البلوى، ومَن كان بالإمامة أحقّ وأولى، المقتول بكربلاء، ثاني السيّد الحصور يحيى ابن النبيّ الشهيد زكريا (علیه السلام) ، الحسين بن عليّ المرتضى.
زين المجتهدين، وسراج المتوكّلين، مفخر أئمّة المهتدين، وبضعة كبد
ص: 11
سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، نور العترة الفاطميّة، وسراج الأنساب العلويّة، وشرف غرس الأحساب الرضويّة، المقتول بأيدي شرّ البريّة، سبط الأسباط، وطالب الثأر يوم الصراط، أكرم العِتَر، وأجلّ الأُسَر، وأثمر الشجر، وأزهر البدر، معظّمٌ مكرّمٌ موقّر، منظّفٌ مطهَّر..
أكبر الخلائق في زمانه في النفس، وأعزّهم في الجنس، أذكاهم في العرف، وأوفاهم في العرف، أطيب العرق، وأجمل الخلق، وأحسن الخلق، قطعة النور، ولقلب النبيّ (صلی الله علیه و آله) سرور، المنزَّه عن الإفك والزور، وعلى تحمّل المحن والأذى صبور، مع القلب المشروح حسور، مجتبى الملك الغالب، الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((1)).
الّذي حمَلَه ميكائيل، وناغاه في المهد جبرائيل، الإمام القتيل، الّذي اسمه مكتوبٌ على سرادق عرش الجليل: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة»، الشافع في يوم الجزاء، سيّدنا ومولانا سيّد الشهداء (علیه السلام) ((2)).
الّذي ذكره الله في اللوح الأخضر، فقال: «... وجعلتُ حسيناً خازنَ وحيي، وأكرمتُه بالشهادة، وختمتُ له بالسعادة، فهو أفضل مَن استُشهِد، وأرفعُ الشهداء درجة، جعلتُ كلمتي التامّة معه،والحجّةَ البالغةَ عنده، وبعترته أُثيبُ وأعاقِب» ((3)).
ص: 12
الّذي قال فيه جدُّه المبعوث رحمةً للعالمين (صلی الله علیه و آله) : «حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً» ((1)).
وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله) -- وهو الصادق الأمين -- : «إنّ حُبّ عليٍّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حُبَّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((2)).
فمِن أيِّ المخلوقات كان أُولئك المردة العتاة، وأبناء البغايا الرخيصات، الّذين قاتلوه بغضاً لأبيه، وسبوا الفاطميّات، ولم يحفظوا النبيّ (صلی الله علیه و آله) في ذراريه؟!!
قال الإمام سيّد الساجدين (علیه السلام) : «.. أيّها الناس، أصبحنا مطرّدين مشرّدين شاسعين عن الأمصار، كأنّا أولاد ترك وكابل، مِن غير جُرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، ﴿إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾. فوَالله لو أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) تقدّم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوِصاية بنا لَما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، مِن مصيبةٍ ما أعظمها، وأوجعها، وأفجعها، وأكظّها، وأقطعها، وأمرّها،وأفدحها، فعند الله نحتسبه فيما أصابنا وما بلغ بنا، إنّه عزيزٌ ذو انتقام» ((3)).
ص: 13
ولكنّ الله لهم بالمرصاد، فإنّ دمه الزاكي الّذي سكن في الخُلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن، وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار مِن خلقِ ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى، سوف لا ولم ولن يسكن، لأنّه قتيل الله وابنُ قتيله، وثارُ الله وابنُ ثاره، ووِترُ الله الموتور في السماوات والأرض ((1))، حتّى «يبعث الله قائماً، يفرّج عنها الهمّ والكربات».
قال الحسين (علیه السلام) : «يا ولدي يا علي، والله لا يسكن دمي حتّى يبعث الله المهدي» ((2)).
فذلك قائم آل محمّد (عجل الله تعالی فرجه الشریف) يخرج، فيقتل بدم الحسين بن علي (علیهما السلام) .. «وإذا قام -- قائمنا -- انتقم لله ولرسوله ولنا أجمعين» ((3)).
وقد بشّر بذلك رسول ربّ العالمين (صلی الله علیه و آله) ، فقال: «لمّا أُسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي (جلّ جلاله) فقال: يا محمّد، إنّي اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتُك منها، فجعلتك نبيّاً،وشققتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثمّ اطلعت الثانية فاخترتُ منها عليّاً، وجعلتُه وصيّك وخليفتك، وزوج ابنتك، وأبا ذريّتك، وشققتُ له اسماً من أسمائي، فأنا العليّ الأعلى وهو علي، وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة، فمَن قَبِلها كان عندي من المقرَّبين.
ص: 14
يا محمّد، لو أنّ عبداً عبدني حتّى ينقطع، ويصير كالشنّ البالي، ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم، فما أسكنتُه جنّتي، ولا أظللته تحت عرشي.
يا محمد، تحبّ أن تراهم؟
قلت: نعم يا ربّ.
فقال (عزّ وجلّ): إرفَعْ رأسك. فرفعتُ رأسي، وإذا أنا بأنوار علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر ابن محمّد، وموسى بن جعفر، وعليّ بن موسى، ومحمّد بن علي، وعليّ بن محمّد، والحسن بن علي، و(م ح م د) بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكبٌ درّي.
قلت: يا ربّ، ومَن هؤلاء؟
قال: هؤلاء الأئمة، وهذا القائم الذي يحلّل حلالي، ويحرّم حرامي، وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين،فيُخرِج اللّات والعُزّى طريَّين فيحرقهما، فلَفِتنَةُ الناس -- يومئذٍ -- بهما أشدّ من فتنة العجل والسامري» ((1)).
وروى عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على سيّدي أبي عبد الله جعفر ابن محمّدٍ (علیهما السلام) في يوم عاشوراء، فألفيتُه كاسفَ اللّون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك.
ص: 15
فقال لي: «أوَ في غفلةٍ أنت؟! أما علمتَ أنّ الحسين بن علي أُصيبَ في مثل هذا اليوم؟!».
فقلت: يا سيّدي، فما قولك في صومه؟
فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلّت الهيجاء عن آل رسول الله، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم، يعزّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله مصرعهم، ولو كان في الدنيا - يومئذٍ - حيّاً لكان صلّى الله عليه وآله هو المعزّى بهم».
قال: وبكى أبو عبد الله (علیه السلام) حتّى اخضلّت لحيته بدموعه..ثمّ علّمه آداب يوم عاشوراء، وآداب الزيارة في ذلك اليوم، إلى أن قال: ثم قل:
«اللّهم عذّب الفجرة الذين شاقّوا رسولك، وحاربوا أولياءك، وعبدوا غيرك، واستحلّوا محارمك، والعن القادة والأتباع، ومن كان منهم فخب وأوضع معهم أو رضي بفعلهم، لعناً كثيراً.
اللّهم وعجّل فرج آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، واجعل صلواتك عليه وعليهم، واستنقذهم من أيدي المنافقين المضلّين، والكفرة الجاحدين، وافتح لهم فتحاً يسيراً، وأتح لهم روحاً وفرجاً قريباً، واجعل لهم من لدنك على عدوّك وعدوّهم سلطاناً نصيراً..
ص: 16
اللّهم إنّ كثيراً من الأمّة ناصبت المستحفظين من الأئمّة، وكفرت بالكلمة، وعكفت على القادة الظلمة، وهجرت الكتاب والسنّة، وعدلت عن الحبلين اللَّذَين أمرتَ بطاعتهما والتمسّكِ بهما، فأماتت الحقّ، وجارت عن القصد، ومالأت الأحزاب، وحرّفت الكتاب، وكفرت بالحقّ لمّا جاءها، وتمسّكت بالباطل لمّا اعترضها، وضيّعت حقّك، وأضلّت خلقك، وقتلت أولاد نبيّك، وخيرةَ عبادك، وحمَلَةَ علمك، وورثة حكمتك ووحيك.
اللّهم فزلزل أقدام أعدائك، وأعداء رسولك، وأهل بيترسولك.
اللّهم وأخرب ديارهم، وافلل سلاحهم، وخالف بين كلمتهم، وفتّ في أعضادهم، وأوهن كيدهم، واضربهم بسيفك القاطع، وارمهم بحجرك الدامغ، وطمّهم بالبلاء طمّاً، وقمّهم بالعذاب قمّاً، وعذّبهم عذاباً نكراً، وخذهم بالسنين والمثلات التي أهلكتَ بها أعداءك، إنّك ذو نقمةٍ من المجرمين.
اللّهم إنّ سنّتك ضائعة، وأحكامك معطَّلة، وعترة نبيك في الأرض هائمة، اللّهم فأعن الحقّ وأهله، واقمع الباطل وأهله، ومُنّ علينا بالنجاة، واهدنا إلى الإيمان، وعجّل فرجنا، وانظمه بفرج أوليائك، واجعلهم لنا ودّاً، واجعلنا لهم وفداً» ((1)).
والصلاة والسلام على أصحاب الحسين (علیهم السلام) الّذين كشف لهم سيّد الشهداء (علیه السلام) «الغطاء، حتّى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرجل منهم
ص: 17
يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها، وإلى مكانه من الجنّة» ((1))، ووعَدهم ربُّ العزّة أن يعيد لهم الكرّة على أعدائهم، فقال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾، يخاطب بذلك أصحاب الحسين ((2)).
وصلّ يا ربّ صلاةً خاصّةً نامية زاكية طيبة دائماً على مولاي الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) :سلام الله العليّ العظيم، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وأئمّته المنتجبين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا مسلم بن عقيل بن أبي طالب، ورحمة الله وبركاته.
أشهد أنّك قد أقمتَ الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده، وقتلت على منهاج المجاهدين في سبيله، حتّى لقيت الله (عزّ وجلّ) وهو عنك راض.
وأشهد أنّك وفيتَ بعهد الله، وبذلت نفسك في نصرة حجّته وابن حجّته، حتّى أتاك اليقين.
أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة، لخلف النبيّ المرسَل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصيّ المبلّغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله وعن أمير المؤمنين وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء بما صبرت
ص: 18
واحتسبت وأعنت، فنعم عقبى الدار.
لعن الله مَن قتلك، ولعن الله من أمر بقتلك، ولعن الله من ظلمك، ولعن الله من افترى عليك، ولعن الله من جهل حقّك واستخفّ بحرمتك، ولعن الله من بايعك وغشّك، وخذلك وأسلمك، ومن ألّب عليك ولم يُعِنك، الحمد لله الّذي جعل النار مثواهم وبئس الورد المورود.
أشهد أنّك قد قتلت مظلوماً، وأنّ الله منجزٌ لك ما وعدك ... قتل اللهأُمّةً قتلتك بالأيدي والألسن.
صلّى الله عليك أيّها العبدُ الصالح، المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) ، صلّى الله على روحك وبدنك.
أشهد أنّك مضيتَ على ما مضى به البدريّون والمجاهدون في سبيل الله، المبالِغون في جهاد أعدائه ونصرة أوليائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع وُلاةَ أمره.
أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيتَ غاية المجهود، حتّى بعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في العلّيّين، وحشرك مع النبيّين والصدّيقين والشهداءِ والصالحين، وحسن أُولئك رفيقاً.
أشهد أنّك لم تَهِن ولم تنكل، وأنّك قد مضيتَ على بصيرةٍ من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيّين، فجمع اللهُ بيننا وبينك وبين رسوله
ص: 19
وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين.
اللّهم ارزقنا زيارة مولانا الغريب الحبيب ما أبقيتنا، واحشرنا معه، وعرِّفْ بيننا وبينه وبين رسولك وأوليائك في الجنان.
اللّهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّد، وتوفّنا على الإيمان بك والتصديق برسولك والولاية لعليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليه) والأئمّةِ من وُلدهوالبراءة من أعدائهم.. ((1)).
ص: 20
يمكن استطلاع صورتين للمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ..
صورتان متنافرتان، متناقضتان، متعاكستان.. كأنّ بينهما بُعد المشرقَين:
إحداهما: صورة تكاد تكون طبق الأصل، لا يفصلها عن واقع المولى الغريب (علیه السلام) سوى بُعد الأيام وامتناع المشاهدة الخارجيّة بالعَيان، لأنّها مرسومة في القلوب، ومستوحاة من مؤدّيات الكلمات والبيان..
والصورة الأُخرى: مرسومةٌ على أوحال صفحات التاريخ الملوَّث بقيح دواة المؤرّخ الّذي يعيش في البلاط، ويجد مادّة دواته وحبر قلمه جاهزاً، ويمشي ضمن الخارطة التي يريدها السلطان، وترقص يده على سطور بياضه على أنغام رنين الصفراء والبيضاء وإيقاعات اصطكاك الدرهم والدينار داخل البدرات.. فما أعسر الوقوف بين يدَي المولى الغريب مسلم
ص: 21
ابن عقيل (علیهما السلام) ، إنّه موقفٌ صعبٌ عسير، إن كان في الدنيا أو في الآخرة..
الصورة الأُولى الّتي كتبها الله للمولى الغريب (علیه السلام) ، ورسم معالمها في التكوين، وأبان تفاصيلها بما لا يترك للمستطلع شكٌّ يمكن أن يخالج اليقين..
رسمها له من خلال نسبه، وما أودعه فيه من خصال وصفات ومحامد الأخلاق، وراثةً وهبة وعطاءاً غير مجذوذ من ربّ العالمين..
ومن خلال ما رسمه لنا أهل بيت العصمة الّذين لا ينطقون عن الهوى، فهم أعرف الخلق بالخلق، وهم أعرف الناس بعترة النبيّ وآله وذراري الأنبياء والأوصياء وسلالة الطيّبين وفروع الشجرة الزاكية من آدم إلى النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) .. وهم الّذين قرن الله رضاه برضاهم وسخطه بسخطهم؛ فمن رضوا عنه رضي الله عنه، ومن سخطوا عليه سخط الله عليه، ومن مدحوه مدحه الله، ومن ذمّوه ذمّه الله، ومن اصطفوه وارتضوه واختاروه وانتجبوه اصطفاه الله واختاره وانتجبه، ومن قرّروا له منزلة قرّرها الله له.. وهذا من بديهيّات معتقد الحقّ.
ثمّ من خلال الصورة الّتي رسمها المولى الغريب (علیه السلام) لنفسه بنفسه، فوظّف ما منحه الله من موادّ لتكوين الصورة وصدّق الصدّيقين بفعاله، فجمع كلّ ذلك في سيرته الذاتيّة الّتي يمكن أن نتصيّدها من آيات أئمّةالدين البيّنات، أو فلتات أقلام المؤرّخين، أو تصريحات الرواة والمهتمين بشأنه..
ص: 22
فهذه الصورة صورة حقيقيّة، لا يقال عنها أنّها تحكي الواقع إذا اكتملت موادّها وتوفرت لدينا بطرقها الثابتة، بل ستكون هي الواقع ذاته.. صورة طبق الأصل الذي عاش وتحرّك على الأرض ذات يوم، وسطّر لنا أروع ملاحم التاريخ وأعظم مواقف الأبطال وأنصع صور الروّاد للفضل والفضيلة والحقّ ومواجهة الباطل الضلال والرذيلة..
صورة أرادها الله للبطل الهاشمي، ورسمها المولى الغريب (علیه السلام) بمواقفه وسلوكه ومشاهده كلّها التي لا تُنسى.. وثبّتها المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحيٌ يوحى!
صورة محبكة، متجانسة الألوان، مشدودة الجوانب والأركان، متناغمة المواقف، متلائمة في المشاهد، منسجمة في جميع الحالات، لا تموُّج فيها إلّا ما كان من روعة الطلعة وشعاع النور الصاعد من جبينه الوضّاء..
صورة ثابتة، متماسكة، متعاضدة، لا اختلال فيها ولا اهتزاز.. تنساب معها روعة الجمال منذ اللّحظة الأُولى الّتي يواجهها المتلقّي إلى النهاية التي تدهش المتابِع بالعظمة والجلال والجمال..
صورة واضحة المعالم، جليّة التفاصيل، دقيقةٌ في التعبير.. تجدها في المولى الغريب (علیه السلام) منذ الولادة، بل قبلها!تجده نوراً يتقلّب في أصلاب الساجدين، ثم ثمرةً ناضجةً تتدلّى من أغصان شجرة الموحّدين التي بسقت في الحرم..
لا تجد في آبائه إلى آدم (علیه السلام) دنَسَ الشرك، ولا قذرَ الحَسَب الرديء،
ص: 23
ولا ظلمات الجاهليّة الجهلاء، ولم يُحصِ لهم الكرامُ الكاتبون سوى معالي الأخلاق وحصائد أعمالهم الحسنة، الّتي صارت مثلاً يُحتذى به للبشرية جمعاء..
آباءٌ جمعوا مكارم الأخلاق، فأتعبوا ملَكَ اليمين بما أملوه عليه من أعمالٍ تربو على الجبال ثقلاً وعظمة في الموازين، حتّى لكأنّه يستحثّ ملك الشمال ويستنجده ليعينه على تسجيل المكرمات..
لقد حازوا المعالي ونالوا «الثريّا بأيديهم وهم قاعدون»، فكانت مآثرهم مفاخر، ومفاخرهم تستوعب لحظات أعمارهم، فلا تُعَدّ بالسنين والشهور والأيام والساعات، وإنما تكتضّ بها الثواني وتزدحم بها اللحظات..
فهو من شجرةٍ قال عنها مولى الموحّدين وقائد الغرّ المحجّلين وسيّد الوصيّين عمُّه وأبو زوجته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) :
«فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ، كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ، حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه و آله) ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِمَنْبِتاً، وَأَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَانْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَأُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ
ص: 24
وَثَمَرٌ لَا يُنَال» ((1)).
هو ذا المولى الغريب (علیه السلام) :
مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن شيبة الحمد عبد المطّلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان..
ولکلّ واحدٍ مِن هؤلاء الآباء الكرام شرفٌ ورئاسة، ومجدٌ ضخم، وكلّ واحد منهم في عصره سيّد قومه، وزعيمهم المقدَّم عليهم، بما امتاز به من كرم الأصل ومكارم الأخلاق، لأنّ كلّ فردٍ منهم لا يشبهه مَن في عصره -- لا عربيٌّ ولا أعجمي -- في جميع المكارم وسائر السجايا والشّيَم، فهو الممتاز من حيث الصفة البدنيّة، كالصباحة، وحسن الملامح، والسيماء التي يتفرّس منها كلّ خير، وكما كساه الله الجمال والبهاء كساه المهابة والجلالوحُسن الهيئة، وبجّله في أعين الناظرين، وجعل له هيبةً ورهبةً في قلوب المناوئين..
أمّا من حيث الصفات النفسيّة النفيسة، فقد أربى عليهم وفاقهم كمالاً كما راقهم جمالاً، فلا يدانيه رئيسٌ ولا متوَّجٌ في المحامد والمكارم، نحو الشجاعة والسخاء والفصاحة، وسائر المفاخر المنتخبة والمكارم المتخيّرة عند عامّة العقلاء، وكلّ واحدٍ منهم قاد قومه في الحروب، وكان مع تفوّقه
ص: 25
بفنّ القيادة مظفّراً منصوراً ((1)).
نسبٌ ناصع، تزهو الدنيا برجاله، وتزهر به الآخرة بتلألؤ أنواره.. إنّه شعاعٌ من أنوار الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين.. سليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، وغصنٌ شامخ من عبد المطّلب، وفرع زاكٍ من أبي طالب (علیه السلام) حجّة الله الصدّيق العظيم، وثمرة عقيل الموحِّد الشجاع الأمين، وصهر تاج الموحّدين، مجدّلِ الأبطال ومجبّن الشجعان، أميرِ المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (علیهما السلام) ، وأخي الحسن والحسين (علیهما السلام) سيّدَي شباب أهل الجنّة أجمعين..
فإن كانت الأخلاق الحميدة والمكارم العتيدة وراثة، فما أعظم محتد المولى الغريب (علیه السلام) ، وما أعرق نجاره ونسبه! اكتنز الأخلاق من «آبائه الصيد الكماة» وراثة، وامتلأ بها امتلاءاً، ففاضت منه عبقاً لفّ الدنيا بأريجه،وغمر التاريخ بشذى عطره الفوّاح.. فهل تجد مكرمةً وخلُقاً يتمنّاه الكُمّل من بني البشر إلّا في آبائه الكرام وسادات الأنام؟!
وقد ورثها المولى الغريب (علیه السلام) بوعاءٍ واسع متين..
وإن كانت اكتساباً! فقد انتهل المولى الغريب (علیه السلام) مِن أصفى معينٍ خلقه الله سلسلاً عذباً فراتاً سائغاً للشاربين، وأحاطته عناية ربّ العالمين، فرفل متنعّماً برعاية رُعاة الكون ومالكي الجنّة والجحيم والأئمّة على الخلق أجمعين.. هم رعاة الخلق:
ص: 26
«أَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعَ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ، وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ، وَخُزَّانَ الْعِلْمِ، وَمُنْتَهَى الْحِلْمِ، وَأُصُولَ الْكَرَمِ، وَقَادَةَ الْأُمَمِ، وَأَوْلِيَاءَ النِّعَمِ، وَعَنَاصِرَ الْأَبْرَارِ، وَدَعَائِمَ الْأَخْيَارِ، وَسَاسَةَ الْعِبَادِ، وَأَرْكَانَ الْبِلَادِ، وَأَبْوَابَ الْإِيمَانِ، وَأُمَنَاءَ الرَّحْمَنِ، وَسُلَالَةَ النَّبِيِّينَ، وَصَفْوَةَ الْمُرْسَلِينَ، وَعِتْرَةَ خِيَرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَرَحْمَةُ اللَّه.. أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَمَصَابِيحِ الدُّجَى، وَأَعْلَامِ التُّقَى، وَذَوِي النُّهَى، وَأُولِي الْحِجَى، وَكَهْفِ الْوَرَى، وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَالدَّعْوَةِ الْحُسْنَى، وَحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ وَالْأُولى..».
والمولى الغريب (علیه السلام) ينعم بالرحمة الإلهيّة الواسعة، متنقِّلاً من يدٍ معصومةٍ إلى أُخرى معصومة، لم يبعد عن الكساء وأصحابه، تُظلِّله جلابيب الإمامة، وتغطّيه أردية وأكسية أصحاب الكساء..* * * * *
عاش مع أصحاب الكساء (علیهم السلام) .. مقرَّباً مبجَّلاً مجلّلاً، له حظوة وعناية خاصّة، فامتلك ناصية الأدب، ونهل من ينابيع الحكمة، وأُحيط بالهيبة الربّانية والاهتمام المميَّز..
جاوز القمّة المرجوّة في البشر غير المعصوم بالعصمة الخاصّة، متفيِّئاً ظلال سرادق العزّ الإلهي في كنف (أصحاب الكساء) و(النسب الوضّاء)، مرضيّاً عندهم، ورضاهم -- بالقطع واليقين -- رضا جبّار السموات والأرضين..
ص: 27
فعلمه متّصلٌ بمادّة لا تنضب، ومعينٍ لا ينزف، وغيثٍ منهمر مُنعِشٍ لا ينقطع، لأنّه ينهل من عذب فرات الفيض الإلهي المتدفّق بالعلوم الربّانية المترشّح من أئمة الهدى (علیهم السلام) على الكائنات طُرّاً وعلى البشريّة، ويصدر عن بيوتٍ أَذِن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.. محدود بنظرة المعصوم المباشرة، مظلَّل بسقف الشريعة الفاصلة، محاط بعناية الأئمة الخاصّة، داخل في دائرة الإشراف المباشر والتعليم المركز، يسمع كلام الله في كلّ آناته على لسان أئمة الهدى الميامين، ويتلو الكتاب حقّ تلاوته، راعياً حدوده وأحكامه وألفاظه ومضامينه، فقيهاً يأخذ العلم من معدنه ويرتشف الزلال من منبعه، ملَأ نور حديث الأئمة (علیهم السلام) كيانَه، وسرى الإيمانُ الحقُّ الصُّراح في مشاشه، وتجذّر الدين في كيانه..تعلّم العلم من أُصوله فصار له علامة، وسلك طريق الأدب فعرّق شرع الآل في ذاته، وأضاء نور الإيمان نفسيّته وأرجاء قلبه فشعّ بنور أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) ، إنّه من العترة الطاهرة!
ويكفيه فخراً ونجاحاً وفوزاً وسموّاً وجلالة وهيبة وعظمة وعلماً وحصانة وعصمة أنّه نال رضا أصحاب الكساء (علیهم السلام) ومَن تلاهم من الأئمة النجباء (علیهم السلام) ..
هذا هو الميزان الأعظم الّذي رجح به مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فكلّ رتبةٍ دون هذه الرتبة زيفٌ باطل، وكيلٌ بخس، وظلٌّ زائل، لا يبقى إلّا الحقّ وأهله، ولا يقدح قائلٌ بمن مجّده أهل المجد، ولا ينزل مَن رفعه أهل الرفعة،
ص: 28
ولا يزحزح مكانة من رسخه الراسخون في العلم..
وبعد هذه المكانة السامية والمنزلة الرفيعة والمقام المكين عند أئمّة الحق والدين المنصوبين من ربّ العالمين، نسمع كلام سيّد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء حبيب الله ورسوله وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، يقول فيه ثناءاً لا زال يدوّي في أسماع الزمن ويملأ الدنيا جلالاً وهيبة لهذا الغصن الفارع من سلالة إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، فتكتضّ مدارج الأيام بنياشين الفخر والعظمة ومحامد الأخلاق والخلال..
أيبلغ الإنسانُ رتبةً تؤهّله ليكون ثقة القرآن الناطق والمتكلّم بالوحيوالحقّ، فيكون ثقة ثقة الله، في زمنٍ كلب شحّ فيه الأوفياء وندر فيه المتمسكون بالعروة الوثقى، زمنٍ تسربل أهلُه بالخيانة، واشتملوا بالغدر، وأُشربوا في قلوبهم المنخورة حبَّ العِجل والسامري، وخضعوا لأولاد البغايا، وخشعت أصواتُهم للشيطان، فأصغوا إلى هتوفه منقادين، وأعرضوا عن صوت رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصادح من فم الحسين (علیه السلام) دمِ النبيّ ولحمه ونفسه بالحقّ واليقين؟!
ثقة الإمام الأمين، سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، ما أثقلها وأعسر فهمها وإدراك عمقها، وما أصعب سبر غورها، لو تأمّلها المؤمن العارف بالإمام لفزع منها.. إنّها كلمةٌ تَبهِر الإنسان الذي تشرق أنوار معرفة الإمام والمعصوم في حنايا قلبه..
ثقة الحسين (علیه السلام) .. مسلم..
ص: 29
معتمد الحسين (علیه السلام) .. مسلم..
المبرَّز بالفضل من أهل بيت الحسين (علیه السلام) .. مسلم..
أخو الحسين (علیه السلام) .. مسلم..
«أخي».. هكذا قال عنه خامس أصحاب الكساء (علیه السلام) ..
يعجز الواصف مهما أُوتي من قوّةٍ أن يفسّر هذه الكلمات ويُدرِك معانيها ودلالاتها وأبعادها..
تقييمٌ من الإمام الحسين (علیه السلام) ، لا يقوم لبيان مغزاه الكامل غير الإمامنفسِه!
إنّه إمامٌ معصوم من أصحاب الكساء، لا ينطق عن الهوى، يقول الحقّ وهو أعرف الخلق بالخلق.. إنّه يتكلّم عن الله تعالى!
يكتب له أهلُ الكوفة آلافاً مؤلَّفة، فيهم الشريف والدني، والعظيم والوضيع، والثابت والمتزلزل، والعارف والضال، والوفيّ والخائن المحتال، والمؤمن والدجّال، وكلّ صنوف الرجال.. يؤكّدون للإمام (علیه السلام) -- بالكتاب تلو الكتاب والرسول بعد الرسول -- أنّهم ينتظرونه، وأنّ فيهم جندٌ مجنَّدة.
والإمام يقول لهم بكلمةٍ واحدة: أبعث إليكم أخي وثقتي.. الموثوق به عند الحسين (علیه السلام) مِن كلّ تلك الأُمّة، إنّما هو أخوه وابن عمّه ومعتمده مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ليرى رأيه فيكم، ثم يكتب إليّ..
لقد خوّل الإمام سيّدُ الشهداء (علیه السلام) مسلمَ بن عقيل تخويلاً عظيماً، وكلّفه بمهمّةٍ ثقيلةٍ تتصدّع منها الجبال.. لقد أناط سيّد الشهداء (علیه السلام)
ص: 30
حركته الّتي بشّر بها الأنبياء والأوصياء بما سيكتب له مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .. أنْ يَقدِمَ إنْ قال: أَقدِمْ!!
جعل الإمامُ سيّدُ الشهداء مسلمَ بن عقيل (علیهم السلام) رائدَ قيامه! و«الرائد لا يكذب أهله» كما قال المولى الغريب (علیه السلام) نفسُه..
ثقةٌ معتمدٌ مبرَّز بالفضل بين أهل بيت الفضل، انتدبه معدنُ الفضل لمهمّةٍ معقَّدةٍ ستبقى فاعلةً مؤثِّرة إلى يوم القيامة، يوم يقوم الناس لربّالعالمين..
أرسله إلى أُمّةٍ يُبكَم فيها المتكلّم المنطيق، وينبهر فيها كلّ زفير وشهيق، ويحار فيها اللبيب، ويتلكّأ فيها المقتحم، ويُحجِم فيها المقدام.. خليطٌ متراكم، ومزيجٌ غير متلائم، وقلوبٌ مظلمة متهاوية، وأراواحٌ كأنّها أعجاز نخلٍ خاوية.. فيهم القليل ممّن عرف الحقّ واتّبع الصدق وانتظر الفرج، ليرحل إلى ركب الشهادة..
عرفهم الإمام (علیه السلام) بإمامته وبمعاشرته، وعرفهم مسلم (علیه السلام) بعلم إمامه وبمعاشرته..
خبَرَهم مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وعالجهم.. قاتل معهم وقاتلهم، قادهم بالأمس القريب في الجمل وصفّين، ورأى عن كثبٍ تلوّنَهم ونفاقهم وخديعتهم ومكرهم..
لم يكن مسلم (علیه السلام) غريباً عن الكوفة وأهلِها؛ عاشها وتحسّسها وتلمّسها، وذاق كلّ طعومها، وعرف أفكارها وهواجسها ومثيراتها
ص: 31
وتفاعلاتها..
لقد أرسل إليهم الحسين (علیه السلام) ثقته ومعتمده الخبير العارف، والفقيه العالم، والفصيح البليغ، والخطيب المفوّه، والمجاهد المقاتل، الّذي خبر ساحات القتال وميادين الوغى في أحلك الأيام وأشدّ الظروف وأعنف الفتن..عاش المولى الغريب (علیه السلام) في المجتمع المفتون.. وهو من العترة الطاهرة، أطفالهم لا كالأطفال، وصغارهم لا كالصغار، وشبابهم خير الشباب، وكهولهم خير الكهول.
عاش نكبة السقيفة! وميّز فيها الحقّ، وتمسّك بالعروة الوثقى واثقاً عن علمٍ ومعرفة! لم يُحصِ له التاريخ ولم يذكر له أئمّةُ الصدق حيصةً ولا بيصة..
ثم عاش محنة فرار الأمّة إلى السقيفة، وعكوفِها على عبادة العجل والسامري.. فسكت حين سكت الإمام، ونطق حين نطق الإمام، وسلّم لمن كان سلمهم سلم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وحارب مَن حاربوا..
صبر حين صبروا، ولبد حين لبدوا، وصار حلس داره حينما أرادوا منه ذلك، وفدى نفسه حينما انتدبوه، وهو ندبٌ إذا دعاه الداعي..
سمع آهات عمّه وأبي زوجته وأبيه بحكم العمومة والأُخوة مع سيّد الشهداء (علیه السلام) في السقيفة وبعدها وفي الكوفة.. سال قلبه من مآقيه وهو يرى أمير المؤمنين ومولى الموحّدين (علیه السلام) يأنّ في الكوفة أنين الثكلى ويتمنّى
ص: 32
فراق هذه الأمّة المنكوسة..
عاصر فتنة الجمل، وقاتل راكبة (عسكر) وعُبّادها الوثنين، وكان يومها من قوّاد معسكر التوحيد وعلى ميمنة عسكر أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين..ووقف جبلاً لا تزعزعه العواصف ولا تحركه القواصف يوم صفّين..
رأى بأُمّ عينَيه -- الدعجاوين اللَّذَين يحكيان عينَي رسول الله (صلی الله علیه و آله) -- تقلُّبَ الأدعياء في أحضان الدنيا القذرة، وتلوّنهم وانقلابهم على الدين.. وكان حاضراً في قصّة التحكيم الّتي شوّهت وجه التاريخ وصارت السقيفة الثانية في تاريخ المسلمين..
عاش محنة الإمام المجتبى (علیه السلام) في الكوفة والنخيلة، وثبت رصيناً متيناً متماسكاً مهيباً عارفاً واثقاً عالماً راسخاً في صفّ الموحّدين.. صالح بصُلح الإمام، وسلّم أمره لوليّ الأنام، وأراح سيفه في غمده يوم هجوم الحشرة المؤذية على جنازة حبيب رسول الله الحسن المظلوم، إذ أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) بالتزام وصيّة أخيه وأن لا يقاتل أحداً في تلك الفتن التي أثارتها أُمّ الفتن وقرن الشيطان..
ثم جاء يوم الحسين (علیه السلام) ، وكان لمسلم (علیه السلام) ساعة من ذلك اليوم المشهود! فدخله -- وبغضّ النظر عن التسديد الإلهيّ والإشراف المعصوم -- وهو خزانة واسعة من التجارب الّتي مارسها عبر الأيام الخوالي، وثراءٌ عميق في معرفة المجتمع المبعوث إليه..
ص: 33
يعرف الكوفة بكلّ تفاصيلها.. يعرف جغرافيتها بكلّ تضاريسها، ومداخلها ومخارجها وموالجها ومساربها، ومواضع مياهها وبساتينها، ومحلّاتها ونواديها، وقطائعها ومضايفها، وشوارعها وسككها وأزقتها،وبيوتها ومساكنها، وأماكنها العامّة ومجالسها ومساجدها، وتقسيماتها البلدية وانتشار العشائر على رقعتها وأماكن سكنى كلّ عشيرة وقبيلة وفخذ، يعرف قصورها ودورها وأسوارها وحدودها، ويعرف زوايا قصر الإمارة -- مركز الحكم المتسلّط -- ويعرف خباياه، ويعرف أبواب المسجد الأعظم ومؤدّياتها، فقد عاش فيها زهاء أربع أو خمس سنين مع عمّه أمير المؤمنين (علیه السلام) ، سوى ما يربو على الشهرين أيام قيامه بمهمّة مولاه الحسين (علیه السلام) ، عاش وهو يعلم -- وفق اعتقادنا بالعامل الغيبيّ في قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) والإخبارات المتوالية والمتواترة الواردة فيه -- أنّ له يوماً قريباً مع هذه البلدة ومعالمها وسكّانها.
يعرف الكوفة بأشخاصها وشخصيّاتها، ورجالها وكياناتها، وأحزابها ومجاميعها، وتشكيلاتها العشائريّة وتركيباتها الاجتماعيّة وتشعّباتها العرقية وانقساماتها الطائفيّة وتكتلاتها السياسية وشرائحها البشرية، وأديانها المختلفة وعناصرها المؤتلفة..
يعرف الرؤوس والجماجم، ويصنّف الناس ويميّز بين العرب والأعراب والأعاجم.. له امتدادٌ بين العرفاء، وسابق علمٍ برؤساء الأرباع والأسباع، وله ممارسة وعلاقات مع ما يسمّونهم بالوجهاء وعلّيّة القوم والكبراء..
ص: 34
يعرف ابن زياد معرفةً عميقة، ويعرف أباه وأصله ومنبته وخدمهوحشمه المقرّبين عنده، وسياسته وأخلاقه وسلوكياته وطريقة تعامله..
يعرف الّذين واجهوه من صناديد الكوفة فرداً فرداً، وقد خبرهم واحداً واحداً، لا ينسى لكلٍّ منهم سجلّه وتاريخه ومواقفه، لمس بدقّة وتحسّس برهافةٍ عاليةٍ ألوانهم وأهواءهم وتطلّعاتهم وانغماسهم في الرذيلة وتشحّطهم بأوحال الدنيا الذليلة ولحْسَهم قيء القرود الأموية المخمورة وأجراءها..
يعرف عمرو بن الحجّاج الزبيدي! يعرف شبث بن ربعي! يعرف حجّار ابن أبجر! يعرف شمر بن ذي الجوشن الضبابي! يعرف الأشعث بن قيس! ويعرف محمّد بن الأشعث! وقيس بن الأشعث!
كما يعرف حبيب بن مظاهر الأسديّ، ومسلم بن عوسجة الأسدي، وعابس بن أبي شبيب الشاكري، وعباس بن جعدة الجدلي، وأبا ثمامة الصائدي، وكلّ الميامين الأخيار من شيعة عليّ الكرار (علیه السلام) ..
يعرف هؤلاء، ويعرف كلّ من كان له ذكر أو لم يكن له ذكر أيام تشرّف الكوفة بأقدامه في مهمّة الريادة لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ..
لم يكن بعيداً غريباً عمّا ذكرناه وما لم نذكره -- وهو كثير --، فهو مقدِمٌ على إنجاز مهمّة، ملمٌّ بكلّ تفاصيلها، عارفٌ بكلّ متطلّباتها، محيطٌ بأطرافها، مشتملٌ على معضلاتها، مُطبِقٌ على أرجائها، جامع لكلّ خيوطها، ممتدّ على شبرٍ شبرٍ من مساحتها، خبير بها.. إنّه مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، إنّه خيرة خامس أصحاب الكساء الإمام الحسين (علیه السلام) ، إنّه خيرة ربّ العالمين!
ص: 35
* * * * *
لو تتبّعنا المولى الغريب (علیه السلام) وهو يتحرّك على صفحات تاريخه وما سطّره هو بنفسه المقدّسة على لوحة أيامه المباركة، وتلمّسنا بعض أنحاء تلك الصورة المشرقة الوضّاءة النيّرة اللّامعة، لَطال بنا المقام، بيد أنّه ضروريٌّ لنجعلها لنا مقياساً ثالثاً نميّز به الصورة القاتمة الّتي رسمها الأعداء..
إنّ الصورة الأولى ((1)) للمولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) قد رأيناها صورةً ناصعة، كوّن مكوّناتها مكوّنُ الأكوان والحكيم العلّام بارئ الخلائق ومصوِّر الصور، خلقه على عينه، وجعله غصناً فارعاً خضراً نضراً من تلك الشجرة الزاكية التي نبتت في التاريخ وبسقت في الحرم..
ورأيناها تستقي علومها ومعارفها وسعة اطّلاعها على تفاصيل الشريعة الغرّاء وأخلاقياتها وسلوكياتها وتديّنها وثباتها وقوّتها ونصوعها وشعاعها ونورها ووضوحها من الأئمّة النجباء رعاة الكون ومعلّمي البشر والملائكة..
ورأيناها من خلال مواقفه ومشاهده وكلماته وبياناته وقراراته الحكيمة وصولاته الّتي لا زالت أيام التاريخ تشهد عليها في الجمل وصفين والكوفة..
وهي صورة تنسجم مع النصوص والشواهد والامتدادات التكوينية والتاريخية، وتناغم المعارف الأولية التي تعدّ خزيناً ومادّة أساسيّة عند كلّ مؤمن، وتلتئم مع الشريعة، ولا يستوحش منها المؤمن ولا يمجّها الغيور
ص: 36
ولا ينفر منها الطبع السليم..
وفيها ما يُقنِع المؤمن وغيرَه إذا كان متتبّعاً متأمّلاً منصفاً عاقلاً لبيباً يقرأ التاريخ بتمعّن، إذ أنّ مَن يعرف بصيرة المولى الغريب (علیه السلام) وشجاعته وإباءه وسكينته ووقاره وتدبيره، يعتريه القرف ويجمح به النفور ويصاب بالإحباط حينما يرى الصورة الّتي يرسمها المؤرّخ من خلال سطوره للمولى الغريب!
فإنّ الواقف بين يديه يتطلّع إليه من خلال النصّ التاريخي، فيراه في صورةٍ متداخلة المشاهد، مكدّرة الألوان، باهتة الظِّلال، مرتعشة مموّهة في جميع أرجائها، تتقلّب من أقصى الثبات إلى أقصى التزلزل، ومن الفتوّة وثورة العنفوان والقوّة إلى أشدّ الضعف المُجانِب للمروءة، ترتجّ أحياناً لكبوة وترتجف أُخرى، فلا تقوى على الإمساك على مقبض الحسام، وتترنّح بين الإقدام والإحجام..
صورة تبعث في النفس التشاؤم والتردّد والحيرة والتيه في أزقّة الكوفة، وتتمنّى الإفلات من المصير المحتوم ولو بملازمة مجالس البطّالين وأبناء الأدعياء وإكثار السلام على الأوغاد وهجر الحقّ ومفارقة الأصفياء والأئمة النجباء (علیهم السلام) .. ولات حين مناص، فتتقدّم خطوة وترجع عشرات الخطوات، وتقدم على مضضٍ لتمحو عن نفسها عار «الجبن والفشل» ... على تفصيلٍ أتينا على ذكره في محلّه.
حاشا سيّدي ومولاي وحبيبي ممّا جناه عليه هؤلاء الأوغاد الحاقدون،
ص: 37
الّذين أبوا أن يكتبوا إلّا في البلاطات على أنغام رنين الصفراء والبيضاء وإيقاع ارتجاج بطون البدرات ولمعان ومضات الدنانير وبريق الدراهم، بمدادٍ يفيض عليهم قيحاً من دواة القرود الأموية المتهتّكة الماجنة الحقودة..
وممّا يؤسَف له، بل يحقّ أن تذوب له القلوب وتجري له «هاطلات العيون»، وتحترق المآقي بالدموع وتتقرّح له الجفون، أنّ الكتّاب والمحقّقين من ذوي الفضل والباع والولاء ممّن يُعتَدّ بقولهم ويحسب لكلامهم وينتظر المؤمنون أن يتلقّفوا كلمة الحقّ والفصل من أفواههم أو ترشح به أقلامهم، اعتماداً منهم على هؤلاء الطيّبين المجتهدين الّذين أذابوا شحمات عيونهم وأذبلوا زهرة أعمارهم في التنقيب والتنقير والبحث والتحليل والتفسير وملاحقة الشاردة والواردة في بطون الكتب والمخطوطات..
تجد هؤلاء الكتّاب المؤمنين تتمزّق دفاترهم إذا كتبوا عن المولى الغريب (علیه السلام) ، فهم بين قناعاتهم واعتقاداتهم ووضوح الصورة الأُولى عندهم والبديهيات والمسلَّمات التي لا يبغون عنها حِوَلاً، وبين الصورة المغشوشة والزيف المبثوث في صفحات التاريخ.
فإذا تحدّثوا وفق الصورة الأُولى وهم لا يشكّون فيها ولا يتردّدون، فيمدحون ويثنون بما يعرفونه من عظمة المولى (علیه السلام) وجلاله وجماله وأخلاقه وغير ذلك ممّا ذكرناه آنفاً، كلٌّ يكتب بما آتاه الله من معرفةٍ وقوّة في التعبير.. هذا كلّه ما داموا وقوفاً على ساحل بحر حياة المولى (علیه السلام) ، فإذا أبحروا ركبوا سفن الرواة والمؤرّخين ودخلوا في المقصورات، فلا ينظرونإلّا
ص: 38
من خلال مناظير المؤرّخ وراويه، فيعرضون ما يعرض عليهم، وغاية ما يفعلونه أنّهم يلقون شباكهم فيصطادون حسب اجتهادهم ومقدار خبراتهم ما يرونه الأفضل أو الأهون شرّاً، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
أمّا المحزن المشجي -- وكلامنا يخصّ سيرة المولى الغريب (علیه السلام) -- أنّهم يعرضون الصورتين مستقلَّتَين من دون مقايسةٍ إلى بعضها، فتجد في بداية الكتب وخواتيمها مدحاً وإطراءاً بليغاً في حقّ المولى الغريب (علیه السلام) ، وهو يستحقّه كلّه، ولا زلنا مقصّرين، ولكنّ البحث يتضمّن ما يخجل المؤمن أن ينسبه لنفسه أو لأبيه أو لأحد مقرّبيه!!
ومن العجيب أنّ أكثر الموارد الّتي نقصدها أعرض بعض العلماء والمؤرّخين الأعلام من علماء الشيعة عنها، وتجنّبوا ذكرها في كتبهم، وكان دأب العلماء حينها أنّهم يذكرون في كتبهم خيرتهم، ويسقطون ما لا يرضونه من دون مناقشة تفصيلية يطرحونها على الورق..
ومن الغريب أنّ هذه النكبات تحمل نقضها في نفسها، وتتهافت وتذوي وتذوب وتنكشف بمجرّد ملاحظة أقوال المؤرّخين ومقارنتها ومحاكمتها.
ومن الظريف أنّها لا تُعدّ حلقاتٍ أساسيّة يؤدّي كسرها إلى انخرام سلسلة حركة المولى (علیه السلام) ، بل على العكس، تجدها ثغرةً لا يمكنالاستمرار في بيان أيّام حركته إلّا بعد ردمها والتخلّص منها، فلو حُذِفت تكتمل الصورة.
ص: 39
وإذا استؤصلت لا يلزم منها أيّ استنقاص، ولا استصغار، ولا تهوين، ولا تضييع، ولا طمس ظليمة، ولا إنكار حقّ، ولا منع دمعة، بل على العكس تماماً!
سيّما إذا لاحظنا أنّ الحرب التي حمل رايتها الأمويون ومَن سلّطهم على رقاب المسلمين، لم تنتهِ بعد منذ أن بادروا إلى مواجهة خاتم النبيّين إلى يوم الناس هذا، وستبقى حتّى ظهور المنقذ الأعظم والطالب بدم الحسين (علیهما السلام) والآخذ بذحول الأنبياء والأوصياء والشهداء.
ولم تكن الحرب المفتوحة هذه تنحصر في صورةٍ أو مشهد أو موقف معيَّن، كما أنّها لم تنحصر في زمنٍ من الأزمان..
وقد امتاز الأمويّون عبر التاريخ بالإعلام المضلّل القويّ والحرب النفسية، والتسلّل الماكر إلى قلوب الناس وأفكارهم، وتغذيتهم بالسموم الفتّاكة ذات المنظر الخدّاع، وقد اشتهر كلامهم على الألسن (لله جنودٌ من العسل).
وكانت حربهم الإعلاميّة على سيّد الشهداء (علیه السلام) قويّة ماكرة، تتّسم بالخبث والشيطنة، بحيث صوّرت سبط النبي (صلی الله علیه و آله) وريحانة الرسول وسيّدشباب أهل الجنّة للمغرَّر بهم من السُّذّج في صورة (الخارجي)، وأبدت سكّان سرادق العزّ من مخدّرات الرسالة وعقائل الوحي في مشهد (السبايا)..
وقد جهد الأمويّون في تشويه صورة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين
ص: 40
وأصحابهم الغرّ الميامين (عليهم صلوات ربّ العالمين)، وتقديمهم إلى التاريخ باعتبارهم لا يعرفون من السياسة والتعامل الاجتماعي شيئاً، فيما يرسم لنا قرودَ آل أُميّة وأذنابهم في صورٍ مضلّلة كأنّهم دهاة السياسة وعفاريت التاريخ!
فإذا كان هذا دأبهم مع المعصومين الأبرار الّذين شهد لهم الكتاب والسنّة بالطهارة والعصمة والقدس، فما ظنّك بأنصارهم والمدافعين عنهم والمحامين عن حريمهم؟!!
وربما اضطر العدوّ أحياناً إلى ما يخاله نيلاً من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) عموماً وأنصار سيّد الشهداء (علیه السلام) خصوصاً، لأنّه لا يجد في الإمام مغمزاً ولا مهمزاً، فيحاول الاقتراب من حريمه من خلال التعرّض لأقرب الشخصيّات منه، والسعي في تهديم الأركان الّتي بُنيَت عليها أُسس معسكرات الهدى..
كما جهد الأمويّون في تقديم مسوخهم وجرائمهم في صور حسناء مزيفة خدّاعة، كخضراء الدمن وقشّ على قذر..
وقد استُهدف المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) استهدافاً خاصاً من قِبل الأُمويّين لأسباب معروفة، فحاولوا عرضه في صورةٍ لا تقدح فيهوحده، وإنّما تتعرّض إلى قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد خابوا وضلّوا ضلالاً بعيداً.
فهم يحاولون -- جاهدين خاسئين خائبين -- خدش القيام الحسيني من
ص: 41
خلال رائد القيام، وظنّوا أنّهم إن استطاعوا عرض صورةٍ مشوّهة مغشوشة مهزوزة للرائد الذي اختاره سيّد الشهداء (علیه السلام) وجعله ثقته ومعتمده والمبرّز بالفضل عنده، فإنّهم يستطيعون القول أنّ القيام الحسيني -- والعياذ بالله -- قد أخفق في الخيار الأول ولم يصب في انتخاب الرائد، وتزلّق وارتبك منذ الخطوة الأُولى، وبُني على أساسٍ لا يُعتمَد عليه، وهو بالتالي يتحرّك على خطٍّ يبتعد عن الصواب كلّما تقدّم في المسير، تماماً كالخطّ المنطلق من نقطةٍ تنحرف قليلاً في زاوية ضيّقة جدّاً، بَيد أنّ هذا الخطّ كلّما امتدّ وابتعد عن نقطة الانطلاق يزداد انحرافاً وتتّسع مع تقدّمه فرجة التباعد عن الهدف.. هذا تصويرٌ ينبغي الالتفات إليه، ليتوقّى المؤمن المطالع للتاريخ كلّ موضعٍ فيه خدش أو مساس بساحة قدس المولى الغريب (علیه السلام) ، لأنّه سيؤول عاقبةً إلى الطعن المباشر والخدش الفظيع في مسيرة سيّد الشهداء (علیه السلام) وقيامه.
ويمكن أن نقارن بين الصورتين من خلال مجموعة الدراسات الّتي صدرت سابقاً، ونجد الفرق بينها ضمن هذه الدراسة الّتي تناولت حركة المولى الغريب (علیه السلام) من بعد أن صرعته الطعنة الغادرة حتّى لقاء الله والرحيلإلى الرفيق الأعلى، مروراً بقصر الخبال وما دار بينه وبين ابن زياد من محاججة، وشهادته وصلب الجثمان المقدّس في الكوفة، وإرسال رأسه المقدّس إلى القرد الأموي المخمور وصلبه في دمشق.
* * * * *
ص: 42
لقد تحرّينا الاحتياط، وتقدّمنا في البحث خطوة خطوة كمن يمشي في منطقة ملغومة مظلمة، وقصدنا خدمة أهل البيت (علیهم السلام) ، وعزمنا الدفاع عن حريمهم وقداستهم وكلِّ ما يُنسَب إليهم، فإن وفّقنا في ذلك فهو فضلهم ومنّهم وفيضهم وبركاتهم، وإّلا فنستغفر الله ونسأله أن يعطينا أجر من أحسن عملاً، إنّه عفوٌّ جواد كريم، وهو نعم المولى ونعم النصير.
نرجو من الله السميع العليم أن يتقبّل منّا هذا القليل، وينفعنا به ووالدينا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون ولا خليل، ولا يحرمنا وأزواجنا وذرّياتنا خدمة زين السماوات والأرضين سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) في الدنيا والآخرة، ويحشرنا في مماليك مولانا الغريب وعبيده المرضيّين، ويجعل عملنا وحبّنا واعتقادنا فيما يرضيه ويرضي النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) وذرّيّته الطاهرين المعصومين (علیهم السلام) ، بحقّ مولانا مهيّج أحزان يوم الطفوف وأخته الطيّبة فاطمة المعصومة (علیهما السلام) .
اللّهمّ اغفر لنا ولوالدينا ولأزواجنا وذرّيّاتنا وإخواننا المؤمنين، وعجّل فرج وليّ أمرنا، الطالب بدم الغريب المظلوم حيّاً وشهيداً مسلم بنعقيل (علیهما السلام) ، آمين ربّ العالمين.
السيّد علي السيّد جمال أشرف الحسيني
3 شعبان 1435 ه-
ص: 43
ص: 44
بغضّ النظر عن دوافع المؤرّخ في اختصار الحدث واختزاله أو تفصيله والإسهاب في بيان جزئيّاته، حسب مقتضيات التأليف أو ضرورات البحث أو سياقات الحدث، وربما كان عامداً في ضغط الأحداث أو فكّها انطلاقاً من قناعاته ومعتقداته وتفاعلاته النفسيّة والوجدانية، أو خنوعاً لإملاءات السلطان، وغير ذلك من المسوّغات التي تتحكّم في سيلان دواته وجفافها..
فإنّنا نضطر للتعامل مع النصّ الموجود الواصل إلينا، فإن كان النصّ قابلاً للترميم وإلّا يبقى ذو ملامح خاصّة تميّزه عن باقي النصّوص.والأخبار الّتي تعرّضت لذكر شهادة المولى الغريب (علیه السلام) تنقسم من حيث الإجمال والتفصيل إلى قسمين:
ص: 45
جاء ذكر مصيبة المولى الغريب (علیه السلام) وشهادته في المصادر القديمة مقتضباً مختصراً مضغوطاً في كلمةٍ أو كلمتين لا تتعدى التعبير ب- «فقتله» أو ف-- «أمر بقتله» أو «فقتلهما» يعني المولى الغريب وهاني بن عروة (علیهما السلام) ، وهكذا.
قال ابن سعد في (الطبقات): فأخذ عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فقتلهما جميعاً وصلبهما ((1))..
وقال اليعقوبي: فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجرّ برجله في السوق ((2)).
جاء في بعض المصادر القديمة شيءٌ من التفصيل في عرض الوصيّة، من دون ذكر أيّ محاججة أو مناظرة بين المولى الغريب (علیه السلام) وابن مرجانة، واكتفى بعضهم بالتعبير عن هراء ابن الأمة الفاجرة في كلمةٍ أو كلمتين دون ذكر ردّ المولى الغريب (علیه السلام) .وبدأ البلاذري بالتفصيل شيئاً ما، وتبعه الآخرون، وسواءً اختصر القوم أو أطنبوا، فإنّك لا تكاد تمرّ بواحدٍ منهم إلّا أصابك الامتعاض وآلمك اللسع واللذع والقرص والغمز في موطنٍ أو أكثر، فالسير مع هؤلاء القوم مزعج
ص: 46
مخيف، وربما يكون بعض الأحيان سخيف، لأنّك لا تملك إلّا أن تتّخذ غاية الحيطة والحذر، وتعيش حالة التوجّس وترقّب المباغتة والمفاجأة والخطر، لا تدري متى تثب عليك الدواة لترشّك بسمّها الناقع وذعافها المدمّر، فالله المستعان وعليه التكلان، وبأهل بيت رسوله الاستجارة وفي رحالهم الأمان، ثبّتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأخذ بأيدينا إلى سبل السلام، وسدّدنا ووفّقنا لاختيار ما فيه رضاه ورضا آل رسوله الكرام، صلّى الله عليهم أجمعين ولعن أعداءهم من الأولين والآخرين.
ص: 47
ص: 48
لقد ذكرنا في كتاب (مسلم بن عقيل (علیهما السلام) -- الحرب الأخيرة) تفاصيل قتال المولى الغريب (علیه السلام) ، وأنّه قاتلهم قتال الأبطال، وصار مثلاً يتبجّح به كلّ الفرسان مدّة عمر الدنيا وطول التاريخ وعبر العصور والأزمان، وأنّه شتّتهم بسيفه، وجعلهم أشلاء متناثرة، ولطش رذاذ لحومهم على الجدران، ومشى على جماجمهم، وزرع سككهم خوفاً ورعباً، وسلب أرواح صناديدهم بصارمه، فجعلهم يلوذون منه بالسواتر وسطوح المنازل، ويتوسّلون به ليقبل الأمان، وهم يتمنّون منه القبول ليأمنوا من سطوته، إذ كان يأخذ بعنق أحدهم فيرمي به فوق السطح، ولم ينجهم منه إلّا مقادير الحكيم العليم المنان.
فقد قاتل المولى الغريب (علیه السلام) وأبلى بلاءاً حسناً وبذل غاية المجهود،
ص: 49
فكظّه الظمأ، وأخذه النزف، وأثخنته الجراحات، فكانت ضربة الأحمري الجبان وطعنة الظهر والخاصرة الّتي أردته صريعاً إلى الأرض، ولولا ذاك لما كان لبطل هاشم وفارس عدنان قرين في الكوفة كلّها بما فيها من جيوشٍ وعساكر ومقاتلين.
وهذا العارض متوقّع في ميادين الحرب وساحات الوغى في الوقائع العادية، فكيف بمن قاتل وحده بلا ناصرٍ له ولا معين ولا مددٍ له ولا مغيث، فلو أنّ مقاتلاً بطلاً أُصيب بما أُصيب به المولى الغريب (علیه السلام) لَسارع أعوانُه وأهل عسكره لنجدته وتوثّب أصحابه لاستنقاذه من براثن الأعداء، ولو كان أبو الفضل العباس (علیه السلام) حاضراً عنده لحمى له ظهره وأبعد عنه الذئاب، وحمله الأنصار وأهل البيت ولم يبق أسيراً بيد الأعداء.
بأبي المستضعف الغريب، قاتل وحده، فلمّا هوى إلى الأرض صريعاً لم يجد إلّا الأسنّة والسيوف تحوطه، والأعداء قد احتوشوه من كلّ جانب ومكان، تماماً كما أحاطوا بسيّد الشهداء (علیه السلام) كالحلقة واحتوشوه بعد أن ترجّل عن فرسه.
ولمّا قضى للعُلى حقَّها
وشيّدَ بالسيف بُنيانَها
ترجّل للموت عن سابقٍ
له أخلَتِ الخيلُ ميدانها
كأنّ المنيةَ كانت لديه
فتاةً تواصلُ خِلصانها
فبات بها تحت ليل الكفاح
طروبَ النقيبةِ جذلانهاوأصبح مُشتَجِراً للرماح
تُحَلّي الدما منه مِرّانها
ص: 50
عفيراً متى عاينته الكُماةُ
يختطفُ الرعبُ ألوانها
فما أجلت الحربُ عن مِثلِه
صريعاً يجبِّنُ شجعانها ((1))
فحكم القدر جارٍ، وإذا اختار الله عبده للقائه جرت عليه المقادير، كما جرت على أمير المؤمنين (علیه السلام) مجبِّن الشجعان ومجندل الأبطال، وأشجع الخليقة طرّاً هو وأخوه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فاغتاله أشقى الأولين والآخرين.
ولطالما سمعنا في التاريخ أخبار الأبطال الّذين صالوا وجالوا وحطّموا وهشّموا وقاتلوا فقتلوا أو أسروا، وقد حدّثنا التاريخ عن حالات أسرٍ وقعت في كربلاء لأبطال من صناديد معسكر التوحيد.
فليس في الأسر -- بعد أن بذل الفارس جهده وأباد عسكر عدوّه -- بأس، ولكنّ العيب في الرضا بتعبير المؤرّخ «فأمكن من يده»، والعيب في أن يرضى المؤمن للمولى العظيم ما لا يرضاه لنفسه، ويستسيغ الأخبار الّتي تصوّره فريسةً قريبة المنال سهلة الوقوع في فخاخ الخدع والمكر والاحتيال.
قال ابن سعد: وجاء الليل، فهرب! مسلم حتّى دخل على امرأةٍ من كندة يقال لها: طوعة، فاستجار بها، وعلم بذلك محمّد بن الأشعث بن قيس، فأخبر به عبيد الله بن زياد، فبعث إلى مسلم فجيء به، فأنّبه وبكّته، وأمر بقتله ((2)).
ص: 51
في هذا النصّ الشاذّ الغريب الذي تفرّد به ابن سعد -- حسب فحصنا --، وقد ناقشناه فيما مضى من دراسات بشكل مفصّل، وكشفنا عواره، لا ذكر للحرب ولا القتال، بيد إنّه يفيد أنّ انتقال المولى (علیه السلام) إلى القصر وقع في الليل.
وهذا أيضاً من مفارقات الخبر ومخالفاته للمشهور المتّفق عليه، فلا يُلتفَت إليه.
أمّا باقي النصوص المتوفّرة لدينا فإنّها لم تذكر ساعةً معيَّنة لبداية الحرب ولا نهايتها، ولم تحدّد بالضبط متى ترجّل المولى الغريب (علیه السلام) عن فرسه ووقع صريعاً بالطعنة الغادرة.
ويمكن أن يستفاد ذلك من بعض المصادر من خلال تحليل النصّ، إذ تشير إلى وقتين:
قال ابن سعد في ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من (الطبقات)، والذهبيّ في (تاريخ الإسلام): وجاء الليل، فهرب مسلم حتّى دخل على امرأةٍ من كندة يقال لها: طوعة، وعلم بذلك محمّد بن الأشعث بن قيس، فأخبر به عبيد الله بن زياد، فبعث إلى مسلم فجيء به، فأنّبه وبكّته، وأمر بقتله ((1)).
ص: 52
يلاحَظ من خلال سياق كلامه أنّ الأحداث وقعت متتالية، وأنّ أسره كان في الليل.
وكذا يمكن الإفادة من عبارة البلاذري في (الأنساب)، قال: فأتى (ابن طوعة) عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بذلك، وكان ابن زياد -- حين تفرّق عن ابن عقيل الناس -- فتح باب القصر، وخرج إلى المجلس فجلس فيه، وحضره أهل الكوفة، فجاء عبد الرحمان بن محمّد بن محمّد ابن الأشعث إلى أبيه وهو عند ابن زياد، فأخبره خبرَ ابن عقيل، فأعلم محمّد بن الأشعث ابن زياد بذلك، فوجّه ابن زياد من الوجوه مَن يأتيه به، وفيهم محمّد بن الأشعث ((1)).
يفيد هذا النصّ أنّ التوجّه نحو المولى الغريب (علیه السلام) كان بعد تفرّق الناس عنه، وإنّما كان ذلك عند الغروب، باتفاق المصادر كما ذكرنا ذلك مفصلاً في (معركة القصر).
ورد في جملة من المصادر تعبير: «وأصبح ابن تلك العجوز ...»، أو: «فلمّا أصبح ...» ((2))، وفي التعبير إشارةٌ إلى أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد
ص: 53
بات ليلته في بيت طوعة -- كما هو المشهور --، فلمّا أصبح الصباح جرى ما جرى عليه من إرسال العسكر.
وربّما كان في فقرةٍ من رجز المولى الغريب (علیه السلام) «البارد سخناً مرّاً» -- على احتمالٍ من تفسيره المذكور في محلّه من (الحرب الأخيرة) -- أنّ ذلك كان في الصباح الباكر.
ومتابعة النصوص والتأمّل فيها يمكن أن يُفيد أنّ كلّ ما جرى من هجومٍ إلى حين الأسر والانتقال إلى القصر والشهادة لم يكن في وقتٍ حان فيه وقت صلاة الفريضة، ولو كان لصلّاها المولى (علیه السلام) ، ولكانت قاطعاً لسير الأحداث ممّا يثير الراوي ويضطرّه إلى نقل المشهد.
فربما كان كلّ ذاك قد جرى ما بين الصبح إلى ما قبل صلاة الظهر، والله العالم!
ثمّة طائفتان من الأخبار تحدّثت عن تكتيف المولى الغريب (علیه السلام) :
قال البلاذري بعد أن روى قصّة إرسال المجهولين في طلبالمولى، وأنّه طلب العفو!! فقالوا أنّهم لا يملكون ذلك، فخرج معهم المولى (علیه السلام)
ص: 54
طواعية! فأُدخل على ابن الأمة الفاجرة:
فلمّا رآه أمر به فكُتِف، وقال: أجئت يا ابن حلية لتنزع سلطاني؟ وأمر به فضُربَت عنقه ... ((1)).
وقال الطبريّ -- في نفس السياق -- : فأمر به فكُتِف ... ((2)).
وقد ناقشنا هذين الخبرين مناقشةً مستفيضة في كتاب (بين المسجد الأعظم ودار طوعة) وكتاب (الحرب الأخيرة)، فلا نعيد.
في (المنتخب) للطريحي: فأوثقوه، وأخذوه إلى ابن زياد ((3)).
وفي (ينابيع المودّة) للقندوزي: فأوثقوه، وآتوه إلى ابن زياد ((4)).
أمّا باقي المصادر الّتي مررنا بها -- على كثرتها --، لم نجد فيها أنّ أحداً أوثق كِتاف المولى (علیه السلام) .
والتأمّل في النصوص يورث الاطمئنان بأنّ القوم قد طارت أعينهم رعباً، وفرّت قلوبهم من الصدور خوفاً وهيبة ورهبة من سطوة البطلالهاشمي وصولته وجلالته وعظمته، فجبنوا عن الاقتراب منه وهو صريع على الأرض إثر الطعنة الغادرة، بل حتّى بعد أن تكاثروا عليه، وسلبوه إذ
ص: 55
سلبوه وهم بين إقدامٍ وإحجام وكرّ وفرّ، وأحاطوا به وهم في غاية الحذر.
هذا بالإضافة إلى أنّه كان مثخناً مجهداً بالنزف والظمأ، ولو كان فيه طاقة لما وصلوا إليه، فهم مطمئنّون أنّه لا يقاتلهم بعد أن صرعته الطعنة الأخيرة، فلماذا يُكتَف؟!
أجل، قد يقال: إنّهم لما كانوا مستوحشين فرقين خائفين وجلين من صولته، فاضطرّوا أن يجتمعوا عليه فيكتفوه، ليأمنوا ويطمئنّوا.
فما أجلت الحربُ عن مِثلِه
صريعاً يُجبّنُ شجعانها
كما أنّ عادة العدوّ الرعديد الجبان والغادر الخوّان إذا أمن بطَشَ وتجبَّر وارتكب ما تأباه النفوس البشريّة، وليس فيما يفعله الأرجاس منقصة ولا صغار على الأصفياء الأبرار، ما دام العذر قائماً والكرامة لم تخدش والشجاعة لم تطمس معالمها، فقد كتفوا مولى الثقلين (علیه السلام) ، وهو وأخوه النبي (صلی الله علیه و آله) وأولاده الأئمة الميامين (علیهم السلام) أشجع مَن خَلَق الله، فصبر بعد أن قيّدته الوصيّة، ولولا الوصيّة لروّى أبو الحسن والحسين سيفَه من دمائهم، ولفاجأ فيلوق جهنم بهم وقذفهم في توابيتهم قبل الأوان، ولولا أنّهم كانوا يعلمون ذلك لما تجرؤوا على ما فعلوا قطّ.وكذلك المولى الغريب والبطل الهاشمي مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، إذ قيّده بذل غاية المجهود، وأوثقه الظمأ، وبضّعت أعضاءه الجراح، ولولا ذاك لسقى آخرَهم بكأس أولهم، وجعلهم أحاديث ومزقّهم كلّ ممزّق.
وربما كان أمر اللعين -- وفق الطائفة الأُولى -- وإقدام الأنذال -- وفق
ص: 56
الطائفة الثانية -- يتضمّن بعداً آخر يقصده الملاعين، وهو الإمعان في أذى المولى الغريب (علیه السلام) ، ومقاصد أُخرى لا نجرؤ على كتابتها والإشارة إليها بأكثر من العبارة السابقة.
«لقد صرّحت كتب التاريخ بجراحات المولى الغريب (علیه السلام) إجمالاً، وهي جراحات عظيمة، فقال البلاذري والطبري: فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأسرع في شفته السفلى فنصلت ثنيّتاه..
وقال الدينوري: فرمي، فكُسِر فوه..
وقال ابن أعثم والسيّد ابن طاووس: فطعن من ورائه طعنة، فسقط إلى الأرض..
وقال الطبري: وقد أُثخن بالحجارة..
وقال الطريحي والقندوزي: وصار جلده كالقنفذ من كثرة النبل.
إنّ هذه العبارات تتحدّث عن الجراحات العميقة الحاسمة الّتي أدّتإلى سقوطه إلى الأرض، فهم يتكلّمون عن الحصيلة النهائية: (أُثخن بالحجارة)، و(صار جلده كالقنفذ من كثرة النبل).
أمّا عدد الحجارة الّتي أصابته فجرحته، وعدد النبال الّتي جعلته كالشجرة التي لا تحصى أغصانها، فهذا ما لم يحصه لنا الراوي، ولا يقدر
ص: 57
على إحصائه.. (فهل سلِمَت فيه من جارحة؟!)» ((1)).
فالجراحات لم تكن في ناحيةٍ واحدة أو عضو واحد، بل كانت مستوعبةً لبدنه الشريف، وكان من بين جميع تلك الجراحات جُرحان نازفان عميقان، يستشعر القارئ للتاريخ أنّهما أجهدا المولى (علیه السلام) وصرعاه، وهما ضربة الأحمري والطعنة الأخيرة، وقد رأينا خسّة القوم ونذالتهم ولؤمهم، حتّى امتنعوا أن يسقوه ماءاً وهو يستسقي، وسلبوه سلاحه وفرسه وعمامته!!
فلا نشكّ -- حسب معرفتنا بسلوكيّات القوم -- أنّهم تركوا جرح المولى (علیه السلام) مفتوحاً نازفاً لم يطبَّب ولم يضمَّد، بل زادوا وضاعتهم وحقارتهم وجنايتهم لو كانوا قد أوثقوه كتافاً فمنعوه أن يضمّ جرحه بيده، أو يمسح الدموع والدماء الممتزجة عن وجهه حينما بكى سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهله المقبلين!
فكم قاسى المولى الغريب (علیه السلام) من الدماء السائلات من فمه الشريف،وهو يلفظها لئلّا تنزل إلى جوفه؟
وكم عانى من شفته العليا الّتي قطعها السيف؟ وهل كانت معلَّقةً أو أنّها سقطت؟
وكم عانى من ثناياه وهي تتدلّى على شفته؟
وكم كان الكلام صعباً والتلفّظ عسيراً بعد هذه الفاجعة؟
ص: 58
وكم عانى المولى الوحيد (علیه السلام) من الطعنة الّتي مزّقت أحشاءه؟
من يستطيع أن يرسم للمولى الغريب (علیه السلام) صورةً في أعماق قلبه، فيرى وجهه المضمّخ بالدماء، ونورَه يشعّ من غرّته الوضاءة، وقد ألمّ به الجهد وأذبل عوده الظمأ.
عجب والله! بلد بضخامة الكوفة وسعتها وترامي أطرافها وكثافة سكّانها، تعجز أن تفرز في تلك الساعة من يدنو من هذا البطل الغريب (علیه السلام) ، فيواسيه في نفسه، ويطبّب له جراحه ويشدّها؟! لا أن يقاتل دونه ويدفع عنه!
لك الله يا غريب كوفان! يا ليتنا كنّا معك.
ص: 59
ص: 60
تنقسم الأخبار الّتي تحكي حركة المولى الغريب (علیه السلام) نحو القصر في طلعته الأخيرة إلى مجموعتين:
قال ابن سعد: ... وعلم بذلك محمّد بن الأشعث بن قيس، فأخبر به عبيد الله بن زياد، فبعث إلى مسلم فجيء به، فأنّبه وبكّته، وأمر بقتله ((1)).
وقال البلاذري: فدخل (ابن الأشعث) عليه، وهو عند امرأةٍ قد أوقدت ناراً فهي تغسل عنه الدم، فقالوا له: انطلق إلى الأمير.
فقال: عفواً!!!
ص: 61
قالوا: ما نملك ذلك.
فانطلق معهم، فلمّا رآه أمر به فكتف.. ((1)).
وقال الطبري -- في إحدى رواياته -- :
قال ابن زياد لرجلين: انطلقا فأْتِياني به. فدخلا عليه، وهو عند امرأةٍ قد أوقدت له النار فهو يغسل عنه الدماء، فقالا له: انطلق، الأمير يدعوك.
فقال: اعقدا لي عقداً!
فقالا: ما نملك ذاك. فانطلق معهما حتّى أتاه، فأمر به فكتف.. ((2)).
وقد ناقشنا هذه السخافات الهابطة الّتي تشبه الهذيان أكثر ممّا تشبه كلام الإنسان السويّ في كتاب (الحرب الأخيرة)، فلا نعيد.
هذه المجموعة من الأخبار هي المجموعة الّتي اتفق عليها المؤرّخون عدا من ذكرناهم في الطائفة الأُولى، بل روى أيضاً من مؤرّخي الطائفة الأُولى المجموعة الثانية كأصل وروى المجموعة الأُولى كقول.
كما أنّ ابن قتيبة واليعقوبي -- اللّذَين لم يرويا أحداث دار طوعة ومعركة القصر -- اتّفَقا على أنّ المولى الغريب (علیه السلام) ذهب محاطاً بالأعداء الجبناء بعد أن قاتلهم.
ص: 62
روى ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) قائلاً: ... وأرسل جماعة إلى مسلم بن عقيل، فخرج عليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتّى أُخرِج وأُسِر.. ((1)).
وروى اليعقوبي في (التاريخ) قائلاً: ووجّه -- أي: ابن زياد -- بالشرَط يطلبون مسلماً، وخرج وأصحابه وهو لا يشكّ في وفاء القوم وصحّة نيّاتهم! فقاتل عبيد الله، فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجرّ برجله في السوق، وقتل هانئ بن عروة لنزول مسلم منزله وإعانته إياه.. ((2)).
أمّا باقي المصادر فسيأتي الكلام عنها مفصَّلاً إن شاء الله تعالى.
أغفلت جميعُ المصادر الّتي توفّرت لدينا الفترةَ الّتي مشى فيها المولى الغريب (علیه السلام) من ميدان القتال إلى قصر الخبال، فلم تحدّثنا عمّا جرى في الطريق، وكيف انتقل المولى الغريب (علیه السلام) ؟
هل أحاط به عددٌ من كبراء القوم وقيادات عسكر السقيفة الّذين كانوا في صراع مرير معه منذ الصباح؟
هل اجتمع الناس كبيرُهم وصغيرهم ذكرُهم وأنثاهم ليتفرّجوا على البطل الّذي قتل صناديدهم وأرعب رجالهم؟
ص: 63
هل ارتفع التكبير والتهليل والضجيج والصراخ، ونُفِخ في الأبواق وقُرِعت الطبول وتجاوبت الأكفّ بالتصفيق؟
هل اكتنفت المولى الغريب (علیه السلام) عيون المعجَبين أو رمته عيون الشامتين بنظراتها الوقحة؟
هل تراكضت الغوغاء بين يديه وخلفه؟
هل خيّم الصمت على الموقف من الخوف والترقّب وانتظار المجهول بالنسبة له ولهم؟
هل تعجّل ابن الأشعث (لعنه الله) المسيرَ إلى القصر تحسّباً لأيّ طارئ أو هجوم؟
هل تعرّض أحد الخبثاء المنكوسين للمولى (علیه السلام) بسوء؟
هذه الأسئلة وأسئلةٌ أُخرى كثيرة ترك المؤرّخ الإجابة عليها، لأيّ غرضٍ من أغراضه أو سببٍ من الأسباب التي يمكن أن يعتذر بها.
عرفنا فيما سبق ((1)) من دراساتٍ أنّ دار طوعة لم يكن قريباً جدّاً من المسجد الأعظم، وقد جرت الحرب الأخيرة في فناء دارها، وقد قطع المولى الغريب (علیه السلام) المسافة بين ميدان القتال وقصر الخبال بعد أن وضعتالحرب أوزارها وأحاطت الثعالب بالأسد الطالبي، وهو جريحٌ مثخَنٌ قد
ص: 64
مزّقت السهام والرماح أحشاءه، فكيف نُقِل إلى قصر الخبال؟
قال الدينوري: وأُخِذ، فأُتي ببغلةٍ فركبها، وصاروا به إلى ابن زياد ((1)).
وقال المسعودي: وحملوه على بغلةٍ وأتوا به ابن زياد.. ((2)).
وكذلك قال غيرهما.
ويمكن الاستفادة من هاتين العبارتين عدّة إفادات:
يفيد الدينوريّ والمسعودي دون سواهما من المؤرّخين الّذين أغفلوا الحديث عن هذا المقطع من حركة البطل الهاشمي: أنّ المولى الغريب (علیه السلام) انتقل إلى القصر راكباً ولم يذهب ماشياً، وقطع المسافة على ظهر بغلةٍ أُتي بها، لا على فرسه الّذي سُلب ولا غيره من الأفراس المشاركة في القتال.
يبدو أنّ تعبير المسعوديّ لا يباين عبارة الدينوري، إذ قال الأوّل: «وحملوه»، وقال الآخر: «فركبها»، فالمسعوديّ تحدّث عن نقله على ظهرالبغلة مقابل الحمل على غيرها من المطايا أو المشي، والدينوري تحدّث عن مباشرة الركوب، فأخبر أنّ المولى الغريب (علیه السلام) ركب بنفسه ولم يُركِبه أحد.
ص: 65
البغلة حيوانٌ له خصوصيّاته؛ فهو سيّء الخلق، لا يحتفل براكبه، وربما تعمّد أذاه ورمى به من على ظهره وهجم عليه ((1)).
وهو حيوان ثقيلٌ في الحركة، يمشي كما يحلو له، لا يعرف بالسرعة والمناورة والمبادرة في مفاجآت الطريق، لذا لا يُركَب في الحروب ولا يُستَخدم في الميادين إلّا لنقل المؤن وإيصال المدد، لأنّه لا يستجيب للفارس في الكرّ والفرّ.
قيل لأمير المؤمنين (علیه السلام) : ألا تركب الخيل وطلّابك كثير؟ فقال: «الخيل للطلب والهرب، ولستُ أطلب مُدبِراً ولا أنصرف عن مُقبِل». وفي رواية: «لا أكرّ على مَن فرّ، ولا أفرّ ممّن كرّ، والبغلة تزجيني»، أي: تكفيني ((2)).والبغلة -- في العرف الاجتماعي -- لا تعدّ مركباً محترماً، ولا تليق بالفارس إلّا إذا كان بالمعنى الّذي ذكره أمير المؤمنين (علیه السلام) .
ربما كان اختيار البغلة لنقل المولى الغريب (علیه السلام) إلى القصر يكشف عن الدواعي التالية:
ص: 66
تعمّد الخبيث ابن الخبيث ابن الأشعث طعن المولى الغريب (علیه السلام) طعناً معنويّاً يؤذيه من حيث إحضاره مطيّةً دون شأن الأسد الطالبي، وفات الأحمق اللّعين أنّ مثل المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لا يرفع أو يضع من شأنه ما يركب وما يلبس وما يأكل، فشأنه من الله ومن ساداته الأئمة الكرام (علیهم السلام) ، وكرامة الله وكرامة الأئمة (علیهم السلام) لا تقاس بمركوبٍ وملبوسٍ وبناء شامخ وما شاكل، وقديماً قيل: المكان بالمكين.
بل إذا ركب السيّد مطيّة دون شأنه اجتماعياً كانت سبباً لرفعته، فمَن تواضع لله رفعه، تماماً كما صار ركوب البغلة المذموم في الحروب مفخرة لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وكشفت عن صورةٍ من صور شجاعته.
في حِكَم أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ركوب الخيل عزّ، وركوبالبراذين لذّة، وركوب البغال مهرمة، وركوب الحمير مذلّة» ((1)).
وهكذا هو الواقع، فإنّ ركوب البغلة غير مريح ومتعب ومهرمة، وذلك للإنسان السالم الصحيح، فكيف للجريح المجهد؟
فربما قصد الخبيث البغيّ أذى المولى الغريب (علیه السلام) ، وهؤلاء المخنَّثين يتفنّنون في أذى الأبرار من عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، ويتحرّون الجزئيّات والتفاصيل
ص: 67
الّتي قد تغيب عن مردة الشياطين وإبليس نفسِه.
لقد سُلب سلاح المولى الغريب (علیه السلام) وفرسه، وأُثخن بالجراح، فأتوه ببغلة، تحسّباً وحذراً من المولى (علیه السلام) ، فلو أنّه ركب فرساً فربما تمكّن بعد استراحةٍ من لملمة جراحه وإعادة الكرّة عليهم، فأين يفرّون إذا كان على ظهر فرس؟ أمّا البغلة فإنّها لا تنفع في مثل هذه المواضع.
النصوص الواردة تفيد أنّ المولى (علیه السلام) نُقل من ميدان القتال إلى القصر فوراً، غير أنّ ابن قتيبة انفرد بعبارةٍ تفيد أنّه بات ليلةً قبل أن يدخل على ابن زياد، حيث قال -- بعد أن نقل القتال والأسر والاستسقاء -- : فلمّا أصبح دعابه عبيد الله بن زياد وهو قصير، فقدّمه لتضرب عنقه.. ((1)).
فقوله: «فلمّا أصبح» بعد نقل مجريات الأحداث على التوالي، يفيد أنّه (علیه السلام) بقي بقيّة اليوم الّذي انتهت فيه الحرب ووقع جريحاً، ثمّ مضت عليه اللّيلة بتمامها، فلمّا أصبح ابن الأمة الفاجرة دعا به!!
وهو كما ترى شاذٌّ مخالف للمتّفَق عليه، والله العالم.
ص: 68
سمّى الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) قصر الإمارة في الكوفة بقصر الخبال.
عن الأصبغ بن نباتة: أنّ عليّاً لمّا دخل الكوفة قيل له: أيّ القصرَين نُنزِلك؟ قال: «قصر الخبال لا تنزلونيه»، فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي ((1)).
وقد قامت جدران القصر منذ أمدٍ بعيد، وشهدت بلاطاته وأرجاؤه أحداثاً جساماً، إذ سكنه الطواغيت، وعمّر زماناً طويلاً، فشهد عصوراً متتالية، ولا زالت أطلاله قائمة إلى اليوم.
فكانت من ذكرياته ما رواه الزرندي في (درر السمطين) مسنداً وغيرُه:
عن عبد الملك بن عمير قال: لقد رأيتُ في هذا القصر عجباً -- يعني قصر الإمارة بالكوفة --، دخلتُ على عبيد الله في بهو على سرير، والناسعنده سماطان، وعلى يمينه ترس عليه رأس الحسين بن علي.
ثمّ دخلتُ على المختار في ذلك البهو على ذلك السرير، والناس
ص: 69
عنده سماطان، وعلى يمينه ترس عليه رأس عبيد الله بن زياد.
ثمّ دخلتُ على مصعب بن الزبير في ذلك البهو على ذلك السرير، والناس عنده سماطان، وعلى يمينه ترس عليه رأس المختار.
ثمّ دخلت على عبد الملك بن مروان في ذلك البهو على ذلك السرير، والناس عنده سماطان، وعلى يمينه ترس عليه رأس مصعب بن الزبير.
وفي روايةٍ أُخرى: أنّ عبد الملك بن عمير أخبر بهذه القصّة عبد الملك ابن مروان حين رأى رأس مصعب على يمينه، فقال له عبد الملك : لا أراك الله الخامس، وقام من السرير فحوّل عنه، وأمر بهدم الإيوان ((1)).
وكانت لأبوابه وأسواره شهادات وذكريات خاصّة به، وقد حدّث أمير المؤمنين (علیه السلام) عن مستقبل أبوابه، كما ورد في الخبر عن الأصبغ بن نباتة قال:
خرجنا مع أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو يطوف بالسوق يأمر بوفاء الكيل والميزان، وهو يطوف إلى أن انتصف النهار، مرّ برجلٍ جالس، فقام إليه فقال له: يا أمير المؤمنين، مُر معي إلى أن تدخل بيتي تتغدّى عندي وتدعولي، وما أحسبك اليوم تغدّيت. قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «على أن لا تدّخر ما في بيتك، ولا تتكلّف من وراء بابك». قال : لك شرطك. ودخل
ص: 70
ودخلنا، وأكلنا خبزاً وزيتاً وتمراً.
ثمّ خرج يمشي حتّى انتهى إلى قصر الامارة بالكوفة، فركض برجله الأرض فزلزلت، ثمّ قال:
«وأيم الله لو علمتم ما هاهنا، وأيم الله لو قام قائمنا لأخرج مِن هذا الموضع اثني عشر ألف درعٍ واثني عشر ألف بيضة لها وجهات، ثمّ ألبسها اثني عشر ألفاً من ولد العجم، ثمّ يأمر بقتل كلّ مَن كان على خلاف ما هم عليه، وأنّي أعلم ذلك وأراه كما أعلم اليوم وأراه» ((1)).
وشهدت أبواب القصر مصيبتين عظيمتين:
لا نريد الدخول في تفاصيل هذه المصيبة العظيمة، فإنّ لها موضعاً آخر، وإنّما نشير إلى عنوانها فقط، إذ شهد القصر وشهدت أبوابه وقوف الإمام سيّد الكائنات في عصره زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) وعمّته فخر المخدّرات (علیها السلام) وباقي النسوة والأطفال على باب القصر، ودخولهمإلى مجلسٍ «ما بارح اللّهو والخمرا»..
وشهد حمل الرؤوس المقدّسة، بما فيها رأس أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله) وسبطه وحبيبه الحسين (علیه السلام) ، وأخيه العباس (علیه السلام) ، وباقي رؤوس أهل البيت والأنصار (علیهم السلام) .. يا لَها من مصيبة!
ص: 71
وقف المولى الغريب (علیه السلام) على باب القصر جريحاً مكدوداً في ذات الله، تنزف منه الدماء، وقد كظّه العطش وفتّت كبده بعد حربٍ عظيمةٍ خاضها مع الأوغاد.
قال ابن كثير في (البداية والنهاية): ولمّا انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذا على بابه جماعة من الأُمراء من أبناء الصحابة ممّن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذَن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضّب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مثخنٌ بالجراح، وهو في غاية العطش ... ((1)).
ولولا الجراحات والعطش لما استطاع أحدٌ منهم الدنوّ منه والاقتراب، ولما وقف على باب القصر تحوطه الأعداء، ولكنّ المقادير تجري، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
تنقسم الأخبار الّتي تحدّثت عن دخول المولى الغريب (علیه السلام) على ابن زياد إلى ثلاثة أقسام:
لم يذكر أكثر المؤرّخين وقوفاً أو انتظاراً للمولى (علیه السلام) على باب القصر،
ص: 72
منهم:
ابن سعد ((1))، وابن قتيبة ((2))، والبلاذري في (أنساب الأشراف) ((3))، والدينوري في (الأخبار الطِّوال) ((4))، واليعقوبيّ في (تاريخه) ((5))، وابن أعثم في (الفتوح) ((6))، وابن عبد ربّه في (العِقد الفريد) ((7))، وابن حبّان في (الثقات) ((8))، والسيّد في (اللهوف)، وغيرهم ممّن تبعهم من المتأخّرين.
ذكر المسعوديّ خبر استسقائه (علیه السلام) على باب القصر، من دون أن يفيد الوقوف.
قال: فلمّا صار مسلم الى باب القصر نظر الى قلّة مبردة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو الباهلي..
ثمّ ساق الحديث إلى أن قال: ثم أُدخل الى ابن زياد ((9)).
ص: 73
وفعل أبو الفرج الأصفهاني ((1)) مثل ما فعل المسعودي بعبارةٍ قريبة منه.
وأفاد الشيخ المفيد في نصّه ما يُشعِر بوقوفه على الباب حتّى يخرج الإذن، فقال -- بعد أن نقل خبر استسقائه -- : وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه ((2)).
وقد صرّح النويري فقال: وجاء محمّد بمسلم إلى القصر، فأجلسه على بابه ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه ((3)).
المحصّلة
تبيّن ممّا مضى أنّ أوّل من ذكر وقوف المولى الغريب (علیه السلام) على الباب -- حسب فحصنا -- هو الطبريّ في إحدى رواياته فقط، حينما ساقخبر استسقائه (علیه السلام) وما دار بينه وبين الباهلي، ثمّ قال: ثمّ جلس متسانداً إلى حائط ((4)). وتبعه ابن الأثير والنويري كما سيأتي بعد قليل.
وربّما يُستبعَد حمل جميع تلك المصادر على الاقتضاب والاختصار، وفيها من المصادر الّتي أسهبت في الحديث عن تفاصيل حركته (علیه السلام) من
ص: 74
ميدان القتال إلى داخل القصر، سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار فرحة ابن زياد بما حصل من جهة، وخوفه الشديد من التبعات وتوجّسه من عواقب ما جرى، واستعجاله في طيّ هذه الحقبة واختتام المعركة، ومتابعة مجريات الأحداث.
قال الطبريّ في إحدى رواياته، والشيخ المفيد في (الإرشاد)، والفتّال في (روضة الواعظين): ثمّ جلس متسانداً إلى حائط ((1)).
وقال ابن الأثير في (الكامل)، والنويري في (نهاية الأرب): ولمّا جلس مسلم على باب القصر رأى جرّة فيها ماء بارد، فقال: اسقوني من هذا الماء ((2)).
وقد ذكرت مصادر أُخرى استسقاء المولى (علیه السلام) على باب القصر، مندون الإشارة إلى جلوسه هناك.
فيكون المصدر الأقدم -- على ما يبدو -- في ذكر ذلك هو الطبريّ في إحدى رواياته.
ذكر الطبري والشيخ المفيد والفتال أنّ المولى الغريب (علیه السلام) حينما انتهى
ص: 75
إلى باب القصر، كان على باب القصر «ناس جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير ابن شهاب» ((1)).
وقال المسعوديّ في (مروج الذهب): فلمّا صار مسلم إلى باب القصر نظر إلى قلّة مبردة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو الباهلي -- وهو أبو قتيبة بن مسلم -- أن يسقوه، فوجّه عمرو بن حريث، فأتاه.. ((2)).
وذكر أبو الفرج مثل قول المسعوديّ، وأضاف: قال: وحدّثني مدرك بن عمارة: أنّ عمارة بن عقبة بعث غلاماً يدعى نسيماً، فأتاه بماء ((3)).
وقال ابن كثير: قالوا: ولمّا انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذاعلى بابه جماعةٌ من الأُمراء من أبناء الصحابة ممّن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يُؤذَن لهم على ابن زياد ((4)).
وهذه النصوص ذكرت المتواجدين على باب القصر ذكراً عامّاً تارة، ونصّت على بعض الأسماء خاصّة.
فذكر الطبري «ناساً جلوساً ينتظرون الإذن»، وعبّر عنهم ابن كثير بقوله: «جماعة من الأُمراء من أبناء الصحابة!!».
أمّا الذين نصّوا على أسمائهم، فهم:
ص: 76
عمارة بن عقبة بن أبي معيط.
عمرو بن حريث.
مسلم بن عمرو الباهلي.
كثير بن شهاب.
نسيم غلام عمارة بن عقبة.
وهؤلاء جميعاً من أزلام بني أُميّة وعبيدهم.
ص: 77
ص: 78
الاستسقاء وطلب الماء ليس فيه هوان، ولا نزول إلى الدنية، ولا يخالف الإباء والحفاظ والأنفة والعزّة، وهو يختلف عن شكاية الجوع وطلب الطعام!
فالماء قد وفّره الله وجعله للمخلوقات شرعاً سواء، وغطّى به وجه البسيطة حتّى صار الماء فيها أكثر من اليابسة، وجعل صبر الإنسان على الطعام أشدّ وأكثر من صبره على الماء والظمأ، وسرعان ما يؤثّر العطش في الأعضاء، فيحول بين الظمآن وبين السماء كالدخان، فلا يقوى على النظر ويمنعه من الرؤية، ويفتّ الكبد ويلهبه بسعيره، ويحرق حبّة القلب،
ص: 79
ويجفّف الفم واللسان، ويشلّ اليد والرجل وباقي الأعضاء، ويكبس الروح ويخنقها..
أمّا الطعام والكلاء فقد جعله الله لمن يجدّ ويعمل ويحاول ويحتال في طلبه، وأمره أن يسعى لتحصيله بحول الله وقوّته.
قال الصادق (علیه السلام) -- في حديث المفضَّل المعروف -- :
«واعلم -- يا مفضّل -- أنّ رأس معاش الإنسان وحياته الخبز والماء، فانظر كيف دبّر الأمر فيهما، فإنّ حاجة الإنسان إلى الماء أشدّ من حاجته إلى الخبز، وذلك أنّ صبره على الجوع أكثر من صبره على العطش، والذي يحتاج إليه من الماء أكثر ممّا يحتاج إليه من الخبز، لأنّه يحتاج إليه لشربه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه وسقي أنعامه وزرعه، فجعل الماء مبذولاً لا يُشترى، لتسقط عن الإنسان المؤونة في طلبه وتكلّفه، وجعل الخبز متعذّراً لا يُنال إلّا بالحيلة والحركة» ((1)).
وقد نشأت الأخلاق والشيم عند الإنسان المتخلّق بالأخلاق الحميدة على ذلك، فهم لا يرون في الاستسقاء وطلب الماء عيباً ولا عاراً ولا منقصةً ولا مذلّة، ولا خادشاً للعفّة والحياء والعزّة والإباء، فيما يترفّعون عن شكاية الجوع والاستطعام.قال الشيخ التستري في (الخصائص الحسينيّة):
ص: 80
«إنّ الطعام كان مفقوداً عندهم في ذلك اليوم، ولذا قال السجّاد (علیه السلام) : «قُتل ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً»، لكن من جهة شدّة العطش لم يتحقّق ذكر الاستطعام، لأنّه مذلّة عظيمة لا تتحمّلها النفوس الأبيّة، بل وتستنكف الإطعام وإن حصل بدون استطعام في هذه الحالة.
ولذا لما أطعم أهل الكوفة الأطفالَ التمرَ والجوز، صاحت بهم أُمّ كلثوم (علیها السلام) : يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام. وأخذت هي وزينب ما في أفواه الأطفال ورمته إليهم، فإنّ الطعام في هذه الحالة صدقة فيها إهانة وذلّة، فيحرم عليهم وإن لم يكن زكاة».
إنّ طبيعة الحرب والقتال، والمبارزة والمصاولة، وثوران النقع والنجيع، والنزف والجراحات.. تقتضي العطش، بغضّ النظر عن وقوع ذلك في الصيف أو في الشتاء، وفي الجوّ البارد أو الجو الحار، وفي القرّ أو الحرّ..
رغم ما ألمّ بالبطل الهاشميّ (علیه السلام) من جراحٍ وغربة، بحيث لم تسلم فيهمن جارحة، وصار كأنّه الشجرة، لأنّه كان مشتجراً للسهام والرماح، ورغم النزف الذي جعل من بدنه كالفوّارة من الدماء، ورغم أسره بعد أن بذل غاية المجهود وأعذر في قتال الأعداء..
ص: 81
بيد أنّه ردّ على الوغد الوقح الذي تجاسر على ساحته، فلئن كَلّ السيفُ والسنان فإنّ سلاحه الماضي لا يكلّ، فكان لسانه أشدّ عليهم من السيوف والأسنة والرماح، فردّ على الجبان قولته بقصفٍ عنيف، ونزلت كلماته عليهم أشدّ من الصواعق وألذع من لهب النيران.
المواساة طبعٌ غرسه الله في الإنسان، وجعل معرفتها تحسّ بالفطرة، وجعل العلم بها ممّا يكون فيه صلاح الدين والدنيا.
قال الإمام الصادق (علیه السلام) -- في حديث المفضّل المعروف -- :
«فكِّرْ - يا مفضّل - فيما أُعطي الإنسان علمه وما منع، فإنّه أُعطي جميع علم ما فيه صلاح دينه ودنياه، فممّا فيه صلاح دينه: معرفة الخالق (تبارك وتعالى) بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق، ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافّة، وبرّ الوالدين، وأداء الأمانة، ومواساة أهل الخلّة، وأشباه ذلك ممّا قد توجد معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرةمن كلّ أُمّةٍ موافقةٍ أو مخالفة» ((1)).
ومواساة سيّد الشهداء (علیه السلام) رتبةٌ ومقام ومنزلة ودرجة رفيعة لا تتسنّى لكلّ أحد، فقد تنافس فيها الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) من قبل أن تزدهر هذه الدنيا بنور الوجود العنصري لسيّد الشهداء (علیه السلام) .
ص: 82
روى ابن قولويه في (كامل الزيارات) عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال:
«إنّ إسماعيل الّذي قال الله تعالى في كتابه: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم (علیهما السلام) ، كان نبياً من الأنبياء بعثه الله إلى قومه، فأخذوه فسلخوا فروة رأسه ووجهه، فأتاه ملَكٌ عن الله (تبارك وتعالى) فقال: إنّ الله بعثني إليك، فمُرْني بما شئت. فقال: لي أُسوةٌ بما يُصنَع بالحسين (علیه السلام) » ((1)).
وروى المجلسيّ: إنّ آدم لمّا هبط إلى الأرض لم يرَ حوّاء، فصار يطوف الأرض في طلبها، فمرّ بكربلاء، فاغتمّ وضاق صدرُه من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قُتل فيه الحسين (علیه السلام) حتّى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي، هل حدث منّي ذنبٌ آخَر فعاقبتني به؟! فإنّي طفت جميع الأرض وما أصابني سوءٌ مثل ما أصابني في هذه الأرض!!فأوحى الله إليه: يا آدم، ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتَل في هذه الأرض وَلدُك الحسين ظلماً، فسال دمُك موافقةً لدمه ((2)).
وهكذا كان مع غيرهما من الأنبياء والأوصياء (علیهم السلام) ، فربما استعمل المواساة كما فعل إسماعيل (علیه السلام) ، أو استعمل المحاكاة والموافقة كما حدث لآدم (علیه السلام) وغيره.
ص: 83
ومسلم بن عقيل (علیهما السلام) في درجته الرفيعة، ومقامه السامي، ومنزلته الخاصّة عند الله وعند الأئمة (علیهم السلام) ، تسنّم ذُرى الشرف بمواساته لسيّد الشهداء (علیه السلام) في غربته ووحدته وعطشه ومحاصرته وتكاثرهم عليه، وكثرة جراحاته، وافتراق القوم عليه فرقاً؛ ضرباً بالسيوف، وطعناً بالرماح، ورمياً بالسهام، ورضخاً الحجارة والنار..
لقد بلغ العطش بمولانا الغريب (علیه السلام) مبلغاً عظيماً، فجعله يشكو حاله إلى الله أوّلاً، «ثمّ رجع موضعه فوقف وقال: اللّهمّ! إنّ العطش قد بلغ منّي».
وربما كانت الشكوى هذه تعبيراً عن (غاية المجهود) الذي بذله، بحيث أثّر فيه العطش تأثيراً بالغاً عظيماً وجراحاته تشخب دماً، فحال دون استمراره في القتال، فجاءته الطعنة ليسقط إلى الأرض.
أرأيت طهارةً ونبلاً وسموّاً ورفعةً وخُلُقاً رفيعاً وتقوىً وورعاً وصبراً مثل ما ترى في رجال سيّد الشهداء (علیه السلام) وسيوفه، وفي المولى الطالبي الغريب (علیه السلام) ؟
عطشٌ وجراح مزّقت بدنه تمزيقاً، ونزف سيّال غسل أعضاءه غسلاً وضمّخه تضميخاً، حتّى صار كياقوتةٍ حمراء من رأسه حتّى قدميه -- فداء
ص: 84
لكلّ جرحٍ من جروحه --، وهو مع ذلك يأبى أن يشرب الماء وقد امتزج بدمه المتدفّق من شفتيه.
قاتلهم الله ولعنهم لعناً يرضي مولانا الغريب (علیه السلام) وفوق الرضا..
أما كان فيهم مخلوقٌ قد شمّ في يومٍ من أيام حياته رائحة الإحساس والوجدان، أو هبّت عليه في ساعةٍ من ساعاته نسمة من ضمير أو شعور؟!
أما كان فيهم من يستلّ نصلاً من تلك النصال الّتي غُرزت في بدن المولى الشريف، أو يتناول كسراً من الرماح المتكسّرة عليه ويتّخذ من أنابيب القنا وسيلة يطبق عليها المولى شفتيه، فيمرّ الماء إلى أحشائه ويبرّد كبده قبل أن يختلط بها الدم؟
التنبيه السابع: سقيه وهو مكتوف
يبدو أنّ الجبناء «لم يجسر أحدٌ منهم أن يسقيه الماء ولا قرب منه» ((1)) خوفاً وفرقاً من المولى (علیه السلام) ، ولم يقترب منه أحدٌ إلّا بعد أن أوثقوه كتافاً، ويشهد لذلك أيضاً تعبير ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)، قال: فسقاه، فتمضمض مسلم، فخرج الدم، فما زال يمسح الدم، ولا يسيغ شيئاً منه، حتّى قال: أخّروه عنّي ... ((2)).
ولو كانت يد المولى (علیه السلام) خارج الكتاف لدفعه إليهم بيده وقال خذوه
ص: 85
مثلاً، فلمّا قال لهم: أخّروه عنّي، أي أخّروا الإناء أو الماء وأبعدوه، يلزم أن يكون المتصرّف بالإناء غيرُه.
«وسقطت ثنيّتاه في القدح، فامتنع مسلم بن عقيل من شرب الماء».. ((1)).
لقد كانت ضربة اللعين بالسيف معترضاً وجه المولى المذكّر برسول الله (صلی الله علیه و آله) ضربةً قاسية همجيّة، نزلت على محيّا الغريب (علیه السلام) لتشكّل زاويةً منفرجة تقوم على حدّ السيف من جهة وأعلى الشفة دون الأنف الشامخ من جهةٍ ثانية، لأنّها استطاعت أن تقطع الشفة وتغوص إلى الأسنان الشريفة ثم تسرع في الشفة السفلى.ويبدو أنّها كانت ضربةً بطرف السيف، وأنّ اللعين ضربه وهو في أقصى ما يكون مبتعداً عن المولى (علیه السلام) ، مستفيداً من مسافة مدّ يده منبسطةً وطول السيف كلّه، وبذلك يستطيع أن يوظّف انحناءتَين: إحداهما انحناء الضربة، والثانية انعطاف طرف السيف.
ورغم تعبير المؤرّخ عن الثنايا أنّها نصلت، غير أنّ سقوطها في الإناء يعني أنّها كانت لا زالت عالقةً في فمه الشريف.
فلمّا سُقي الماء، لابدّ أن يكون الإناء قد عمل فيها فأسقطها، إمّا لعدم
ص: 86
وجود شفةٍ تحميها، أو لارتجاف الساقي وارتعاش يده خوفاً من اقترابه من المولى (علیه السلام) ، أو لفظاظة الساقي وتعامله بجلفيّة وقساوةٍ مع المولى (علیه السلام) بالخصوص إذا قلنا أنّ المولى سُقي وهو مكتوف الوثاق.
أتبلغ الخسّة والنذالة واللؤم والانحطاط والتنكّر للقيَم بمخلوقٍ إلى حدٍّ يمتنع فيه عن سقي الماء، ويمتنع عن سقي الماء العذب ويعدل عنه إلى ماء البئر؟ وماء البئر أجاجٌ مالح يزيد العطشان عطشاً، وهم يعلمون أنّ المولى الغريب (علیه السلام) بطلٌ همام وضرغام من آل خير الأنام، وقد رأوا بطولاته وشجاعته وكرامته وكرمه.
هكذا هم أعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، لا يبغون حولاً عن سلاح الجبناء وطريقة الحقراء وأولاد البغايا الرخيصات النتنات.لك الله يا غريباً، يا وحيداً، يا وتر كوفان، يا عطشاناً، يا دمعة سيّد الرسل (صلی الله علیه و آله) ودمعة الإمام الغريب العطشان (علیه السلام) ..
بأبي أنت وأُمّي ونفسي ومالي وأهلي.. فداك روحي، يا مظلوماً على مرّ العصور وطول الزمان ((1)).
يمكن تقسيم النصوص الواردة في استسقاء المولى الغريب (علیه السلام) إلى
ص: 87
ثلاثة أقسام:
أفاد ابن أعثم والخوارزميّ أنّ الاستسقاء كان أثناء القتال:
قالا: ... ثمّ رجع موضعه، فوقف وقال: اللّهمّ! إنّ العطش قد بلغ منّي.
قال: فلم يجسر أحدٌ أن يسقيه الماء ولا قرب منه ...
فجعل يقول: اسقوني شربةً من الماء!
فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: والله لا تذوق الماء يا ابن عقيل أو تذوق الموت!
فقال له مسلم بن عقيل: ويلك يا هذا! ما أجفاك وأفظّك وأغلظك!أشهد عليك أنّك إن كنت من قريشٍ فإنّك ملصق، وإن كنت من غير قريشٍ فإنّك مدّع إلى غير أبيك، مَن أنت يا عدوّ الله؟
فقال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وسمع وأطاع إذ خالفتَه، أنا مسلم بن عمرو الباهلي!
فقال له مسلم بن عقيل: أنت أولى بالخلود والحميم، إذ آثرت طاعة بني سفيان على طاعة الرسول محمّد (صلی الله علیه و آله) .
ثمّ قال مسلم بن عقيل (رحمه الله): ويحكم يا أهل الكوفة! أُسقوني شربةً من ماء!
فأتاه غلامٌ لعمرو بن حريث الباهلي بقلّة فيها ماء وقدح فيها، فناوله
ص: 88
القلّة، فكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم، وسقطت ثنيّتاه في القدح، فامتنع مسلم بن عقيل (رحمه الله) من شرب الماء ((1)).
فهو قد شكى العطش إلى الله، ثمّ استسقاهم، وهو لا زال يقاتل، ودار بينه وبين ذاك اللئيم ما دار من كلام، ثمّ استسقاهم، فسُقي..
قال ابن قتيبة: ... فلمّا أُسِر بعث الرجال، فقال: اسقوني ماء.. ((2)).وقال ابن شهرآشوب: فضربه بكير بن حمران الأحمريّ على شفته العليا، وضربه مسلم في جوفه فقتله، وطعن من خلفه فسقط من فرسه فأُسر.
فقال مسلم: اسقوني شربةً من ماء. فأتاه غلام عمرو بن حريث بشربة زجاج، وكانت تملى دماً، وسقطت فيه ثنيته ((3)).
وعبارتهما واضحة بالاستسقاء بعد الأسر.
الفرج في (المقاتل) ((1))، والشيخ المفيد في (الإرشاد) ((2))، والفتّال في (الروضة) ((3))، وابن الأثير في (الكامل) ((4))، والنويريّ في (نهاية الإرب) ((5))، وابن كثير في (البداية والنهاية) ((6)).
وعباراتهم متقاربة تؤدّي جميعاً نفس المؤدّى، وتصرّح أنّ المولىالغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لمّا انتهى إلى باب القصر وجد ثمّة قلّة، فاستسقى القوم..
تفرّد ابن قتيبة بالنصّ على شهر بن حوشب من بني سليم، وقال: فقال له شهر بن حوشب: لا أسقيك إلّا من البئر ((7)). وقد ذكر ذلك ضمن الاستسقاء أثناء الحرب.
فيما ذكر الآخرون أنّ الرادّ على المولى هو مسلم بن عمرو الباهلي، سواء في ذلك مَن جعلوا الاستسقاء بعد الأسر أو على باب القصر.
ص: 90
وشهر بن حوشب هذا تابعيٌّ شاميّ الأصل من رجال البخاري ومسلم، ولا يبعد أن يكون قد ردّ على المولى الغريب (علیه السلام) إذ كان حاضراً ثمّة قبل أن ينبري الباهلي، وممّا يساعد عليه اختلاف عبارته مع عبارة الباهلي، قال شهر: «لا أسقيك إلّا من البئر».
ذكر المؤرّخون الّذين تعرضوا لاستسقاء المولى (علیه السلام) شخصَين أمرا بإحضار الماء له:
كما في (تاريخ الطبري) بإحدى رواياته، و(مقاتل الطالبيّين) في إحدى رواياته، وابن الأثير في (الكامل)، والنويري في (نهاية الإرب)، وابن كثير في (البداية والنهاية)، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) بلفظ «المعيطي».
ذكر ذلك جملةٌ من المؤرّخين، كالطبري، وابن أعثم، والمسعودي، وأبي الفرج في إحدى روايتَيه، والشيخ المفيد في (الإرشاد)، والفتّال في (الروضة)..
ص: 91
أمّا الطريحي في (المنتخب) ((1))، فقد جعل خطاب المولى الغريب (علیه السلام) مباشراً إلى مَن يلي السقاية على باب القصر، ويبدو أنّه اعتمد في ذلك على كتاب أبي مخنف المشهور ((2)).
ذكر البعض الساقي من دون تسمية، واكتفوا بنسبته إلى مولاه، فقالابن قتيبة: فأمر غلاماً له، فأتاه بإبريق من ماء وقدح قوارير ومنديل ((3)).
وكذا فعل ابن أعثم والخوارزميّ والشيخ المفيد والفتال وابن كثير، بيد أنّهم نسبوه إلى عمرو بن حريث.
ولم يذكر المسعوديّ وابن الأثير والنويري الغلامَ، واكتفوا بقولهم: «فوجّه عمرو بن حريث»، «فدعا عمارة بن عقبة بماء..».
أمّا الطائفة الثالثة من المؤرّخين فقد اختلفوا في تسمية الغلام، فقال الطبري في إحدى رواياته أنّه غلام عمرو ويدعى (سليمان)، وفي رواية أُخرى أنّه غلام عمارة ويدعى (قيساً) ((4)).
واسم غلام عمرو عند الاصفهاني في (المقاتل): (سليماً)، وغلام
ص: 92
عمارة: (نسيماً).
ولا يبعد أن يكون ثمّة تصحيف (سليمان وسليم) و(قيس ونسيم).
ذكر ابن الأثير والنويري أنّ المولى (علیه السلام) رأى على باب القصر جرّة فيها ماء بارد، فقال: اسقوني.. ثمّ ساقا الكلام حتّى قالا: فدعا عمارة بنعقبة بماء بارد ... ((1)).
فلا يُدرى أَدَعا له من نفس تلك الجرّة أو من مكان آخر؟
بيد أنّ ابن كثير قال أيضاً في سياق كلامه عن وصول المولى (علیه السلام) إلى باب القصر: «وإذا قلّة من ماءٍ بارد هنالك، فأراد أن يتناولها ليشرب منها ...»، إلى أن قال: «فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولىً له إلى داره، فجاء بقلّة عليها منديلٌ ومعه قدح..» ((2)).
وفي (المنتخب) للطريحي و(مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مخنف المشهور: رفع الساقي الجرّة الموجودة على باب القصر فدفعها إلى المولى ((3)).
لا يبعد أن يكون قد استسقى المولى (علیه السلام) أكثر من مرّة، مع ملاحظة
ص: 93
شدّة عطشه وكثرة جراحاته ونزفه، ويمكن استفادة ذلك من النصوص بعد ملاحظة سياقاتها وتفاصيلها، سوى ما قد يقال من اتّحاد كلام مسلم بن عمرو الباهلي المشترك في بعض المصادر بين الاستسقاء بعد الأسر وعلى باب القصر.وربما قيل بإمكان تكرّر موقف الباهلي كلّما استسقى المولى (علیه السلام) .
وكذا يقال بالنسبة لمن أمر بالماء، فربما كان أحدهما على باب القصر والآخر في المعركة -- وفق نصّ ابن قتيبة -- أو بعد الأسر.
وإرسال الغلام إلى الدار أو إلى موضعٍ آخر لإحضار الماء أوفق بالاستسقاء بعد الأسر أو في المعركة منه بباب القصر، غير أنّ عبارات المؤرّخين غير صريحة في ذلك، وعبارة ابن كثير تكاد تكون صريحة بأنّ ابن أبي معيط بعث الغلام إلى داره وهو على باب القصر ((1)).
قال الطريحي في (المنتخب)، وكذا في المقتل المشهور لأبي مخنف: «فنظر مسلم إلى برادة هُناك فيها ماء، وكان له يومان ما شرب الماء» ((2)).
وفيه تصريحٌ بعطش المولى (علیه السلام) منذ يومين، ولو لم يكن منذ ذلك الحين فهو لا شكّ قد استمرّ أثناء الحرب -- وفق إخبار ابن قتيبة -- إذ
ص: 94
استسقى وهو يقاتل، ويشهد له شكواه إلى الله -- كما في رواية ابن أعثم وغيره -- : «ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع موضعه فوقفوقال: اللّهمّ! إنّ العطش قد بلغ منّي» ((1)).
فلمّا جيء له بالماء لم يشرب منه من كثرة الدم، وسقطت ثنيّتاه في القدح ((2)).. وهذا ما اتفقت عليه المصادر، وقد حاول أكثر من مرّة ليشرب الماء ونزيف الدم يمنعه، فقال: الحمد لله، لو كان من الرزق المقسوم لشربتُه ((3)).
واستمرّ به العطش حتّى الشهادة، فقُتل (علیه السلام) غريباً وحيداً عطشاناً ظامئاً، فصلّى الله عليه ولعن قاتليه.
ص: 95
ص: 96
أُثخن المولى الغريب (علیه السلام) بالجراح، حتّى صار جرحاً نازفاً من رأسه حتّى قدميه، فقد مزّقت بدنَه الشريف السهام، ورضّت عظامه وكدمته وجرحته الحجارةُ وأطنان القصب المتّقدة بالنيران، وكان قد ضُرِب على فيه فكُسِر، وأسرع سيف اللعين في شفته السفلى بعد العليا، ونصلت ثيّتاه، وكان مكتوفاً منذ أن دخل، بناءاً على المصادر التي نصّت على أنّهم أوثقوه كتافاً عندما أسروه، أو وفق المصادر الّتي نصّت على أنّ ابن الأمة الفاجرة اللعين أمر به فكتف ((1)).
ومع كلّ ما كان يقاسيه المولى الغريب (علیه السلام) من عطشٍ وجراحات
ص: 97
وإجهاد بعد أن بذل غاية المجهود في حربهم، وقد أوثقوه كتافاً، ولا زالوا يخشون سطوة البطل الهاشميّ ويخافون صولته، فقد أدخلوه على الجبان الرعديد «وقد اكتنفه الجلاوزة»! ((1))
ويستفاد من قولهم: «فنظر في وجوه الناس» ((2))، أي: المولى الغريب (علیه السلام) حينما أراد أن يوصي، وقولهم في نفس الموقف: «نظر إلى جلسائه» ((3))، أو: «فنظر ابن عقيل إلى القوم، وهم جلساء ابن زياد، وفيهم عمر بن سعد» ((4))، وما شاكلها من العبارات.. أنّ المجلس كان مكتظّاً، وربما أذن اللعين للناس إذناً عامّاً ليستخفّهم ويخوّفهم ويستعرض ما يخاله نصراً، بشهادة قولهم: «فنظر في وجوه الناس»، فإنّ كلمة (الوجوه) هنا سواء قُصِد بها (الشخصيّات) أو الناس مطلقاً تفيد المعنى المذكور، فلو قصد الأوّل فهذا يعني أنّ ثمّة جماعة مختلطة من (الشخصيّات) الذين عبّر عنهم بالوجوه وغيرهم من عامّة الناس، فاقتصر المولى الغريب (علیه السلام) في النظر إلى (الوجوه) منهم خاصّة، لإمكان الوصيّة لهم دون سائر مَن حضر.
وإذا كان المقصود من قولهم: «وجوه الناس»، أي أنّ المولى (علیه السلام)
ص: 98
تصفّح وجوه الناس عامّة، فهو المقصود تماماً.
وكيف كان! فإنّ في عبارات من تعرّض لبيان ذلك ممّن ذكرناهم من المؤرّخين إشارات، بل دلالات واضحة، تؤكّد أنّ المجلس كان حاشداً يضمّ غير الجرو الأمويّ وحرّاسه وأفراده.
ويشهد لذلك أيضاً ما مرّ معنا من وقوف جماعة على الباب ينتظرون الإذن، وفيهم «الأُمراء وأبناء الصحابة».
صلّى الله عليك يا سيّدي ومولاي يا غريب كوفان! لقد واسيتَ إمامك وأخاك سيّد الشهداء (علیه السلام) في كلّ تفاصيل يومه في كربلاء، ولم يفُتكَ مواساته في دخول هذا المجلس الّذي سيشهد دخول الإمام زين العابدين (علیه السلام) ومخدّرات الوحي وعقائل النبوّة، والوقوف أمام هذا الطاغي الرذل الرعديد!
تنقسم المصادر في قصّة السلام على ابن زياد إلى ثلاثة أقسام:
ثمّة جملةٌ من المؤرّخين لم يذكروا السلام، بل ولم يذكروا حواراً بين المولى الغريب (علیه السلام) سفير الحسين (علیه السلام) وبين ابن الأمة الفاجرة، من قبيل
ص: 99
ابن سعد ((1))، والذهبيّ في (تاريخ الإسلام) و(سيَر أعلام النبلاء) ((2))، وابن قتيبة ((3))، والبلاذري ((4))، والطبريّ في إحدى رواياته ((5))، وابن عبد ربّه ((6))، والباعوني ((7))، والمسعودي ((8))، وابن حبّان في (الثقات) و(السيرة) ((9))، ومسكويه ((10))، والشجري ((11))، وابن شهرآشوب ((12))، وابن الجوزي ((13))، والبري ((14))، وسبط ابن الجوزي ((15))..
هؤلاء الّذين سمعتَ أسماءهم من المؤرّخين وكتبهم لم يذكروا السلام، ولم يشيروا إليه، وهم الأكثر والأقدم، كما سيتّضح من خلالملاحظة
ص: 100
الأقسام الباقية.
وهذا القسم من المؤرّخين انقسم إلى طائفتين، سنذكر هنا طائفة منهم ونترك الأُخرى الى القسم الثالث لتتمّ مناقشتهم في موضعٍ واحد، إذ أنّهم خلطوا الرفض بتمنّي الاستبقاء.
أمّا من ذكر رفض المولى (علیه السلام) ، سليلِ الإباء والشهامة والنبل والكرامة، فهو السيّد ابن طاووس في (اللهوف) ومَن تبعه، قال: فلمّا أُدخل على عبيد الله لم يسلّم عليه، فقال له الحرس: سلِّم على الأمير، فقال له: أُسكت، ويحك، واللهِ ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمتَ أم لم تسلّم فإنّك مقتول.
فقال له مسلم: إن قتلتني فلقد قَتَل مَن هو شرٌّ منك مَن هو خير منّي.. ((1)).
وفي رواية أبي مخنف (المشهور) والطريحيّ في (المنتخب) -- واللفظ للأوّل -- : ثمّ أدخلوه على ابن زياد (لعنه الله)، فلمّا نظر مسلم إلى تجبّره قال: السلام على مَن اتّبع الهدى، وخشيَ عواقب الردى، وأطاع المَلِك الأعلى. فتبسّم ابن زياد (لعنه الله)، فقال بعض حجّابه:يا مسلم، أما ترى الأمير ضاحكاً عليك ((2))، لو قلتَ: السلام عليك أيّها الأمير. فقال
ص: 101
مسلم: واللهِ ما علمتُ أنّ لي أميراً غير الحسين (علیه السلام) ، وإنّما يسلّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه. فقال ابن زياد (لعنه الله): سواء عليك سلّمت أو لم تسلّم، فإنّك مقتول في هذا اليوم ((1)).
يمكن تقسيم هذا القسم من المؤرّخين إلى طائفتين:
يبدو لنا -- حسب فحصنا -- أنّ أوّل من ذكر فرية تمنّي الاستبقاء من خلال السلام على ابن الأمة الفاجرة إنّما هو الدينوري في (الأخبار الطوال)، قال: فلمّا أُدخل عليه وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: سلِّم على الأمير.
قال: إن كان الأمير يريد قتلي فما أنتفع بسلامٍ عليه، وإن كان لم يرد فسيكثر عليه سلامي.
قال ابن زياد: كأنّك ترجو البقاء ((2)).ثمّ تلاه الطبري، فقال: وأُدخل مسلم على ابن زياد، فلم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: إلّا تسلّم على الأمير. فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فلَعمري لَيكثرنّ سلامي عليه. فقال
ص: 102
له ابن زياد: لعمري لتُقتَلُنّ. قال: كذلك! قال: نعم ((1)).
وتبعه على ذلك الشيخ المفيد في (الإرشاد) ((2))، وأبو الفرج الأصفهاني في (المقاتل) ((3))، والفتّال في (الروضة) ((4))، والطبرسيّ في (الإعلام) ((5))، وابن الأثير في (الكامل) ((6))، وابن نما في (المثير) ((7))، والنويري في (النهاية) ((8))، وابن كثير في (البداية والنهاية) ((9)).
ذكرنا في القسم الثاني أنّ ثمّة مصادر ذكرت رفضه (علیه السلام) للسلام على الوغد اللصيق، وأنّ المولى ردّ على مَن دعاه للسلام ردّاً قويّاً، وأوعز ذلكإلى علّتين:
إحداهما: أنّه ليس له بأمير.
والثانية: أنّه لا ينتفع بالسلام وابن زياد يريد قتله، فإن استبقاه فليكثرنّ سلامه عليه.
ص: 103
قال ابن أعثم في (الفتوح)، والخوارزميّ في (المقتل): فأُدخل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال له الحرسي: سلّم على الأمير! فقال له مسلم: أُسكت لا أُمّ لك! ما لك وللكلام؟ واللهِ ليس هو لي بأمير فأسلّمَ عليه! وأُخرى فما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي؟! فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي.
فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك سلَّمتَ أم لم تسلِّم، فإنّك مقتول. فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قَتَل شرٌّ منك مَن كان خيراً منّي ((1)).
إنّ مَن يعرف سيوف الحسين (علیه السلام) وإباء الطالبيّين وأخلاق العظماء من عترة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وخرّيجي مدرسة أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين (علیه السلام) ، يستبشع هذه الفرية المفضوحة الّتي لا تصمد أمام النقد ولا تستحقّ المناقشة، ولا يستسيغ هذا اللون من الأكاذيب الممجوجة، ولا يحتاج إلى مناقشة الأقوال التي ترشح من قيح محابر الأمويّين بروائحها الّتيتزكم الأنوف، وتخدش عفّة المتعوّدين على السياحة في ساحات القدس والطهارة من شهداء الحقّ وأتباع الهدى.
ولكنّ ضرورة البحث تقتضي التوقّف عندها قليلاً، لمناقشتها باختصار من خلال الملاحظات التالية:
ص: 104
رأينا في القسم الأوّل جملةً من المؤرّخين ممّن هو أقدم من الدينوري والطبري، وهم لا يروون هذه القصّة ولم يشيروا إليها.
وعرفنا أنّ أوّل من ذكرها إنّما هو الدينوري ثم الطبري، وتبعهما الآخرون ممّن جاء بعدهم، وجاءت عند ابن أعثم خليطاً غير متجانس من الردّ والقبول بشرط الاستبقاء.
ويبدو للمتأمّل أنّ السيّد ابن طاووس قد نقل عبارة ابن أعثم، بيد أنّه أسقط منها ما لا يناسب المولى الغريب والبطل الهاشمي (علیه السلام) ، فذكر الردّ واقتطع الاستبقاء، وهذا هو دأب السابقين في اختيار الأقوال، كما ذكرنا ذلك في أكثر من موضع من هذه الدراسات.
فإمّا أن يقال بما ذكره الذين سبقوا الدينوري، فتنتفي قصّة إكثار السلام من أجل الاستبقاء من رأس.
وإمّا أن يقال بقول السيّد ابن طاووس وأبي مخنف (المشهور) والطريحي من الردّ على من اقترح السلام، دون التورّط بذكر الاستبقاء، إذإنّه لا ينسجم مع شيم المؤمن فضلاً عن الفقيه العالم والشجاع الباسل والأبيّ الفاضل مسلم بن عقيل الهاشميّ الطالبي (علیه السلام) .
لقد ذكرنا سابقاً في بحث (الحرب الأخيرة) وفي غيره بالتفصيل أنّ
ص: 105
المولى الغريب (علیه السلام) كان عالماً بشهادته في الكوفة، وقد أخبر بذلك النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، ومَن كان عالماً بشهادته منتظراً متطلّعاً مترقّباً بشوقٍ ولهفة لها لا يتخضّع بالقول ليطلب من الرجس النجس والعفن المتكلّس ويستجديه أياماً قلائل يستبقيه فيها على قيد الحياة!
ذكرنا أيضاً في بحث (الحرب الأخيرة) تفاصيل كافية تدلّ بوضوح أنّ مجريات الأحداث وطبيعة ابن زياد البطاش ومهمّته المخوّلة له من قبل القرد الأموي، الواضحة تماماً لدى المولى الغريب (علیه السلام) العالم، كلّها تؤكّد أنّه مقتولٌ لا محالة، فلماذا يقف هذا الموقف الّذي تأباه الأُنوف الحمّية والنفوس الأبيّة والأرواح السامية؟!
لماذا يتوسّل الأبيّ الغيور ويتزلّف العزيز الشجاع الهصور إلى دعيٍّ يعرفه بخسّة النسب ونذالة الطبع؟لا يمكن أن نتصوّر الصرح الشامخ والهامة العالية والقمّة السامقة ينزل إلى القاع ويرغب في الدنيّة ويطلب من أولاد البغايا حياةً بإكثار السلام عليه بالإمرة، وهو يعلم أنّ الحياة بيد واهب الحياة!
ليست هذه من أخلاق الأحرار الأباة، الّذين سمعوا من سيّدهم صرخةً
ص: 106
لا زالت تملأ سمع الزمان: «والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل»، و«موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذلّ»..
إنّ غيرة المؤمن وحميّته وتنزّهه عن العيش في الأروقة الموبوءة وترفّعه عن المذلّة والهوان تأبى له أن يستعطي الحياة ويستوهب البقاء في الدنيا من ساقطٍ سافلٍ، قد غرز أقدامه -- الّتي لم تخطُ إلى طاعةٍ لله قطّ -- في بِركة الدماء ووحل الدنيا القذرة الرخيصة.
يا لله! أيُقال في حقّ الضرغام سليلِ الأنبياء، ومعلّمِ التاريخ دروسَ الشهامة والشجاعة والاستبسال في الدفاع عن الحقّ وأهله، والتائق إلى الشهادة ولقاء ربّه، هذا الكلام؟!!
وفي نصّ المقتل المشهور والطريحي تعبير رائع يردّ هذه المزاعم:
روى الطريحي أنّ مسلماً (علیه السلام) قال: «والله ما لي أميرٌ غير الحسين بن علي (علیهما السلام) ، وإنّما يسلّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه الموت».
وفي لفظ (المقتل) المشهور: «والله ما علمتُ لي أميراً غير الحسين (علیه السلام) ، وإنّما يسلّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه».
لو رضينا بما قاله المؤرّخ الخؤون الظالم للمولى الغريب (علیه السلام) ، ويأبى الله ذلك لأوليائه الّذين جعل لهم العزّة في كتابه الكريم..
فما هو الفرق إذن بين المولى الغريب (علیه السلام) وبين الآخرين الّذين خذلوه،
ص: 107
وتخلّوا عن ريحانة الرسول (صلی الله علیه و آله) وقرّة عين المرتضى والزهراء البتول (علیهما السلام) ، وباعوا آخرتهم بالثمن الأوكس، وخسروا حظّهم بالأرذل الأدنى؟!!
أفَعَل أُولئك الأوغاد والهمج الرعاع أكثرَ مِن أن سلّموا على أولاد البغايا بالإمرة، ليستبقيهم أياماً قلائل؟!
وقولهم افتراءاً على المولى الغريب (علیه السلام) : «ليكثرن سلامي عليه» يعني الملازمة، وليس المقصود أن يكرّر عليه السلام في ذلك الموقف مرّةً بعد مرّة، كما هو واضحٌ من سياق العبارة.
وهل يغدر ثقة الحسين (علیه السلام) -- والعياذ بالله -- ويتنصّل معتمَد سيّد شباب أهل الجنّة عن المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، ويترك السلام بالإمرة على إمامه الحسين (علیه السلام) ، ويسلّم على ذنب القرد الأموي بالإمرة؟
ماذا فعل الخونة الّذين غدروا بالمولى الغريب (علیه السلام) وأعرضوا عن الحقّ وأشاحوا وجوههم عن وجه الله، هل فعلوا غير إكثار السلام على ابن الأمةالفاجرة ليستبقيهم؟!
نستغفر الله ونتوب إليه من نسبة هذه النكبة النكدة الفقماء الشوهاء العمياء التافهة إلى عترة النبيّ المختار (صلی الله علیه و آله) ومبعوث أبي الأئمّة الأبرار (علیه السلام) .
لقد ذكرنا -- في مواطن عديدة من دراستنا لحياة المولى الغريب (علیه السلام) ، فلا نعيد -- تأكيد المؤرّخ وإلحاحه بسماجة، وإصراره بوقاحة، وإمعانه في
ص: 108
ممارسة التزوير لرسم صورةٍ مشوَّهةٍ للبطل الهاشمي، وتكدير إشعاع البدر العَقيلي، وإبرازه في حُلّةٍ لا تليق به ولا تسبغ عليه ولو جهد الحاقدون، فحاولوا إخفات هذا النور الباهر وطمسَ حقائق البدر المتألّق بإشعاع الإمامة الزاهر، فصوّروه في أكثر من موقف وعرضوه في أكثر من مشهد كواحدٍ منهم أو من أمثالهم -- والعياذ بالله --، يحبّ الحياة ويريد أن يبقى في هذه الدنيا مهما كلّفه الثمن، منذ قصّة التطيّر وما قبلها إلى قصّة قبول الأمان وما بعدها، وما بينهما من صور مموّهة باهتة لا تليق بالمؤمن العادي من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) المخلصين، فضلاً عن ساداتهم ورجالهم وجماجمهم ومفاخرهم وأوتادهم.
تنكّر ابن زياد للأمان الّذي أمر به
قال ابن أعثم -- وهو يروي أحداث المعركة واستمداد ابن الأشعث -- : «فأرسل إليه عبيد الله بن زياد: أن أعطِه الأمان، فإنّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان» ((1)).
وقال الخوارزميّ في نفس السياق: «فأرسل إليه ابنُ زيادٍ أن أعطه الأمان، فإنّك لن تقدر عليه إلّا بالأمان المؤكَّد بالأيمان» ((2)).
وفق هذا النصّ أمر ابن الأمة الفاجرة الخبيث ابن الخبيث ابنَ الأشعث أن يعطي الأمان للمولى الغريب (علیه السلام) ، وأكّد له أنّه لا يقدر عليه إلّا
ص: 109
بذلك.
وبهذا كذب الجرو الأموي (ابن زياد) مرّةً بعد مرّة، والكذب ديدنه وطبعه، هو وأسياده الذين مكّنوه من رقاب المسلمين.
فكذب على المولى الغريب (علیه السلام) وافترى عليه، وزعم أنّه سيغترّ بأمانهم، وقد تبيّن كذبه، وفضحه البطل الهاشميّ حينما صرخ فيهم: «لا حاجة لي في أمان الغَدَرة الفَجَرة»، وقال في رجزه: «أخافُ أن أخدع أو أغرّا».
فبيّن لهم أنّه قد عرفهم وعركهم وقرأ صحيفتهم المشؤومة وعالجهم مع عمّه أمير المؤمنين وأخويه ((1)) الحسن والحسين (علیهم السلام) ((2)).وكذب مرّةً أُخرى حينما أمر بإعطاء الأمان وهو لا يريده.
فقد تنكّر اللّعين بعد أن رأى الأسد الطالبيّ مكتوفاً في القصر مثخناً بالجراح، قد كظّه الظمأ وفتّ كبده وتمزّقت أحشاؤه، وتسربل بالنبال والسهام، وتناثرت كدمات الحجارة ودمامل حروق القصب المشتعل بالنيران على بدنه كالنجوم كثرة..
تنكّر لابن الأشعث الغويّ الخائن والرعديد الجبان، فلم يُنفِذ أمانه كما قال البلاذري: «فأُتي به ابن زياد، وقد آمنه ابن الأشعث، فلم ينفّذ
ص: 110
أمانه» ((1)).
بل تنكّر له وزعم أنّه لم يرسله ليؤمنه وإنّما أرسله ليأتيه به، وكأن لم يأمره قبل ذلك بإعطاء الأمان بتاتاً.
روى الطبريّ في (تاريخه)، والشيخ المفيد، والفتال، وأبو علي مسكويه، والطبرسيّ في (الإعلام)، والخوارزميّ في (المقتل)، وابن الجوزيّ في (المنتظم)، وابن الأثير في (الكامل)، والنويري، -- واللفظ للأوّل -- قال:
«فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان! كأنّا أرسلناك تؤمنه، إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت» ((2)).فاللّعنة له ولابن الأشعث الذي «سكت»!! ولم ينتفض لشرفه وسمعته التي يدّعيها.
من أين تخجل أوجهٌ أمويّةٌ
سكبت بلذّات الخمورِ حياءَها
وهل للأدعياء وأبناء البغايا الرخيصات والجبناء الأذلّاء سمعةٌ وشرف ترتعش له الجوانح إذا مسّ أو خُدِش؟!
ص: 111
ص: 112
لا شك أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد عهد بوصيّةٍ من قبل أن يخرج من مكّة، لاستحبابها الشرعيّ من جهة، ولأنّه عالمٌ بمآل أمره، ومنطلقٌ إلى شهادته الموعودة، مجدّاً نحو يومه الّذي ينتظره في الكوفة.
ومن الطبيعيّ جدّاً أن يتقدّم بالوصيّة لأهله وعياله وزوجته وأولاده وهم قادمون على الشهادة والسبي، وهو يعلم من سيرجع منهم ممّن سيثوي في الأرض الطيّبة مقيماً في رحال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، «حتّى يبعث الله قائماً، يفرج عنها الهمّ والكربات».
إذن، لمن أوصى؟ هل أوصى سيّدَ الشهداء (علیه السلام) بعياله وأولاده في الفترة الّتي سيكونون في حمايته حتّى تسقط الراية على العلقمي؟!
هل أوصى الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين (علیه السلام) ، الوليَّ بعد
ص: 113
الولي، والإمام بعد الإمام، بعمّته (زوجة مسلم (علیه السلام)) وبمن سيبقى من أولاده؟
هل أوصى السيّدة الحوراء الصدّيقة (علیها السلام) ، باعتبارها حامية الركب الحسينيّ بعد الحماة بتفويضٍ من سيّد الشهداء والإمام السجّاد (علیهما السلام) حتّى يعود الركب إلى المدينة؟
هل أوصى أولاده وهو يعلم أنّهم سيقاتلون ويُقتَلون بين يدي سيّد الشهداء (علیه السلام) ؟
هل اتخذ من رجال الركب وحماته -- كأبي الفضل العباس وعلي الأكبر (علیهما السلام) -- كفيلاً لأهله وعياله؟
هل أوصى أولاده بأُمّهم وأخواتهم، وملازمتهم لركاب السعادة بين يدَي إمام الشهداء (علیه السلام) ؟
هل أوصى زوجته، بنت الإمام وأُخت الإمام وعمّة الإمام، وبكى لخدرها المسلوب ولرحلها المنهوب، ولأولادها المقطّعين آراباً والمذبّحين ظمايا، فحثّها على الصبر ودعا الله أن يربط على قلبها؟
هل أوصى بولديه الصغيرين محمّد وإبراهيم، وأوصاهما على صغر سنّهما؟
وعشرات الأسئلة الأُخرى الّتي لم نسمع لها في التاريخ جواباً، إلّا أن يجمعنا الله وسيّدنا ومولانا في الرجعة أو يوم القيامة، بفضله ومنّه وكرمهومغفرته وجوده، لنستمع إليه!
ص: 114
إختلفت المصادر التاريخية في تصوير هذا المشهد، وربما كان الاختلاف نتيجة الاختصار والإسهاب، أو لأيّ سببٍ آخر كان، بيد أنّها -- على كلّ حال -- ترسم مشهداً يختلف عن المشهد الّذي يرسمه الآخر.
فهي تنقسم إلى مشاهد متعدّدة تعبّر عن موقف واحد:
منها: ما يعرض المولى (علیه السلام) يتقدّم بطلب الوصيّة إلى ابن زياد، فيجيبه بالإيجاب..
ومنها: ما يعرضه متقدّماً بطلب الوصيّة مبادراً بها، دون انتظار جواب اللعين..
ومنها: ما يعرضه مبادراً إلى الوصيّة دون طلب..
ومنها: ما يعرضه طالباً لها، وابن سعد متوثّباً مبادراً لقبولها دون انتظار الإذن من ابن زياد..
ومنها: من لم يذكر الوصيّة بتاتاً، وكأنّ شيئاً لم يكن.
وسنسمع هذه الأقوال من خلال استعراض نصوص المؤرّخين:
طلب المولى (علیه السلام) وإجابة اللّعين
قال ابن سعد والذهبي: فقال: دعني أُوصي، قال: نعم ((1)).
وقال ابن قتيبة وابن عبد ربّه والباعوني: فقدّمه ليضرب عنقه، فقال:
ص: 115
دعني حتّى أُوصي، فقال: أوص ((1)).
وقال الدينوري: فقال له مسلم: فإن كنتَ مُزمِعاً على قتلي، فدعني أُوص إلى بعض من هاهنا من قومي، قال له: أوص بما شئت ((2)).
وقال أبو الفرج: قال: دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم، قال: أوص إلى من أحببت ((3)).
وقال المفيد والفتال وابن الأثير والنويري في (نهاية الإرب) وابن كثير في (البداية والنهاية): قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: افعل ((4)).
وقال الشجري: فقال: ائذن لي في الوصيّة! فقال: أوص ((5)).وأقوال هؤلاء تتّفق على طلب الإذن بالوصيّة، ولكنّها تختلف في التعبير عن ذلك.
أمّا في التعبير عن قول المولى الغريب (علیه السلام) ، فقد جاءت بصيغ: «دعني أُوصي»، «دعني حتّى أوصي»، «فدعني أوص إلى بعض من هاهنا من
ص: 116
قومي»، «دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم»، «فدعني أوصي إلى بعض قومي»، «ائذن لي في الوصيّة».
وهذه النصوص مع اتفاقها على المضمون، فإنّ فيها أدنى اختلاف في التعبير، حيث أطلقت بعضها طلب الوصيّة، وصرّحت بعضها برغبة المولى (علیه السلام) في الوصيّة إلى «بعض القوم» من دون تحديد القوم، وصرّحت بعضها برغبته (علیه السلام) في الوصيّة إلى بعض قومه بالخصوص ممّن حضر «بعض من هاهنا من قومي»، وبعضها نصّت على رغبته بالوصيّة إلى قومه من دون التقييد بالحاضرين منهم.
قال الطبري: قال: فدعني أوص إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله.. ((1)).قال ابن نما: وإن كنت لابدّ قاتلي دعني أوصي. فنظر إلى عمر بن سعد.. ((2)).
وقال الخوارزمي: ولكن إن كنتَ عزمتَ على قتلي ولابدّ لك من ذلك، فأقم إليّ رجلاً من قريش أوصي إليه بما أُريد. ثم نظر مسلم إلى عمر بن سعد ... ((3)).
ص: 117
هنا طلب المولى (علیه السلام) من ابن زياد أن يفسح له من الوقت ما يوصي به، ولكنّه يبادر فوراً للنظر إلى الجلساء ويستدعي ابن سعد، كما عند الطبري وابن نما، وامتاز عنهما وعن غيرهما الخوارزمي مع اتفاقه في أصل المشهد بإيكال اختيار الوصي لابن زياد بشرط أن يكون الوصي من قريش «فأقم إليّ رجلاً من قريش أوصي إليه».
ولكنّ المولى الغريب (علیه السلام) لم ينتظر حتّى يختار له ابن زياد، وإنّما يبادر هو بنفسه (فداه روحي) ليستدعي ابن سعد.
قال ابن أعثم والخوارزمي: ولكن إن كنتَ عزمت على قتلي ولابدّ لك من ذلك، فأقم إليّ رجلاً من قريش أوصي إليه بما أريد. فوثبإليه عمر ((1)).
اعتاد الخوارزميّ في (المقتل) بالنقل عن ابن أعثم، وقد نقل هنا أيضاً عنه كما سمعنا قبل قليل، واتّفق معه في طلب المولى (علیه السلام) أن يقيم له ابن زياد مَن يوصيه من قريش، بيد أنّ الخوارزمي لم ينقل عبارة ابن أعثم الّتي يصرّح فيها أنّ ابن سعد بادر بشخصه التعيس لقبول الوصيّة.
وقد تفرّد ابن أعثم بهذا النقل -- حسب فحصنا --، إذ أنّ الغالب يصرّحون -- كما سيأتي -- بأنّ ابن سعد تنكّر وأبى أن يقبل الوصيّة إلّا بعد
ص: 118
أن أذن له أو أمره ابن الأمة الفاجرة.
قال البلاذري: فأُتي به ابن زياد، وقد آمنه ابن الأشعث فلم ينفَّذ أمانُه، فلمّا وقف مسلم بين يديه نظر إلى جلسائه، فقال لعمر بن سعد بن أبي وقاص: إنّ بيني وبينك قرابة أنت تعلمها، فقم معي حتّى أوصي إليك.. ((1)).
وقال البري: لمّا قُدّم ليُقتَل بين يدي عبيد الله بن زياد، وقد أثخن جراحاً، نظر هل يرى أحداً من قريش، فرأى عمر بن سعد، فقال: أُدنُ منّي.. ((2)).صرّح البلاذري أنّ المولى الغريب (علیه السلام) بادر بالنظر إلى جلساء ابن زياد، واختار منهم ابن سعد، ثمّ ذكر علّة اختياره من خلال كلام المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، فهو إنّما اختاره للقرابة بينهما.
أمّا في نصّ البري، فقد أجال المولى (علیه السلام) نظره ليرى هل يجد أحداً من قريش في المجلس، فرأى ابنَ سعد فوقع الاختيار عليه.
ثم إنّه (علیه السلام) بادر إلى الوصيّة مباشرة، ولم يطلب ذلك من ابن زياد.
ص: 119
لم يذكر الوصيّة جملةٌ من المؤرّخين، منهم:
المسعودي في (المروج) ((1))، وابن حبّان في (الثقات) و(السيرة) ((2))، وأبو علي مسكويه ((3))، والطبرسي ((4))، وابن شهرآشوب ((5))، وابن الجوزي في (المنتظم) ((6))، والسيّد ابن طاووس في (اللهوف) ((7)).
إنّما نتناول موقف ابن سعد وفق أخبار مَن نقل الوصيّة خاصّة، وهم ينقسمون إلى أصناف في بيان موقفه وموقف أميره وسيّده ابن الأمة الفاجرة:
قال ابن سعد وابن نما -- واللفظ للأوّل -- : فنظر إلى عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: إنّ لي إليك حاجة، وبيني وبينك رحم. فقال عبيد الله:
ص: 120
اُنظر في حاجة ابن عمّك! ((1))
يبدو من هذا النصّ أنّ المولى الغريب (علیه السلام) لمّا وجّه الكلام إلى ابن سعد، بادر ابنُ زيادٍ ليأمر ابن سعد ويدعوه للنظر في حاجة المولى الغريب (علیه السلام) ، معلِّلاً ذلك أنّه ابن عمّه.
قال ابن أعثم: فأقم إليّ رجلاً من قريش أوصي إليه بما أريد. فوثب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: أوص إليّ بما تريد يا ابن عقيل ((2)).وفي (المنتخب) للطريحي و(المقتل) المشهور لأبي مخنف -- واللّفظ للأوّل-- : قال: أريد رجلاً قرشيّاً أوصيه. فنهض عمر بن سعد (لعنه الله) ((3)).
في هذا النصّ يبدو ابن سعد مبادراً لقبول الوصيّة، لأنّه عرف أنّ المولى (علیه السلام) يبحث عن رجلٍ من قريش، فوجد في نفسه الكفاءة لذلك ونهض، أو «وثب» على حدّ تعبير ابن أعثم، ولم يلتفت إلى ابن زياد.
بيد أنّ ابن أعثم نفسه يروي بعد سطرين تقريباً ما يؤكّد أنّ الخبيث جبن وتردّد في إجابة الدعوة وقبول الوصيّة، قال:
ص: 121
فأقِم إليّ رجلاً من قريش أوصي إليه بما أريد. فوثب إليه عمر بن سعد ابن أبي وقاص، فقال: أوص إليّ بما تريد يا ابن عقيل. فقال: أوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنّ التقوى فيها الدرك لكلّ خير، وقد علمتَ ما بيني وبينك من القرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي أن تقضي حاجتي. قال: فقال ابن زياد: لا يجب (وفي نسخة: يجب) يا عمر أن تقضي حاجة ابن عمّك، وإن كان مسرفاً على نفسه!!! فإنّه مقتولٌ لا محالة. فقال عمر بن سعد: قل ما أحببتَ يا ابن عقيل.. ((1)).
يبدو من مداخلة ابن زياد، وتفريع قول ابن سعد للمولى الغريب (علیه السلام) : «قل ما أحببتَ يا ابن عقيل»، أنّ ابن سعد قد تلكّأ وتردّد أو أحجم عن قبولالوصيّة، ثم إنّه عاد ليسمعها.
وبناءاً على هذا يكون النصّ داخلاً في الصنف الرابع، كما سيأتي.
وربّما يشهد لذلك أنّ الخوارزميّ نقل هذه الأحداث عن ابن أعثم حرفيّاً، بيد أنّه تنبّه لما في هذا المقطع من الارتباك فغيّر النصّ هنا، ثمّ عاد إلى النقل عن ابن أعثم، فقال: فامتنع، فقال له ابن زياد: ما يمنعك من الاستماع لابن عمّك؟ فقام عمر إليه ... ((2)).
ص: 122
قال ابن قتيبة: فنظر في وجوه الناس، فقال لعمر بن سعد: ما أرى من قريش غيرك، فادنُ منّي حتّى أكلّمك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش، ما كانت قريش ... ((1)).
وقال الدينوري: فقال له: أتقبل وصيّتي؟ قال: نعم.. ((2)).
قال ابن عبد ربّه والباعوني والبري -- واللفظ للأوّل -- : فقال لعمر بن سعد: ما أرى قرشيّاً هنا غيرك، فادنُ منّي حتّى أُكلّمك. فدنا منه..((3)).
في هذه النصوص دعا المولى الغريب (علیه السلام) ابن سعد لقبول الوصيّة واختاره باعتبار قرشيّته -- في ظاهر الأنساب --، فأجاب ابن سعد دون أن ينتظر الإذن من ابن زياد.
قال البلاذري: فقال لعمر بن سعد بن أبي وقّاص: إنّ بيني وبينك قرابة أنت تعلمها، فقُم معي حتّى أوصي إليك. فامتنع.. ((4)).
وقال الطبري: فنظر إلى جلساء عبيد الله، وفيهم عمر بن سعد، فقال:
ص: 123
يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نُجحَ حاجتي، وهو سرّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها.. ((1)).
وقال أبو الفرج: فأبى أن يمكّنه من ذكرها، فقال له عبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ ((2))
وقال الشيخ المفيد والفتال: فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال لهعبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟! ((3))
وقال الخوارزمي: فامتنع، فقال له ابن زياد: ما يمنعك من الاستماع لابن عمّك؟ فقام عمر إليه.. ((4)).
وقال ابن الأثير والنويري: فلم يمكّنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمّك.. ((5)).
وقال ابن كثير: فأبى أن يقوم معه حتّى أذن له ابن زياد ((6)).
هذه النصوص هي المشهورة، وهي لصنفٍ واحدٍ من المؤرّخين كما
ص: 124
لاحظنا، ويبدو أنّ اشتهارها اعتضد بملابسات الظروف وطبيعة الأشخاص، من قبيل عمر بن سعد وجبنه وتخاذله وعبوديّته، وغطرسة ابن زياد وجبروته وسطوته وبطشه، وحراجة الموقف وثقل المهمّة، كلّ ذلك يؤكّد أنّ ابن سعد أقلّ وأحقر وأضعف وأجبن من أن يبادر إلى قبول الوصيّة قبل أن يأذن له سيّده ومولاه.
قبل أن نتناول دواعي اختيار عمر بن سعد للوصيّة ودلالات ذلك، ينبغي التنويه إلى بعض النكات:
لقد كان من لطف أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ورفعتهم وعلوّ قدرهم وعظم شأنهم، أنّهم عملوا بظاهر الأنساب، ودعوا الناس إلى آبائهم المنسوبين إليهم المشهورين بهم بين الناس، وهم كجدّهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) تماماً الّذي قال: «فسلوني، فوالله لا يسألني رجلٌ عن أبيه وعن أُمّه وعن نسبه إلّا أخبرتُه به» ((1))، وهم أعرفُ الخلق بالخلق، يعرفون الناس طرّاً بأسمائهم وانتماءاتهم، وكانوا يكشفون ذلك على رؤوس الأشهاد إذا دعت الضرورة لذلك، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) حينما تعرّض الجلف الجافي لعمّته ((2))،
ص: 125
وفي ذلك شواهد كثيرة وردت في كتب الحديث والتاريخ.
ولا يسلم النسب -- في الغالب -- عامّة بالقطع واليقين في طول الشجرة -- أيّ شجرةٍ كانت صعوداً ونزولاً --، إلّا الشجرة الطيّبة الّتي بسقت في الحرم وأثمرت سادات الأُمم محمّداً وآله (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، ثمّ مِن بعدهم شيعتهم الأبرار، الّذين يُدعَون يوم القيامة بآبائهم لطهارةمولدهم ونجابة الأرحام الّتي حملتهم، كما صرّحت به الأحاديث الصحاح عن النبي وآله (علیهم السلام) ، وقد جعل النبي (صلی الله علیه و آله) لذلك علامة، فقال مخاطباً أمير المؤمنين وسيّد الموحدين وقائد الغرّ المحجلين (علیه السلام) : «يا علي، لا يبغضك إلّا ابن حيضٍ أو ابن زنا».
وكيف كان، فإنّ الأئمة (علیهم السلام) خاطبوا الناس وعاملوهم على ظاهر الأنساب لا على واقعها الذي يعرفونه ويعلمون به عن الله تعالى، فخاطبوا ملوك بني العباس بأبناء العمّ، وفيهم مَن لا يُشَكّ في كونه منسوباً إلى غير عمّهم جزماً، لأنّ قاتل الإمام لا يُشَكّ أبداً في كونه ابن زنا، بل خاطبوا أحياناً بني أُميّة بهذا الخطاب.
وكذا فعل سيّد الشهداء؛ «لمّا كان يوم الطفّ، قال شمر بن ذي الجوشن الكلابي للعبّاس وإخوته: أين بنو أختي؟ فلم يجيبوه، فقال الحسين لإخوته: أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم» ((1)). وقد شهد سيّد الشهداء (علیه السلام) نفسُه يوم الطف أنّ شمر هذا ابن زنا، فقال
ص: 126
الحسين (علیه السلام) -- في خبر -- : مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا له: نعم، فقال له: يا ابن راعية المعزى ... ((1)).
من هنا لا يُفهَم من تعبير المولى الغريب (علیه السلام) «بعض قومي» أو «رجل من قريش» إقرارٌ منه بصحّة انتساب عمر ابن سعد وسلامة نسبه.كما لا يُفهم منه إقرار المولى الغريب (علیه السلام) بإيمانه أو صحّة إسلامه، فقد تداول أهل البيت (علیهم السلام) تعبير الرحم حتّى مع المشركين والكفّار وسكّان جهنّم والنيران، وقد اشتُهر عن رسول الرحمة (صلی الله علیه و آله) أنّه كان كلّما آذاه قومه الكفّار وبالغوا فيما يفعلون، قال (صلوات الله عليه وآله): «اللّهمّ اغفر لقومي، فإنّهم لا يعلمون» ((2)).
وروى ابن شهرآشوب والطبري: إنّه لمّا ضرب عليٌّ (علیه السلام) طلحة العبدري تركه، فكبّر رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقال لعلي (علیه السلام) : ما منعك أن تُجهِزَ عليه؟ قال: إنّ ابن عمّي ناشدني الله والرحم حين انكشفَت عورته، فاستحييتُه ((3)).
ولمّا أردى (علیه السلام) عمرواً قال عمرو: يا ابن عم! إنّ لي إليك حاجة؛ لا تكشِف سَوأة ابن عمّك ولا تسلبه سلبه. فقال: ذاك أهون عليّ.
وفيه يقول (علیه السلام) :
ص: 127
وعفَفْتُ عن أثوابه ولو انّني
كنتُ المقطّر بزّني أثوابي
فقال له عمر: هلّا سلبت درعه! فإنّها تساوي ثلاثة آلاف، وليس للعرب مثلها؟قال: إنّي استحيَيْتُ أن أكشف ابن عمّي ((1)).
ورد في حديثٍ طويلٍ عن الصادق (علیه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً﴾، كان بينهما وبين هذا الأب الصالح سبعون أباً، فحفظهما الله بصلاحه ((2)).
وعن الرضا، عن آبائه (علیهم السلام) ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «لمّا أُسريَ بي إلى السماء رأيتُ رَحِماً متعلّقةً بالعرش تشكو رحماً إلى ربّها، فقلتُ لها: كم بينكِ وبينها من أب؟ فقالت: نلتقي في أربعين أباً» ((3)).
وقد سمّى الأئمة (علیهم السلام) ملوكَ بني العباس أبناء عمّ، رغم بُعد النسبة بينهم.
وسيأتي فيما يلي الكلام في النسبة والقرابة بين المولى الغريب (علیه السلام)
ص: 128
وابن سعد (عليه لعائن الله).
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) كلّمه باعتبار انتسابه -- في ظاهر الأنساب -- إلى قريش، وبنو زهرة فخذٌ من أفخاذ قريش.
ونسب المولى الغريب (علیه السلام) هو: مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر ((1)).
وظاهر نسب اللّعين هو: عمر بن سعد بن أبي وقّاص مالك بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب أبو حفص القرشي الزهري ((2)).
فهما يلتقيان في كلاب بن مرّة.
نؤكّد أنّ كلامنا كلّه وفق ظاهر الأنساب، وإلّا فإنّا لا نشكّ أنّ عمر بن سعد دعيٌّ لصيق، وقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة في أنّ قاتل الإمام ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) الحسين بن علي (علیهما السلام) ، ابن زنا، وكذا قتلة الأنبياء والأوصياء والأئمة (علیهم السلام) .
ص: 129
شكّك البعض في صدور هذه الوصيّة من المولى الغريب (علیه السلام) لعمر بن سعد، واستدلّوا لذلك بعدم ورودها في بعض المصادر، كما مرّ آنفاً، وأنّ المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) يعرف ابن سعد وخبثه وخيانته وشخصيّته ودناءته، فكيف يوصي له؟!
ولا يخفى أنّ عدم ذكر بعض المؤرّخين والعلماء لها يعدّ شاهداً، سيّما إذا كان على وزان المسعوديّ وابن شهرآشوب والسيّد ابن طاووس، وهم إنّما يذكرون ما يختارونه في كتبهم في الغالب.
ولكن ورودها عند مؤرّخين آخرين قدماء ربما يكون عاضداً معتدّاً به، إذ ذكرها كثيرون وإن اختلفوا في التفاصيل، وقد أتينا على ذلك مفصّلاً في بداية الحديث تحت عنوان الوصيّة.
أمّا معرفة المولى الغريب (علیه السلام) بابن سعد وخبثه وخيانته فلا شكّ في ذلك، ولكن ربما كان في الوصيّة لهذا الشخص بالخصوص فوائد تترتّب بالرغم من وجود تلك الخصال الذميمة وأكثر فيه، وسنأتي على الإشارة إلى بعض تلك الفوائد فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
إنّ مَن يلاحظ النصوص الّتي روت الوصيّة والكلام الّذي دار حولها، يرى بوضوحٍ أنّ الداعي المنصوص عليه في أكثر عبائر المؤرّخين على لسان
ص: 130
المولى الغريب (علیه السلام) إنّما هي القرابة ((1))، وأنّ ابن سعد هو القرشيّ الوحيد الحاضر في المجلس، وبذلك أخرج المولى الغريب (علیه السلام) ابنَ زياد من نسب قريش، كما صرّح له بذلك فيما بعد حينما قال له: «أما والله يا ابن زياد! لو كنتَ من قريش أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني» ((2)).
فهو (علیه السلام) لم يناشد ابن سعد بالله ولا بدين ولا بالنبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) ، ولا بالأخلاق والشيم، ولا بأيّ خصلةٍ تثبت له مزيّة أو كرامة أو حسن سيرة ومعرفة سويّة، وإنّما ناشده بالقرابة والنسب، وهو ما يستجيب له أجلاف الجاهليّة وعتاة المردة، ويستقبح التنصّل منه كلّ إنسان مهما كان، ومع ذلك تنصّل عنها الخبيث إلّا بإذنٍ من مولاه السلطان.
وبالرغم من أنّه (علیه السلام) لم يكلّف ابن سعد أيّ عطاءٍ خاص من عنده شخصيّاً -- كما سنسمع في تفاصيل الوصيّة وبنودها --، وليس عليه سوى التنفيذ فقط، إذ لا مال يدفعه من عنده ولا عطيّة يطلبها منه المولى (علیه السلام) .
أمّا الدواعي غير المنصوص عليها، وهي ما يمكن استفادتها واحتمالها من خلال التأمّل في الأحداث والمواقف والنصوص وتحليلها، فإن عضدته الشواهد وساعدت عليه القرائن والمؤيّدات، ووافق روح المشهد العام،
ص: 131
فالحمد لله، وإلّا فلا ضرر في أصل احتماله وتصوّره وتصويره، فربما أقنع بعض الاحتمالات بعضاً، واقتنع آخرون بأُخرى.
وينبغي أن نقسّم الدواعي إلى قسمين لتكتمل الصورة وتتّضح معالم الموقف أكثر، إذ أنّ ثمّة دواعي تنتج أصل الإقدام على الوصيّة، فيما تنتج دواعي أخرى اختيار هذا الوغد الرعديد ابن سعد بالذات لها دون غيره.
والقسم الأوّل يساعد بالتالي على إدراك القسم الثاني.
رُوي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) : «مَن مات ولم يوصِ، مات ميتةً جاهليّة».
وقال (صلی الله علیه و آله) : «الوصيّة حقٌّ على كلّ مسلم».
وقال (صلی الله علیه و آله) : «مَن مات ولم يوصِ، فقد ختم عمله بمعصية» ((1)).
فالوصيّة أدبٌ شرعيّ أكّدت عليه الشريعة أيّما تأكيد، وهي في الوقت ذاته سيرة متعارفة وسلوك ثابت عند المتشرّعة، وعند الناس حتّى من غير المتشرّعة، وقد تعارف واشتهر إلى يوم الناس هذا أنّ مَن يُحكم عليه بالقتل يؤذَن له بالوصيّة أو يبادر هو بها.
والمولى الغريب (علیه السلام) فقيهٌ عالِمٌ من فقهاء آل محمّد (صلی الله علیه و آله) ، لا يفوتههذا الأدب الشرعيّ، وقد عمل به بغضّ النظر عن الموصى إليه ومدى التزامه
ص: 132
بالتنفيذ أو التنصّل، إذ أنّ الوصيّة ذاتها تكليف.
إنّ العدوّ المتسلّط العنيد دأب في حربه المضلّلة على عرض أهل بيت النبوّة في زيّ الخوارج والخارجين عن الإسلام، فكانت الوصيّة -- مطلقاً ولابن سعد خاصّة -- ردّاً على تلك المزاعم الباطلة وكسراً لوسائل التضليل المتمحّلة، وتدليلاً على خلاف ما يقوله المبطلون، فهو يوصي كأيّ مسلمٍ من المسلمين، ويشهد بالوحدانيّة لله ربّ العالمين وبالنبوّة لخاتم المرسلين.. وهذا ما التزمه أهل البيت (علیهم السلام) أمام أعدائهم أعداءِ الله، والتزمه سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه النجباء (علیهم السلام) ، وكان آخر رجزٍ لسيّد الشهداء (علیه السلام) : «أمضي على دين النبي (صلی الله علیه و آله) ..».
يلاحَظ أنّ بنود الوصيّة كلّها ضرورات ملحّة وموادّ مؤثّرة، ووصايا فاعلة، لا ينبغي التهاون فيها والتغافل عنها، لعمق تأثيرها في حركة التاريخ وكشفها عن فراغ الذمّة أمام الله في تنفيذ أوامر الإمام المفترض الطاعة، أو فراغ الذمّة الشخصية من مطالبات الناس عامّة، وتبرير حقّ لمواقف المولىالغريب (علیه السلام) وتفسير لها على مدى التاريخ وكرّ العصور والدهور.
إضافة إلى ما تضمّنته من تعريضٍ وإشعار وتنويه وتحذير وإقامة للحجّة على الخارجين على إمام زمانهم.
ص: 133
هذا الداعي يندرج تحت العنوان السابق، وإنّما أفردناه هنا للأهمية وإلفات النظر إليه، فربما كان هو الداعي الأساسي والأصل في الوصيّة، باعتباره الفرصة الأخيرة للتأكّد والاحتياط في إنجاز المهمّة، وطمأنة النفس المتكدّرة الولهى على سيّد الشهداء (علیه السلام) وركبه، وقد أتينا على بيان هذا الداعي مفصلاً في (مسلم بن عقيل -- ثائرٌ أم سفير).
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) يعلم أنّ أمر الوصيّة سيتّضح بالمآل للجميع، ونحن نطمئنّ بلا تردّد أنّه (علیه السلام) كان يعرف ابن سعد وخيانته، وأنّ الوصيّة سيفشى بها، فلا تكون خفية ولا تبعد عن الطغام الذين احتوشوه وتكاثروا عليه، وكان ابن سعد نفسه من المقرّبين عند الجرو الأموي، ومن أدواته القذرة وأعوانه والكلاب التي تلهث في ديوانه، وقد كلّمه المولى الغريب (علیه السلام) بألفاظ متينة ومعاني جزلة رصينة، يفهمها كلّ من سمعها.وكان بفعله ذاك قد أقام الحجّة عليهم جميعاً، وعلى ابن سعد خصوصاً، وأبان لهم المحجّة، وعرض عليهم غدرهم وخيانتهم وخذلانهم للحقّ وأهله، وأراهم ما هم عليه من سوء العاقبة، وغبّ المواقف الجانحة، وأنّهم قوم متذبذبون كاذبون متقلّبون، دينهم الدنيا وأئمتهم أربابها.
وبخطابه هذا قد أتمّ عليهم الحجّة، ووعظهم أبلغ الموعظة، ولكنّهم قد
ص: 134
استحوذ عليهم الشيطان، فأعماهم وأصمّهم وأمات قلوبهم.
﴿إنّك لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرين﴾، ﴿وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلاَ الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور﴾.
لقد عرّفهم المولى (علیه السلام) بحقيقة أمرهم، وأخبرهم عن دخائل أنفسهم ومعاقد ذواتهم الّتي عقدت على الخيانة والغدر، كما فعلوا من قبل بأمير المؤمنين وابنه الحسن الأمين (علیهما السلام) ، وأنّهم لن يجانبوا مقارفة الأخلاق الذميمة وارتكاب الدنيّة في دينهم ودنياهم، فعلّمهم من خلال ما رفعه لسيّد الشهداء (علیه السلام) في الوصيّة وطلب الرجوع منه، بناءاً على ما أمره به الإمام نفسه (علیه السلام) ، إذ أمره أن يرى ما عليه الناس فيخبره بالإقدام أو بغيره، كما ورد في نصوص تكليفه بالمهمّة.
وكأنّه (علیه السلام) يريد أن يقول لهم: إنّكم إن كنتم عاجزين عن نصر الحقّ والوقوف في صفّ أولياء الرحمان، فلا تركنوا إلى الّذين ظلموا وتمنعواالإمام (علیه السلام) وتكونوا ضمن جند السقيفة الذين يدعوه إلى ما يدعوه إليه أربابها، ويقترحون عليه النزول على حكم أولاد الأدعياء، فإنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) قال لهم مرّة بعد أخرى -- لإتمام الحجّة عليهم -- : «دَعوني» ((1))، فأبوا إلّا أن ينزل على حكم أربابهم، والحسين (علیه السلام) سيّد
ص: 135
الكائنات يومها والإمام المفترض الطاعة على الخلق أجمعين!
فكأنّ المولى الغريب (علیه السلام) يقول لهم: لا تقتلوا حسيناً فيسحتكم عذاب أليم، إذا قال لكم: دعوني، دعوه، ولا تكونوا خاذلين قاتلين، فإنّي أخبرتُه بكم وبغدركم، وأنتم تعرفون أنفسكم وما انطوت عليه قلوبكم من الغدر والخيانة، فاعملوا على خلاصكم من التورّط في حربه ولا تقتلوه ((1)).
حينما يُؤسَر الإنسان الحرّ الأبي والشجاع القوي، يبقى ثابتاً راسخاً، تسربله السكينة وتحيطه الطمأنينة، لا يتزعزع ولا يتلجلج ولا يتردّد في القيام بمهمّته، والإمعان في التنكيل بعدوّه، وتنفيذ ما أُسِر لأجله.. فالمولى الغريب (علیه السلام) أكبر من الطغاة، فلا يقاس بوقوفه أسيراً أمام الجرو الأموي الرعديدالجبان..
فقد أقدم المولى الغريب (علیه السلام) -- رغم غربته ومحنته وألمه وجراحاته -- على فعلٍ زلزل الأرض تحت أقدام القزم وليد المومس النتنة، إذ وبّخ الناس على لسان قاتل الحسين (علیه السلام) ، وكشف لهم زيفهم، ودعاهم وحرّضهم من خلال إعلانه لسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) أنّ القوم قد نكثوا، وأنّهم لم
ص: 136
يفوا بما وعدوا، وأنّهم تركوا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لابن مرجانة!
وفي ذلك تحريضٌ واضح، وشحذ للهمم، وإثارة لكوامن النفوس إن كان فيها بقيّة من ذمم ورواسب من الحميّة والشعور بالندم، وصعقة شاحنة للقلوب الخاوية إذا كان فيها ذبالة خافتة من الروح أو آثار من بقايا الحياة..
وبكلمة أُخرى: كان مشهد المولى الغريب (علیه السلام) هنا في وصيّته تماماً كمشهد السفير الغريب قيس بن مسهر الصيداوي، إذ «أقبل بكتاب الحسين (علیه السلام) إلى الكوفة، حتّى إذا انتهى إلى القادسيّة أخذه الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له ابن زياد: إصعد إلى أعلى القصر فسُبَّ الكذاب ابن الكذاب!!! عليّ بن أبي طالب وابنَه الحسين.
فصعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس! إنّ هذا الحسين ابن علي خير خلق الله، وهو ابن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقتُه بالحاجر من بطن ذي الرمة، فأجيبوه واسمعوا له وأطيعوا. ثمّ لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ والحسين.فأمر به ابن زياد، فأُلقي من رأس القصر، فتقطّع، ويقال: بل تكسّرت عظامه، وبقي فيه بقيّة رمق، فقام إليه عبد الملك بن عمير البجلي فذبحه» ((1)).
ص: 137
لقد كشف المولى الغريب (علیه السلام) -- من خلال بعض بنود الوصيّة -- عن عمق معرفته بأعدائه عموماً وبابن الأمة الفاجرة خصوصاً، ومعرفته بعمق العداوة والحقد والبغضاء المتجذّرة في شعاب الأرواح الشرّيرة المتولّدة على فُرُش ذوات الأعلام المحمّلة بالضغائن المتقيّحة على عترة النبي (صلی الله علیه و آله) وسادات الأنام، فنصّ على أخذ جثّته المقدّسة لتوارى في التراب، وإلّا فمن يُقتَل يُدفَن!
وفي بعض المتون: أوصى باسترجاع فرسه وسيفه لتسديد دينه، ليعلن بذلك على مسامع الزمن أنّ القوم قد سلبوه عدواناً وغلبةً لا استحقاقاً، وأنّ سلبه ليس حلالاً لهم، وأنّها لا زالت ملكه يتصرّف بها.
وفي ذلك دلالة على علمه بما يجري عليه قبل وبعد الشهادة، فالعجب ممّن يجعل مشاهد المولى الغريب (علیه السلام) في الكوفة كلّها مفاجآت كأنّها الصواعق تتنزل عليه في كلّ خطوة، فتنهمر عليه السماء وتتفجر الأرضأمامه، فلا يدري كيف يتعامل معها ولا يهتدي إلى سبيلٍ للخروج من غمراتها والنجاة من دوّامتها!!
فقد أنبأ المولى الغريب (علیه السلام) -- بوصيّته باستنقاذ جثّته من براثن الوحش الكاسر والوغد المتوحّش -- أنّه على علمٍ تامّ بما سيجري عليه، فهو (علیه السلام) يعرف عدوّه تماماً، ويعلم بمصيره وحركته وما يؤول إليه أمره، ويعرف
ص: 138
تفاصيل شهادته، إمّا بالأخذ عن إمامه (علیه السلام) الصادق المصدّق والمعصوم عن الخطأ الّذي لا يكذب ولا يُكذَّب، وإمّا بمتابعته للأشخاص ومعرفته بالأعداء وسلوكيّاتهم وخلفيّاتهم وأخلاقيّاتهم، ومعرفته لمجريات الأحداث، أو للإثنين معاً.
فهو (علیه السلام) -- على كلّ حالٍ وفي أيّ تقدير -- ليس غريباً عن الواقع الّذي يتحرّك فيه، ولا مستغرباً من الوقائع ولا متفاجئاً بما يراه من القوم قادةً وأتباعاً.
وبهذا أصاب المولى الغريب (علیه السلام) أهدافاً شتّى، كالكشف عن حقيقة الأعداء، والكشف عن عمق معرفته، ليكون واضحاً للأجيال المتعاقبة، والعيون المراقبة، والأقلام التي تريد الخوض في معرفة شخص المولى الغريب (علیه السلام) ، أنّه لم يكن كما يصوّره المؤرّخ ويحلّله الكتّاب ويتّهمه به المغرضون والسُذّج وغير المغرضين: إنّه عالمٌ عارفٌ بكلّ التفاصيل!
قال الشيخ المظفّر في هامش كتابه (مسلم بن عقيل سفير الحسين (علیه السلام)): «القرابة المشار إليها أنّ أُمّ النبي (صلی الله علیه و آله) آمنة وأمّ حمزة هالة من بني زهرة» ((1)).
ص: 139
ونسب مولاتنا المظلومة أمّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) هو: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ((1)).
فهي من بني زهرة، وبنو زهرة أخوال سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد صرّح بهذا الداعي الشجري في (أماليه)، فقال: «فدعا عمر بن سعد للقرابة بينه وبين الحسين» ((2)).
وهذه القرابة لها دورٌ كبير عادةً في إثارة الهمم والحميّة والحماس للذبّ والدفاع عن القريب والمنتسب.
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) -- لقربه من معادن العلم وينابيع الحكمة ومهابط الوحي وأخبار الغيب، وباعتباره واحداً من المؤمنين والمسلمين -- كان يعلم علم اليقين أنّ عمر بن سعد قاتلُ ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّدِ شبابالجنّة أجمعين، وقد شاع هذا الخبر وذاع وعرفه القريب والبعيد، فقد روى عبدالله بن شريك العامريّ قال: كنتُ أسمع أصحاب عليّ (علیه السلام) إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي (علیه السلام) ، وذلك قبل أن يُقتَل بزمان ((3)).
ص: 140
وفي (تاريخ دمشق) و(الكامل في التاريخ) -- واللفظ للأوّل --، مسنداً عن عبدالله بن شريك، قال: أدركتُ أصحاب الأردية المعلّمة وأصحاب البرانس من أصحاب السواري، إذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين، وذلك قبل أن يقتله ((1)).
والأخبار في ذلك والدلالات كثيرة، ولهذا جعل المولى الغريب (علیه السلام) هذا القاتل اللّعين مكلَّفاً، وأخبره بما سيجري، وأقام عليه الحجّة، وأخذه من كلّ جهاته، وقد ذكرنا قبل قليلٍ وجه إقامة الجحّة، كما أشرنا إلى ذلك في (مسلم بن عقيل -- الحرب الأخيرة)، و(مسلم بن عقيل -- ثائرٌ أم سفير)، وغيرهما، فلا نعيد.
باعتبار أنّ عمر بن سعد بن أبي وقّاص له موقعٌ خاصّ بامتداداتهالاجتماعيّة والسياسيّة، وانتسابه إلى سعد بن أبي وقاص بمكانته الخاصّة عند الأمويّين والكوفيّين من أتباع العجل والسامري، ورتبته العسكريّة والاجتماعية عند ابن الأمة الفاجرة، وانتسابه القرشيّ في ظاهر الأنساب، وارتباطاته بالمجتمع المدني والمكي بالحيث العشائري والقبلي، وحاجة ابن زياد له في القريب العاجل في حربه على الله ورسوله وإمام زمانه سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) وأنصاره، كلّ ذلك يؤهّله للاضطلاع بتلك المسؤوليّة والقيام بتلك المهمّة الخطيرة، لِما له من قوىً تميّزه عن غيره من
ص: 141
الحاضرين في ذلك المجلس المشؤوم.
لقد دعا المولى الغريب (علیه السلام) ابنَ سعد اللعين على رؤوس الأشهاد، واستوصاه على مرأى ومسمع من الحاضرين، فإمّا أن يقبل ابن سعد أو يردّ، ولا خيار آخر له.
فإن ردّ، فسوف يتعرّى أمام الجميع، ويكشف عن طويّته وسقوطه ودناءته وجبنه وتحلّله عن أيّ التزامٍ يدخله في حضيرة البشر من أمثاله من الأوغاد.
لأنّ ردّه لوصيّة قريبٍ ينتمي إليه في العشيرة والنسب، وهو غريب ليس له من أبناء قومه سواه، وهو عازمٌ على الموت ولا محيص من قتله، لا يحتمله أيّ مخلوقٍ مهما كان وضيعاً.
وإن قبل وصيّته، فسوف يحرجه أمام أميره وسيّده البطّاش، ويحرجهأمام الناس، فسرعان ما يقدم اللّعين على قيادة العسكر لقتال ريحانة النبي القرشي (صلی الله علیه و آله) ، والحال إنّه كان بالأمس القريب يرسل إليه الرسل، ويبلغه بما جرى على مسلم (علیه السلام) ، ويدعوه على لسان مسلم (علیه السلام) أن يعود ولا يقدم، ويقوم بمهام تخصّ مسلم (علیه السلام) مبعوث الحسين (علیه السلام) ، وهو القرشيّ الّذي يمتّ إلى الحسين (علیه السلام) بصلةٍ في ظاهر الأنساب.
ص: 142
اتّفقت المصادر الّتي ذكرت الوصيّة أنّ عمر بن سعد قد قبل الوصيّة على التفصيل المذكور آنفاً في (موقف عمر بن سعد)، ومن البديهيّ أنّ ثمّة دوافع دفعته إلى قبول هذه المهمّة العسيرة في ساعة العسرة والظرف الحرج..
ونحن نتوقّع جملةً من الدواعي قد يكون أحدها كافٍ في تفسير الموقف، وقد يكون بعضها أو جميعها، فربّما اقتنع القارئ بواحدةٍ أو بأكثر، وربما قنع آخر بغير ما اقتنع به الأوّل، وهكذا هو الحال في كلّ ما نذكره من احتمالاتٍ في دراساتنا.
وعلى كلّ حال، لابدّ من ملاحظة العامل الغيبيّ دوماً في تحليل كلّ حالٍ أو تفسير أيّ مقال، فربّما كان قبول ابن سعد (لعنه الله) للوصيّة -- بالإضافة إلى الاحتمالات التي سنأتي على ذكرها -- من باب إقامة الحجّة عليه من قبل ربّ العالمين (جلّ وعلا)، فهو يُجري الحقَّ على لسانالمخالفين، ويقيم عليهم الحجّة باختيارهم المحجّة والإعراض عنها على علم، ليهلك مَن هلك منهم عن بيّنة..
تصرّح النصوص التاريخيّة الّتي ذكرناها مفصَّلاً تحت عنوان (موقف عمر بن سعد) أنّ ابن سعد إنّما قبل الوصيّة امتثالاً لأمر ربّه ومولاه وسيّده
ص: 143
ابن الأمة الفاجرة، وإطاعةً له، وتصرّح جملةٌ منها أنّه امتنع من إجابة المولى الغريب (علیه السلام) ، ثمّ عاد فقبل إطاعةً لمولاه الزنيم ابن زياد.
وبناءاً على هذا التصوّر يكون القبول وفق معايير الذلّ الّتي ارتضاها ابن سعدٍ لنفسه، وهي العبوديّة للقرود الأموية وأذنابها، فلا تدلّ حينئذٍ على أيّ تأثيراتٍ في شخصيته كقابل، وينتقل الكلام في تفسير الموقف للبحث عن دوافع ابن الأمة الفاجرة.
كما أنّ هذا الدافع المنصوص سيلغي الحاجة إلى التمعّن في الدوافع الأُخرى، وينتهي الكلام هنا إذا كان الدافع الأصليّ هو الطاعة للسلطان الغاشم.
ورد في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (علیه السلام) ، عن أبيه (علیه السلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) : «قسم الله (تبارك وتعالى) أهلَالأرض قسمين، فجعلني في خيرهما، ثمّ قسم النصف الآخر على ثلاثة، فكنتُ خير الثلاثة، ثمّ اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشاً من العرب، ثمّ اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطّلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطّلب» ((1)).
وقد ورد بهذا المعنى أحاديث متظافرة كثيرة عند الخاصّة والعامّة، وقد
ص: 144
سمعها ابنُ سعدٍ ووعاها، فلمّا عمل المولى الغريب (علیه السلام) بظاهر الأنساب ونماه إلى قريش أمام الناس، نفخ فيه روح الزهو والفخر والمباهاة، وحمَلَته الحميّة على التشبّث بهذا الانتساب تكبّراً على الحاضرين وتمطّياً على ابن زياد اللّعين، فإنّ في نسبة ابن سعد دون غيره إلى قريش تعريضاً واضحاً بكبير الأقزام الحقراء في ذلك المجلس.
ربما يقال: إنّ المولى الغريب (علیه السلام) دعا ابنَ سعدٍ أمام الحاضرين في المجلس ونسبه إلى قريش، وهو في تلك الحال والموقف الاستثنائي؛ غريباً وحيداً فريداً، لا أهل يحضرونه ولا عشيرة يؤوونه، ولا ناصر ولا معين، وقد حضرته المنيّة واقترب منه الأجل المحتوم بين أُناسٍ جُفاةٍ أجلاف، فلو ردّ الوصيّة في مثل تلك الظروف الّتي يصعب تصويرها،لكانت عاراً عليه وعلى أهله وعشيرته، لا تستره الأيام ولا تمحوه السنين، ولبقيت سُبّةً على مرّ العصور.
بيد أنّ هذا الداعي يكذّبه موقف اللّعين من ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وجناياته الّتي ضجّ لها الملكوت الأعلى، وتزعزع لها عرش الرحمان، ونكب بها الأرض ومَن عليها إلى يوم القيامة، فهو مخلوقٌ لا يرعى إلّاً ولا ذمّة، ولا يحتوي وجودُه إلّا الخسّة والضعة والرجس والوحشيّة والتنكّر للقيم، وهل يكون فيمن سبى حرم الله ورسوله ما يحمله على الفخر والمباهاة
ص: 145
بالانتساب إلى الأعراق؟! إلّا أن يكون فخراً بالجاهليّة الجهلاء!
إنّ اللعين ابن سعد كان يعلم -- من خلال ما سمعه من النبيّ (صلی الله علیه و آله) والأئمّة (علیهم السلام) والصالحين -- أنّ الحسين (علیه السلام) مقتولٌ في كربلاء لا محالة، وأنّ عمر بن سعد سيكون قائداً لذلك الجيش المنكوس المغضوب عليه الّذي سيقتل حبيبَ الله الحسين (علیه السلام) ، وقد ورد في ذلك النصوص الكثيرة المتظافرة المستفيضة، لا نريد الإطالة هنا بذكرها وهي موجودةٌ في مضانّها لمَن أرادها.
فربّما طمع اللعين في أن يكون هو السبيل لإبلاغ الإمام سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) بما جرى على أخيه مسلم (علیه السلام) ، فينثني ويرجع فلا يُقتَل! وبهذايكذّب النبيّ (صلی الله علیه و آله) ويكذّب الأئمة الصادقين (علیهم السلام) -- والعياذ بالله --، فيجاهر بالحجّة والبراهين، وينفي أخبار الأنبياء والمرسلين (علیهم السلام) ، فيعود الناس بذلك إلى ما فارقوه ظاهراً مِن دين آبائهم المشركين..
إنّ ابن سعد اللعين يعرف جيّداً مكارم أخلاق الهاشميّين عموماً والطالبيّين خصوصاً، ويعلم جيّداً أنّهم أوفياء لا يتركون عملاً إلّا جزوه بالإحسان، وهو لا يعرف ماذا سيجري في مستقبل الأيام، وإن كان يعرف أنّه قاتل الحسين (علیه السلام) ، كما نصّت عليه الأخبار وعلمه الناس أجمعين..
ص: 146
فأراد بقبول الوصيّة أن تكون له يدٌ عند الطالبيّين، تكون له ذخراً ربما ينتفع بها في يومٍ من أيّام عمره النحس.
أعرض بعض المؤرّخين عن ذكر الوصيّة من رأس، وأعرض آخرون عن الإشارة إلى ما يفيد السرّية أو غيرها ((1))، رغم أنهم ذكروا الوصيّة،وجاءت بعض العبارات بلفظ: «فادنُ منّي حتّى أكلّمك، فدنا منه» ((2))، و«فقم معي حتّى أوصي إليك، فامتنع، فقال ابن زياد: قم إلى ابن عمّك، فقام» ((3))، وفي مثل هذين التصريحين لا يمكن استفادة قصد المولى (علیه السلام) أن تكون وصيّته سرّية، إذ أنّ موضع وقوف المولى الغريب (علیه السلام) لا شكّ غير موضع جلوس الوغد التعيس ابن سعد، فلابدّ أن يستدنيه أو يأمره بالقيام ليقترب منه فيكلّمه ويوصيه، فتكون هذه الطائفة مندرجة ضمن الثلّتَين السابقتَين.
ص: 147
بيد أنّ عبارة الدينوري تفيد أنّهما اختلَيا في ناحية، وأنّ المولى الغريب (علیه السلام) أمر ابنَ سعد أن يخلو معه في (طرف البيت)، «فنظر إلى عمر ابن سعد بن أبي وقّاص فقال له: أُخلُ معي في طرف هذا البيت حتّى أوصي إليك ... فتنحّى معه ناحية» ((1))، والظاهر من العبارة أن يقصد البيت الّذي هم فيه، بقرينة قوله: «فتنحّى معه ناحية»، ولم يذكر أنّهما خرجا من الموضع الّذي هما فيه إلى بيتٍ آخر.
وفي (مثير الأحزان) لابن نما: «فتنحّيا بحيث لا يراهما أحد» ((2))، ولاندري أين اختفيا وهما في المجلس العام؟! وهو يباين تماماً ما ذكره الطبري كما ستسمع.
وكعادته فقد نمّق الطبريّ عبارة الدينوري، وصرّح على لسان المولى الغريب (علیه السلام) أنّ وصيّته سرّاً، «فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة.. وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهو سرّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها.. فقام معه فجلس حيث نظر إليه ابن زياد..» ((3)).
والوصيّة لا تحتوي على ما يكون سرّاً يخشى عليه أن يفشى، إلّا ما يخصّ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) وقدومه وبيان خذلان الناس وتنمّر الجرو
ص: 148
الأموي، ولا يكاد يكون في شيءٍ من ذلك سرّ، لأنّنا نجزم بالوجدان ومِن خلال معرفة البطل الهاشمي والعالم الطالبيّ أنّ المولى الغريب (علیه السلام) يعرف ابن سعد معرفةً جيّدة، ويعلم أنّه ليس موضعاً للسرّ، ويعلم بمجريات الأحداث، وأنّ كلّ ما قاله في شأن سيّد الشهداء (علیه السلام) للوغد الأموي الحقير هو مشهورٌ معروفٌ معلَن على رؤوس الأشهاد، فالناس قد علموا بقدوم سيّد الشهداء (علیه السلام) وتوجّهه إليهم، وعلموا أنّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) سفيرٌ مخذول يريد إخبار مولاه بما جرى عليه وإعلامه بوضع الناس.
فلو كانت الوصيّة سرّية، كما صرّح الطبري ومَن جاء بعده أو أخذ عنه،فربما كانت:
لفضح خبث ابن سعد وعدم رعايته للأمانة والسرّ، فإنّ إفشاء السرّ سقوط ((1))، بل حقيقة النميمة إفشاء السرّ وهتك الستر عما يُكرَه كشفه ((2))، فيعلم دور هذا الوغد الوقح في إذكاء نار الحرب على سيّد الشهداء (علیه السلام) وإغراء الذئاب المفترسة في نهش الأبدان الطيّبة والولوغ في الدماء الزكيّة الطاهرة.
ص: 149
أو إنّه من فيض ينابيع الحشمة والإباء والعزّة الهاشميّة تسامياً ورِفعةً على الأدعياء، وازدراءاً بأبناء البغايا المتسلّطين، واحتقاراً لابن زياد بالذات، وغيره من حضّار مجلسه الموبوء.
أو أنّها رعايةً لمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) وتعظيماً للإمام وتنزيهاً للخطاب الدائر بين السفير والمرسَل المقدّس من أن تدسّ فيه أنوف الأعداء العفنةوتسمعه الآذان الملوّثة، ولابدّ أن يحصّن الخطاب المرسل من هؤلاء المجرمين رعايةً للأدب مع الإمام (علیه السلام) وصاحب المقام.
قال ابن سعد والذهبي -- واللّفظ للأوّل -- : هذا الحسين بن عليّ قد أظلّك، فأرسِلْ إليه رسولاً فلْينصرف، فإنّ القوم قد غرّوه وخدعوه وكذبوه، وأنّه إن قُتِل لم يكن لبني هاشم بعده نظام، وعلَيَّ دَين أخذتُه منذ قدمت الكوفة فاقضه عنّي، واطلُب جثّتي من ابن زيادٍ فوارها ((1)).
وقال ابن قتيبة: إنّ الحسين ومَن معه وهم تسعون بين رجل وامرأة في الطريق فارددهم، واكتب إليهم بما أصابني ((2)).
ص: 150
وقال البلاذري: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً، سبعمائة درهمٍ أخذتُه مذ قدمتها، فاقضِها عنّي، وانظر إذا ما قُتِلتُ جثّتي، فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه ((1)).
وقال الدينوري: إنّ علَيّ هاهنا دَيناً مقدار ألف درهم، فاقضِ عنّي، وإذا أنا قُتِلتُ فاستوهب من ابن زياد جثّتي لئلّا يمثّل بها، وابعث إلى الحسينبن علي رسولاً قاصداً من قِبلك، يُعلِمه حالي وما صرتُ إليه من غدر هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم شيعته، وأخبِره بما كان من نكثهم بعد أن بايَعَني منهم ثمانية عشر ألف رجل، لينصرف إلى حرم الله فيقيم به، ولا يغترّ بأهل الكوفة ((2)).
وقال الطبريّ في إحدى رواياته: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنته منذ قدمتُ الكوفة، سبعمائة درهم، فاقضِها عنّي، وانظُر جثّتي فاستوهبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى حسينٍ مَن يردّه، فإنّي قد كتبتُ إليه أُعلمه أنّ الناس معه ولا أراه إلّا مقبلاً ((3)).
وقال ابن أعثم: أُوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنّ التقوى فيها الدرك لكلّ خير، وقد علمتَ ما بيني وبينك من القرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي أن تقضي حاجتي.
ص: 151
قال: فقال ابن زياد: لا يجب يا عمر أن تقضي حاجة ابن عمّك، وإن كان مسرفاً على نفسه، فإنّه مقتولٌ لا محالة.
فقال عمر بن سعد: قل ما أحبَبت يا ابن عقيل!
فقال مسلم (رحمه الله): حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم، فتبيعه وتقضي عنّي سبعمائة درهم استدنتُها في مصركم، وأنتستوهب جثّتي إذا قتلني هذا وتواريني في التراب، وأن تكتب إلى الحسين ابن عليّ أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي ((1)).
وقال ابن عبد ربّه والباعوني: إنّ حسيناً ومَن معه وهم تسعون إنساناً ما بين رجلٍ وامرأةٍ في الطريق، فاردُدهم واكتب لهم ما أصابني ((2)).
وقال أبو الفرج: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه مذ قدمتها تقضيه عنّي حتّى يأتيك من غلّتي بالمدينة، وجثّتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه ((3)).
وقال الشيخ المفيد والفتال: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم، فبِع سيفي ودرعي فاقضها عنّي، وإذا قُتلتُ فاستوهب جثّتي من ابن زياد فوارِها، وابعث إلى الحسين (علیه السلام) مَن يردّه،
ص: 152
فإنّي قد كتبتُ إليه أُعلمه أنّ الناس معه ولا أراه إلّا مقبلاً ((1)).
وقال الشجري: إنّ الحسين قد أقبل في سيافة وتراسه، وأُناسٍ من ولده وأهل بيته، فأبعث إليه من يحذّره وينذره فيرجع، فقد رأيت من خذلان أهل الكوفة ما قد رأيت ((2)).
وقال الطريحي والقندوزي وفي (مقتل) أبي مخنفالمشهور -- واللّفظ للأوّل -- :
فقال له: أوّل وصيّتي: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ مُحمّداً رسول الله، وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته. وثانياً: تأخذ درعي تبيعه، وتقضي عنّي سبعمائة درهم استقرضتها منذ دخلت إلى مصركم هذا. وثالثاً: أن تكتب إلى سيّدي الحسين يرجع ولا يأتي إلى بلدكم فيصيبه ما أصابني، فقد بلغني أنّه توجّه بأهله وأولاده إلى الكوفة ((3)).
يمكن جمع موادّ الوصيّة في النقاط الرئيسيّة التالية:
1 - الوصيّة بتقوى الله، فإنّ في التقوى الدرك لكلّ خير.
2 - إبلاغ سيّد الشهداء (علیه السلام) بخيانة القوم وخديعتهم وغدرهم
ص: 153
وتكذيبهم.
3 - إبلاغ سيّد الشهداء (علیه السلام) بما أصاب المولى الغريب (علیه السلام) .
4 - قضاء دَينه.
5 - طلب الجثّة من ابن زياد ومواراتها.
والآن نتناول كلّ واحدةٍ من النقاط المذكورة بشيءٍ من البيانالمختصر:
الوصيّة بتقوى الله أدبٌ دأب عليه أهل بيت النبوة (علیهم السلام) وصنائعهم المنتجَبة، بَيد أنّها هنا لها وقعٌ مميَّز، ودلالات محدَّدة، وتأثيرات فعّالة، وتلويحاتٌ نافذة، فهو يخاطب عمر بن سعد قاتل الحسين (علیه السلام) المعروف المشهور بفعلته هذه منذ عهدٍ بعيد، وقد عرفه بذلك الناس أجمعون ((1))، فعليه أن يتّقي الله، وينفذ الوصيّة بحذافيرها، فهو خائنٌ غير مؤتمن عند المولى الغريب (علیه السلام) ، ومفشٍ للسرّ، إضافةً إلى تحذيره من مغبّة فعلته الّتي ستنتهي به إلى الدرك الأسفل من الجحيم.
ولو أضفنا إلى الوصيّة بالتقوى الشهادات الثلاثة الّتي ذكرها القندوزي والطريحي والموجودة في (المقتل) لأبي مخنف المشهور، لتبيّن لنا إتمام الحجّة البالغة على اللّعين.
ص: 154
تبيّن لنا من خلال دراسةٍ سابقة أنّ البطل الهاشميّ وكبير آل عقيل(مسلماً (علیه السلام)) لم تكن «مهمّته الأساسيّة هي الثورة بأهل الكوفة ضدّ السلطة المحلّية الأمويّة فيها والتمهيد للقضاء على الحكم الأموي كلّه» ((1))، ولم يكن مكلَّفاً بذلك من قِبل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، بإجماع المؤرّخين وما وصل إلينا من نصوصٍ أتينا على ذكرها مفصَّلاً في محلّه..
وقد انكشف لنا -- من خلال معرفتنا بصلب مهمّته -- مدى دقّة العالِم الفقيه الأمين، وثقة سيّد شباب أهل الجنّة مسلم بن عقيل (علیهم السلام) ، في أداء مهمّته وتنفيذ ما شرّفه به ريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) من تكاليف ومسؤوليات.
وقد أدّى مهمّته ووفى وقام بما أُنيط به أحسن قيام، ولم يهن ولم ينكل، وإنّما مضى على بصيرةٍ من أمره مقتدياً بالصالحين..
وكان من مهمّته أن يقيّم الوضع، وينظر حال الناس، وما هم عليه من المواقف الموالية لأبي عبد الله (علیه السلام) ، حسب ما يُظهِره الناس من التودّد والاستعداد لا حسب واقع الأُمور؛ لأنّه والإمام (علیهما السلام) كانا يعرفان تماماً بما ستؤول إليه عاقبة المنكوسين.
وقد أتمّ ذلك ووفى، وقام به أحسن قيام، حيث نقل الصورة الّتي شاهدها بعينه، وصوّر الحالة التي عاشها بنفسه، ورسم ما لمسه فيهم من
ص: 155
الهيجان والغليان وإظهار الاستعداد والإعلان عن نصرة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكتب بذلك إلى الحسين (علیه السلام) بعباراتٍ واضحة صريحةدقيقة مختصرة رصينة.
وحينما خذله الناس وخذلوا إمامهم (علیه السلام) ، ونكثوا بيعتهم، وضيّعوا حظّهم.. كتب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) الثقة الأمين بذلك إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأوصل خبره من خلال الرسل أو الكتب الّتي كتبها..
وقد كتب عن طريق عبد الله بن يقطر ((1))، وكان الإبلاغ الثاني عن طريق ابن الأشعث (لعنه الله) بعد الأسر ((2))، ثمّ كان الإبلاغ الثالث هنا عند الوصيّة.
وقد ترتّب على هذه الإبلاغات من الفوائد العظيمة والآثار الجمّة الجسيمة، غير ما فيها من إقامة الحجّة وكشف المحجّة وبذل غاية المجهود واتخاذ كلّ ما يلزم واستخدام جميع الوسائل لتنفيذ المهمّة واستقراء الوضع وتبليغه لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، على أكمل وجه ((3)).
ص: 156
ورد هذا البند من الوصيّة في بعض المصادر، وهو يحمل الشكوى ويبثّ الألم لسيّده ومولاه (علیه السلام) ، ويبلّغه بتفاصيل ما جرى عليه، ليكون دقيقاً في نقل الصورة، وشاملاً في رسم المشهد بكلّ جزئيّاته وملامحه، فكلّ أمرٍ يمكن أن يكون له علاقة بتنفيذ المهمّة الموكولة، وهي استطلاع الوضع وإبلاغ الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) بمواقف الناس، فهو لا يألوا جهداً في إيصاله.
إضافةً إلى ما يتضمنّه هذا الإبلاغ من الإشارة إلى تسجيل مواقفه (علیه السلام) وإطلاع أهله وذويه والمترقّبين لسماع أخباره عبر التاريخ..
ولا يخفى ما فيه من إقامة الحجّة على ابن سعدٍ نفسِه والرسول ومَن سيستمع إليه بعد تسريب الوصيّة، إذ يصرّح المولى الغريب (علیه السلام) بخذلان القوم ونكثهم البيعة وخضوعهم لابن الأمة الفاجرة..
المصادر الّتي ذكرت الوصيّة كلّها ذكرت قضاء الدَّين كبندٍ من بنود الوصيّة، فلماذا استدان المولى الغريب (علیه السلام) ، ولأيّ غرض؟ هل كان لحاجةٍ شخصيّة، أو كان لإنجاز عملٍ ما له علاقة بحركته في الكوفة؟ والحال أنّهم يزعمون أنّه كان يجمع المال ويقبضه عنه بعض خواصّ أصحابه وأنصاره،
ص: 157
كما يصوّرونه في قصة مَعقِل ((1)) الجاسوس.ممّن استدان؟
المصادر كلّها لم تذكر في متونها -- إشارةً ولا تلويحاً -- أسماء أصحاب المال الّذين ينبغي أن يردّه عليهم ابن سعد، والمبلغ -- كما يبدو -- لا يُعدّ مبلغاً ضخماً! ولم يذكر التاريخ أيضاً ولو الإشارة إجماليّة إليهم، كأن يقول: فذكرهم له، وما شاكل.
كيف كان! فإنّ الاستدانة والاستقراض لا تعدّ منقصة، فقد قضى الأئمّة المعصومون (علیه السلام) وكانت عليهم ديون وعِدات للناس، ولا يخفى ذلك على من اطّلع على الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت (علیه السلام) وروايات التاريخ.
أمّا ما رُوي في الخبر عن أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) : عن أبي الجحّاف، عن أبيه، أنّ رجلاً من الأنصار أتى الحسين (علیه السلام) ، فقال: إنّ علَيّ ديناً، فقال: «لا يقاتل معي مَن عليه دَين» ((2)).
وعن موسى بن عمير، عن أبيه قال: أمر الحسين منادياً، فنادى: لا يُقبِل معنا رجلٌ عليه دَين. فقال رجل: إنّ امرأتي ضمنت دَيني، فقال حسين (علیه السلام) : «وما ضمان امرأة؟» ((3)).
ص: 158
فإنّها أخبار عاميّة السند والمصدر، ولم أقف عليها في كتبنا فضلاً عنطرقنا، بل ورد في كتبنا وطرقنا وطرق غيرنا ما هو خلاف ذلك تماماً.
فقد رُوي مسنَداً عن معاوية بن وهب قال: قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام) : إنّه ذكر لنا أنّ رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران ديناً، فلم يصلِّ عليه النبيّ (صلی الله علیه و آله) وقال: صلّوا على أخيكم، حتّى ضمنهما عنه بعض قراباته.
فقال أبو عبد الله (علیه السلام) : «ذاك الحقّ». ثم قال (علیه السلام) : «إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنّما فعل ذلك ليتّعظوا، وليردّ بعضهم على بعض، ولئلّا يستخفّوا بالدين، وقد مات رسول الله (صلی الله علیه و آله) وعليه دين، وقُتل أمير المؤمنين (علیه السلام) وعليه دين، ومات الحسن (علیه السلام) وعليه دين، وقُتِل الحسين (علیه السلام) وعليه دين» ((1)).
وعن عمر بن عليّ بن حسين، عن أبيه قال: «قُتل الحسين بن عليّ (علیهما السلام) وعليه دَين كثير، فباع فيها عليّ بن حسين عين كذا وعين كذا» ((2)).
ورُوي عن جعفر بن محمّد (علیهما السلام) أنّه قال: «أُصيب الحسين (علیه السلام) وعليه دين بضعٌ وسبعون ألف دينار» ((3)).
وعن أبي جعفر (علیه السلام) : «إنّ الحسين (علیه السلام) قُتِل وعليه دَين، وإنّ عليّ بن
ص: 159
الحسين زين العابدين (علیه السلام) باع ضيعةً له بثلاثمائة ألف ليقضي دين الحسين (علیه السلام) وعِدات كانت عليه» ((1)).
وقال ياقوت الحموي: عين يحنس كانت للحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، استنبطها له غلامٌ يقال له: (يحنس)، باعها عليُّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، من الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان بسبعين ألف دينار، قضى بها دَين أبيه، وكان الحسين (علیه السلام) قُتل وعليه دَينٌ هذا مقداره ((2)).
ورُوي أنّ جابراً قال: استشهد والدي بين يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوم أُحد وهو ابن مائتي سنة، وكان عليه دَين، فلقيني رسول الله (صلی الله علیه و آله) يوماً فقال: ما فعل دَين أبيك؟ قلت: على حاله. فقال: لمن هو؟ قلت: لفلان اليهودي. قال: متى حينه؟ قلت: وقت جفاف التمر. قال: إذا جففت التمر فلا تحدث فيه حتّى تعلمني، واجعل كلّ صنفٍ من التمر على حدة.
ففعلتُ ذلك، وأخبرته (صلی الله علیه و آله) ، فصار معي إلى التمر وأخذ من كلّ صنفٍ قبضةً بيده وردّها فيه، ثم قال: هاتِ اليهودي. فدعوته، فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله) : إختَر من هذا التمر أيّ صنفٍ شئت، فخذ دَينك منه. فقال اليهودي: وأيّ مقدارٍ لهذا التمر كلّه حتّى آخذ صنفاً منه؟ ولعلّ كلّه لا يفي بديني! فقال: إختر أيّ صنف شئتَ فابتدئ به.
ص: 160
فأومأ إلى صنف الصيحاني، فقال: أبتدئ به؟ فقال: إفعل باسم الله.
فلم يزل يكيل منه حتّى استوفى منه دينه كلّه، والصنف على حاله ما نقص منه شيء.
ثمّ قال (صلی الله علیه و آله) : يا جابر، هل بقيَ لأحدٍ عليك شيء من دينه؟ قلت: لا. قال: فاحمل تمرك، بارك الله لك فيه.
فحملتُه إلى منزلي، وكفانا السنة كلّها، فكنّا نبيع لنفقتنا ومؤونتنا ونأكل منه، ونهب منه ونهدي، إلى وقت التمر الحديث، والتمر على حاله إلى أن جاءنا الحديث ((1)) [الجديد] ((2)).
والأحاديث والأخبار في ذلك كثيرة، ولا نريد الإطالة هنا في مناقشة ما رواه العامّة عن أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) .
عرفنا فيما سبق أنّ جملةً من المؤرّخين والعلماء لم يذكروا الوصيّة من رأس، وأنّ الذين ذكروها اختلفوا في ذكر الدين في بنودها بين مَن لم يذكره أصلاً، من قبيل ابن قتيبة وابن عبد ربّه والباعوني والشجري والبري ((3)).وبين مَن ذكره إجمالاً ولم يحدّد مقداره: «وعلَيّ دَين منذ قدمت
ص: 161
الكوفة، فاقضه عنّي»، من قبيل ابن سعد والذهبي وأبي الفرج وابن نما ((1)).
وبين من حدّده بسبعمائة درهم، من قبيل البلاذري والطبريّ وابن أعثم والمفيد والفتال والخوارزمي وابن الأثير والنويري والطريحي ((2)).
وفي (الأخبار الطِّوال) للدينوري، و(المقتل) المشهور لأبي مخنف: مقدار ألف درهم ((3)).
جاء بند قضاء الدين في جملةٍ من المصادر مطلقاً من دون تحديد لمصدر المال الّذي سيُقضى منه الدين: «فاقضه عنّي» ((4)).
وجاء في مصادر أُخرى بلفظٍ يفيد توفير المال من بيع الفرس والسلاح
ص: 162
والدرع: «تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم، فتبيعه وتقضي عنّي» ((1))، «فبِع فرسي ودرعي، فاقضها عنّي» ((2))، «تبيعون درعي هذا وتوفون عنّي» ((3)).
وفي نقل أبو الفرج: «تقضيه عنّي حتّى يأتيك من غلّتي بالمدينة» ((4)).
ومن البديهي أنّ المولى الغريب (علیه السلام) لم يكن محتاجاً لابن سعد ولا لغيره، والدَّين في الكوفة لم يكن نتيجة الحاجة والفقر -- والعياذ بالله --، تماماً كما كان يستدين أهل البيت (علیه السلام) لا عن فقر وعوز، والمولى الغريب (علیه السلام) أنبل وأعزّ وأجلّ وأكرم، والإباء الهاشمي الساري في دمه وعروقه، والشمم الطالبي المتجذّر في شخصه وشعوره، تأبى له أن يطلب من أحدٍ من الناس فضلاً عن اللعين ابن سعد مالاً، وهذا الطلب يختلف تماماً عن أصل الوصيّة، وفي حال دفع المولى الغريب (علیه السلام) الدين من ماله بأيّ طريق لا يكون ابن سعد سوى منفِّذاً للوصيّة، ليس إلّا.
فلا يبعد أن يكون هذا الأمر والتكليف صدر من المولى الغريب (علیه السلام) لابن سعد باعتبار ما لديه من النفوذ عند الناس والحظوة عند ابن الأمة
ص: 163
الفاجرة، ممّا يؤهّله لاستعادة سلاحه وفرسه الذي يفي بدينه، وهو يتضمّن التشنيع عليهم والمطالبة بحقّه، إذ لا يرى لهم حقّاً في سلبه والاستحواذ على أمواله الشخصيّة من فرسٍ وسلاح.
كيف كان فإنّ المولى الطالبي الأبي أمر بتسديد الدين من ماله، إمّا بالاسترداد أو بالغلّة القادمة من المدينة على رواية أبي الفرج.
نصّ على هذا البند من الوصيّة كلٌّ من ابن سعد والذهبيّ والبلاذري والدينوري والطبري وابن أعثم وأبي الفرج والشيخ المفيد، ولم يذكره ابن قتيبة وابن عبد ربّه والباعوني والشجري والطريحي والقندوزي.
وقد صرّح الدينوري في نقله لكلام المولى الغريب (علیه السلام) عن سبب ذلك فقال: «وإذا أنا قُتلت فاستوهِبْ من ابن زياد جثّتي لئلّا يمثّل بها».
وفي ذلك إشارة واضحة من المولى الغريب (علیه السلام) إلى علمه بنذالة ابن الأمة الفاجرة وبما سيجري على جثّته المقدّسة، وإلّا فمَن يقتل يدفن ولا يحتاج إلى وصيّة تؤكّد على دفن جثّته.
ذكر الطريحيّ والقندوزي وأبي مخنف في (المقتل) المشهور وهمينقلون نصّ وصيّة المولى (علیه السلام) إنّه قال: أوّل وصيّتي، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ مُحمّداً رسول الله، وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته..
ص: 164
ولا يبعد بعد المتابعة أن يكون المصدر الأوّل لهذا النقل هو المقتل لأبي مخنف النسخة المشهورة المتداولة، فالقندوزيّ يصرّح أنّه يروي ذلك عن أبي مخنف ((1))، واتّحاد النصّ ودأب الشيخ الطريحي على النقل عن النسخة الشائعة لأبي مخنف يؤكّدان أنّه المصدر له، فيكون المقتل المشهور هو المصدر الأوّل لذكر الشهادة الثالثة.
ومع إثبات صدورها عنه (علیه السلام) تكون سابقة تاريخيّة ((2)) كتسجيل لسيرة المتشرّعة والتزام المؤمنين بالشهادة الثالثة ومقارنتها للشهادتين والتصريح بها والإعلان عنها في الوصيّة وغيرها.
كما يستفاد من إصحار المولى (علیه السلام) بها علناً أمام هذا الوغد الدنيء ابن سعد وسيّده وراعيه ابن زياد، ليقيم الحجّة عليهم بإسماعهم -- ومن بلغ --الحقّ ودحض الباطل، وردم السقيفة على مَن فيها بقوله: «وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته».
ص: 165
ذكر ابن قتيبة ضمن الوصيّة قولاً للمولى الغريب (علیه السلام) يصرّح فيه بعدد القادمين مع سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال: إنّ الحسين ومن معه وهم تسعون (إنساناً) ((1)) بين رجلٍ وامرأة في الطريق، فاردُدْهم ... ((2))،ثمّ جاء من بعده ابن عبد ربّه والباعوني فذكروا نصّ عبارته تقريباً.
وقال البري: فإنّي تركتُه ومَن معه وهم تسعون إنساناً على الخروج من مكّة، وإنّهم الآن في الطريق ((3)).
وأجمل الشجري فلم ينصّ على عددٍ معيَّن، فقال: إنّ الحسين قد أقبل في سيّافه وترّاسه وأُناسٍ من وُلده وأهل بيته ((4)).
ولم ترد الإشارة للعدد في بقيّة المصادر -- حسب فحصنا -- لا إجمالاً ولا تفصيلاً، ويمكن مناقشة ذلك بالمناقشات التالية:
غاية ما كان يهمّ المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) أن يوصِل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) الصورة الّتي آلت إليها عاقبة المنكوسين في الكوفة، إذ
ص: 166
إنّه كان مكلَّفاً بهذه المهمّة مِن قِبل سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويكفي في ذلك أن يبلّغه بمجريات الأحداث وخذلان الأدعياء، فأيّ ضرورةٍ تدعو لكشف عدد القادمين -- رجالاً ونساءاً -- للأعداء؟! وماذا سيترتّب على هذا الكشف من فوائد لسيّد الشهداء (علیه السلام) أو للمولى الغريب مسلم (علیه السلام) ، وهل أنّ هذا العدد القليل من السيّافة والتراسة القادم سيؤثّر على الجرو الأموي أو سيّده القرد القابع في الشام؟!
ثمّ إنّ العدد المذكور على لسان المولى الغريب (علیه السلام) لا يتجاوز التسعين إنساناً رجالاً ونساءاً، وقد عدّ الشيخ الحائري في (معالي السبطين) الّذين خرجوا مع سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة فأنهاهم إلى مائةٍ واثنين وعشرين، ثمّ قال: فهؤلاء الّذين ذكرناهم غير أُولئك الّذين صحبوا الحسين (علیه السلام) بمكّة من الرجال والنساء حين إقامته هناك ((1)).واحتمال أن يكون العدد الخارج في الركب الحسيني من المدينة أكبر ممّا ذكره الشيخ الحائري (علیه السلام) قريبٌ جدّاً لو تسنّى للباحث أن يحصيهم ويعدّهم عدّاً دقيقاً.
وكيف كان، فإنّ العدد الأقلّ في الإحصائيّات لمن خرج بهم سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة أكبر من العدد المزعوم الّذي يفترضهم قد خرجوا
ص: 167
معه من مكّة.
قوله: (فإنّي تركته ومن معه ... على الخروج من مكّة..)، والحال أنّ مسلم لم يتركه على الخروج! بل كان خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكّة يوم شهادة مسلم (علیه السلام) أو قبلها بيوم، فهو لم يقل أنّي أرسلتُ له كتاباً أدعوه فيه للقدوم، وقد وصل إليه الكتاب فربما استجاب وهو على الخروج الآن، وإنّما يقول حسب النصّ: فإنّي تركته ... على الخروج من مكّة.
مشهد خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من المفاصل الضروريّة في دراسة قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ويمكن من خلال معرفتها بشكلٍ دقيق تمييز الكثير من التصوّرات والانعكاسات المهمّة والمؤثّرة في فهم القيام، بيد أنّ دراسة ذلك لا يسعها هذا البحث، ويمكن أن نقول هنا بكلمةٍ واحدة:
إنّ الإمام الحسين (علیه السلام) لم يخرج من المدينة بسيافه ولا تراسه، وإنّماخرج من المدينة خائفاً يترقّب في أهل بيته، وقد أمر القرد الأُمويّ التائه في قصر دمشق واليه على المدينة بأخذ البيعة من سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) أو إرسال رأسه المقدّس مع جواب الكتاب، فبات الإمام (علیه السلام) في مدينة جدّه مهدَّداً، مُباح الدم، مطلوباً للقتل، ومعرَّضاً في كلّ آنٍ لأن تُهتَك به حرمة المدينة المنوّرة، فخرج -- فداه العالمين -- متوجّهاً إلى مكة، ولم يبد على
ص: 168
حركته (علیه السلام) من المدينة أنّه عازمٌ على القيام أو ما يسمّونه ب- (الثورة)، ولم يصرّح أيّ تصريح يفيد ذلك.. وغاية ما فعله ثمّة أنّه تقبّض عن البيعة، ثمّ شكى لجدّه النبيّ (صلی الله علیه و آله) أنّ القوم استضعفوه وخذلوه وضيّعوه، كما في (الفتوح) لابن أعثم.
وكذلك الأمر في خروجه من مكّة، حيث أُبيح دمه، ودُبّر اغتياله ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، فخرج منها متوجّهاً إلى الكوفة، حيث كانت ثمّة بعض الأصوات الواعدة بالنصر والدفاع عنه وفق ما ورد عليه من كتبهم ورسلهم، وهو عالمٌ جازمٌ متيقّن تماماً وعدَ الله وأنّه مقتول، فأصحر لمن معه وللعالمين بما قاله في البيان العظيم يوم قام فخطب وقال: «خُطّ الموت على ولد آدم..»، إلى قوله (علیه السلام) : «فمَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق لم يبلغ الفتح».
ولم ينقل لنا التاريخ أنّ ركب سيّد الشهداء (علیه السلام) كان ركب حربٍ وقتال وهجومٍ مدجَّج بالسلاح ومثقل بالحديد والرماح، بل كان صورته فيالمنطلقَين (المدينة ومكّة) على العكس من ذلك تماماً، فهو مجموعة من النساء والأطفال وعدد من الشبان والفتيان من ذوي الأعمار الّتي لا تبلغ مرحلة الشباب أحياناً، من أمثال القاسم بن الحسن وأترابه من أولاد عقيل وأحفاده (علیهم السلام) ، وأكثرهم كان ممّن لم يباشر قبل يوم الحسين (علیه السلام) قتالاً ولا مارس حرباً، رغم أنّهم أبهروا العقول وأذهلوا التاريخ وأبدوا مهارات قتاليّة عالية لم يعهد صناديد عسكر السقيفة لها مثيلاً، لكن بالرغم من ذلك فإنّ
ص: 169
قبل يوم الطف لم يكن هؤلاء الأبطال معروفين كرجال حربٍ بين الناس، فهم بين شابّ فتي وبين فتىً لم يبلغ الحلم أو إنّه راهق، فالركب في ظاهر الحال لم يكن ركباً عسكريّاً إلّا في بعض رجاله، من قبيل نفس الإمام الحسين (علیه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السلام) .
وحملُ مقدارٍ من السلاح يحمي به المسافر نفسه ومن معه كان من ضروريّات السفر يومئذٍ، فلا يُعدّ المسافر الحامل للسيف أو الرمح أو كنانة النبل والقوس محارباً، وإنّما هي طبيعة الحركة في صحراء قاحلة معرضة للسلب والنهب والتبييت.
ومن الواضح أنّ العدد الكبير من النسوة والأطفال الّذي ربما كان يربو كثيراً على عدد الرجال الكبار، وقد خرج هؤلاء النسوة في كفالة من معهنّ من الرجال، فلابدّ أن يحملوا السلاح لحماية الركب رجالاً ونساءاً وشبّاناًوأطفالاً.
هذا، والركب ليس ركباً عادياً يقطع الصحراء ليصل إلى مدينةٍ ما، بل هو ركبٌ مهدَّد قد خرج من المدينة والوالي مأمورٌ بقتل سيّدهم وإمامهم، وخرج من مكة بعد أن بيّتوا قتله واغتياله، وأزلام القرد الأموي ينتهزون منه الغرّة، ولا زالت كلاب السقيفة تعوي وتنتشر في كلّ منزلٍ وماءٍ وقرية ومدينة، بل إنّ ذئاب الغابة الأموية كانت تجوب الصحراء.
فمن الطبيعي إذن أن يحمل الركب معه مقداراً من السلاح ليحمي نفسه ومن معه، وهذا المقدار من السلاح لا يعبَّر عنه (بالسيافه والتراسة)،
ص: 170
لما في هذا التعبير من إيقاع حربيّ وجرس تحذيري، وهو مُشعِر بالإعداد والتسربل بالسلاح، وكأنّهم جيشٌ يُقلِق الصحراء باصطكاك عدّته وصهيل خيّالته ورجّالته.
وهل يُعدّ التسعون إنساناً رجالاً ونساءاً جيشاً قد خرج بالسيافة والتراسة؟!!
هذا باختصار ربما يكون مخلّاً، غير إنّه كافٍ هنا لما نحن فيه، إذ يكشف لنا أنّ حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكة لم تكن في صورة جيش وعسكر قادم على حرب وقتال، ولم يبدُ عليها أنّها كانت حركةً هجوميّة، وربما كان هذا التصوير كلّه من أضاليل الأمويين.
استعرضنا قبل قليل تحت عنوان (هل كانت الوصيّة سرّاً) أقوالَ المؤرّخين، وربما يرجح للمتأمّل أنّ الوصيّة لم تكن سرّاً من قِبل المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، إلّا على ما صرّح به الطبري، فربّما كان للعدوّ غرضٌ في عرض الوصيّة كسرٍّ ليوحي إلى الناس أنّ ثمّة أموراً كانت تحدث في الخفاء، وأنّ ثمّة دسائس تُحاك، وأنّ أموراً عظيمة خفيت على الناس وانكشفت للوغد القابع في قصر الخبال، فسوّغت له قلقه وإقدامه على جريمة قتل البطل الهاشمي (علیه السلام) .
فتهويل الأمر، واستِجاشة القوم بالغوامض، وإثارة هواجسهم بالأسرار،
ص: 171
وتحريك مخاوفهم بالألغاز، وإرعابهم بما يخبّئ لهم المستقبل القريب القادم مع ركب الشهادة الحسيني، كلّ هذا وغيره من الأغراض المهمّة التي يوظّفها الجرو الأموي في الحرب النفسيّة والتعبئة للأيام القادمة، وتسويغ التجييش والفروض الاحترازية الّتي ينوي الإقدام عليها، بما فيها قتل المولى الغريب (علیه السلام) والطيّبين من شيعة سيّد الشهداء (علیه السلام) والمناصرين لمسلم بن عقيل (علیه السلام) آنئذٍ.
* * * * *
كيف كان! فإنّ جملةً من المصادر اعتبرت الوصيّة سرّاً من قِبل الأوغاد، وبناءاً عليه فإنّ جرذ شجرة القرود الأموية القذر قد أفشاه معتأكيده على سرّيته، وقد انقسمت المصادر كالعادة، فمنها من جعلته هو المبادر، ومنها ما جعلته مستجيباً لأمر الجرو الأموي ابن زياد.
قال ابن سعد وتبعه الذهبي: فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ فأخبره بما قال.. ((1)). وهو يفيد أنّ ابن زياد هو الّذي بادر وحثّ على الإفشاء، وكأنّه كان ينتظر انتهاء اللّقاء بين المولى الغريب (علیه السلام) وابن سعد ليطّلع على ما قاله وما أوصى به.
ص: 172
جاءت مبادرة ابن سعد في المصادر بصورتين:
ورد في جملةٍ من المصادر أنّ عمر بن سعد لم يستأذن ولم ينتظر موقفاً من ابن زياد، وإنّما بادر بدنائته وخسّته ولؤمه إلى إلقاء الخبر مباشرة، وإفشاء السرّ فوراً، وكأنّه جاسوس مخوَّل وعين مكلّف بمهمّةٍ يلزمه أن يقدّم عنها تقريراً فور الحصول على أيّ معلومة، فهو مستعجلٌ في أداء الواجب.وقد اختلفت عبارات المؤرّخين في التعبير عن هذه المبادرة الهابطة، غير أنّها اتّفقت على أنّ ابن سعد هو المبادر:
قال البلاذريّ وابن نما: فقالوا: فأخبر عمر بن سعد ابنَ زياد بما قال له ((1)).
وقال الدينوري: فانصرف إلى ابن زياد، فأخبره بكلّ ما أوصى به إليه مسلم ((2)).
قال ابن أعثم والخوارزميّ وابن الأثير -- واللّفظ للأوّل -- : فالتفت عمر ابن سعد إلى عبيد الله بن زياد، فقال: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا ((3)).
ص: 173
وقال ابن كثير: فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له ((1)).
وفي (مقتل) أبي مخنف المشهور: ثمّ التفت إلى ابن زياد (لعنه الله) وأخبره بما أوصاه ((2)).
هنا أيضاً العبارات متقاربة، وهي تحكي قصّةً واحدةً مؤدّاها أنّ الرجس الزنيم ابن سعد سأل ابن زياد عمّا إذا كان يريد سماع الوصيّة.
قالوا: وألقاه عمر لعبيد الله وقال: أتدري ما قال؟ ((3))
فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ ((4)) إنّه ذكر كذا وكذا ((5)).
فلمّا انصرف عنه عمر بن سعد قال لابن زياد: أتدري ما قال لي مسلم؟ ((6)).
فقال عمر لابن زياد: أتدري ما سارّني؟ ((7))
ص: 174
وصيغة السؤال هنا إمّا أن تكون استئذاناً للإفشاء، باعتبار خسّة ابن سعد ودناءته وتملّقه البارد لمولاه.
أو إنّه استثارة وتهويل وتحريض واستجاشة للجرو الأموي، وتحرّش يفضي إلى الإقناع بضرورة الاستعداد للحرب القادمة، ويؤكّده قول ابن سعد: «قال: هو أعظم من ذلك».
* * * * *
تبيّن من خلال استعراض النصوص أنّ ابن سعد وحده أكّد على أنّالمبادر كان ابن زياد، وباقي النصوص جميعاً تؤكّد أنّ المبادر هو الدعي المتوثّب لقتال سيّد الشهداء (علیه السلام) ابن سعد.
وقد جمع الشجريّ بين الحالتين، فجاءت عبارته مرتبكة، قال: «فقال له عبيد الله: ما قال لك هذا؟ قال: قال لي: كذا وكذا. وجاء عبيد الله، فأخبره الخبر، فقال عبيد الله: إنّه لا يخون الأمين، ولكنّه قد يؤتمن الخائن ((1)).
ففي المقطع الأوّل من عبارته يذكر أنّ ابن زياد بادر فسأله، وفي المقطع الثاني يقول: جاء عبيد الله فأخبره الخبر، والتفريع في «فأخبره» على المجيء يفيد مبادرة ابن سعد.
وبالرغم من تفرّد ابن سعد فإنّ عبارته لا تفيد الجزم، إذ يمكن أن يكون «ما قال لك» الّتي قالها ابن زياد بعد تدفّق عفن ابن سعد في
ص: 175
الإفشاء كما هو في سائر المصادر الأخرى، بيد أنّها اختصرت أو حذفت عند ابن سعد.
قال ابن قتيبة: قالوا: فقال عبيد الله: إكتم على ابن عمّك. فقال عمر: هو أعظم من ذلك. فقال ابن زياد: فأيّ شيءٍ هو؟ قال: أخبرني أنّ الحسين ... ((1)).قال: اكتم على ابن عمّك. قال: هو أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي: إنّ حسيناً أقبل.. ((2)).
وقال أبو الفرج: اكتم ما قال لك. قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنّه لا يخون الأمين ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا ((3)).
وقال البري: فلمّا انصرف عنه عمر بن سعد قال لابن زياد: أتدري ما قال لي مسلم؟ قال: اكتم على ابن عمّك. قال: الأمر أعظم من ذلك. قال: اكتم على ابن عمّك. قال: الأمر أعظم من ذلك. قال: اكتم على ابن عمّك. فلمّا أكثر على ابن زياد فيما قال له مسلم، قال له: قل.. ((4)).
وقال النويري: فقال عمر لابن زياد: أتدري ما سارّني؟ فقال: أكتم
ص: 176
على ابن عمّك. فقال: الأمر أكبر من هذا. قال: أكتم على ابن عمّك. قال: الأمر أكبر من هذا. وأخبره بما قال ((1)).
وقال الدينوري: فقال له ابن زياد: قد أسأتَ في إفشائك ما أسرّه إليك، وقد قيل: إنّه لا يخونك، إلّا الأمين، وربما ائتمنك الخائن ((2)).
وقال الطبريّ وجماعة: قال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين،ولكن قد يؤتمن الخائن ((3)).
وفي (المقتل) المشهور لأبي مخنف: فقال ابن زياد (لعنه الله): قبّحك الله من مستودَع سرّاً، والله لو إنّه باح إليّ سرّه لكتمتُ عليه وقضيتُ حاجته ((4)).
يمكن ملاحظة عدّة إشارات وردت في هذه النصوص:
ذكرت بعض المصادر -- وأقدمها (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة -- أنّ ابن سعد عرض على الجرو الأموي الاستماع إلى الوصيّة، وكأنّه قد اكتشف سرّاً عظيماً واستخرج كنزاً ثميناً يعادل في أقلّ تقاديره حياة الجرو اليزيدي،
ص: 177
ويحتوي على أسرار القضاء على القرد الأموي، واستئصال الشجرة الخبيثة الملعونة، وتفريق القرود المترنّحة على أغصانها.
وليس في وصيّة المولى الغريب (علیه السلام) ممّا يأبه له ابن زياد سوى قضيّة الإخبار بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من مكّة، أمّا باقي البنود فهي وصايا شخصيّة لا تهمّ ابن زياد من قريبٍ ولا من بعيد، بل لقد تظاهر بعدم اكتراثه بالبند الخاص بخروج سيّد الشهداء (علیه السلام) كما سيأتي بعد قليل إن شاء الله.بيد أنّ الوحش الكاسر ابن سعد كان يريد أن يسجّل موقفاً يُثبِت به يداً عند ابن الأمة الفاجرة، ويصحر بالولاء المطلق والاهتمام الحاسم الجاد في شأنٍ من الشؤون الحسّاسة المؤثّرة في مجريات الأحداث.
ونسي أو تناسى الوحش المسعور من أجل تحقيق أغراضه أنّ قصّة خروج سيّد الشهداء (علیه السلام) من المدينة وعزمه على التوجّه إلى الكوفة باتت من أكثر الأخبار شيوعاً في الكوفة، وقد تداولتها المخدّرات في خدورهن، وكاتب أهلُها سيّدَ الشهداء (علیه السلام) ودعوه دعواتٍ متتالية متوالية، ولم يهزّ الكوفة ويزلزلها آنئذٍ إلّا هذا الخبر الّذي قدم من أجله المولى الغريب مسلم ابن عقيل (علیهما السلام) الكوفة حتّى أدخل إلى القصر وأوصى لابن سعد.
فما معنى هذا التهويل والتعظيم لخبرٍ لا يكاد يخفى على أحد يومذاك؟!!
ص: 178
إنّ ابن زياد الطاغية النزق الأرعن لا يعرف القيَم ولا يحترم شرعة ولا يلتزم منهاجاً، فهو أبعد ما يكون حتّى عن أبسط القيَم الجاهليّة الخرقاء، فضلاً عن القيم الإنسانية أو الموازين الإسلامية.
وقد ثبت ذلك كأوضح ما يكون في سلوكيّاته وتعامله من قبل، وبان بما لا يحتاج إلى شاهدٍ وبرهان خلال تعامله مع قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) .فلا يمكن أن يُتصوّر فيه إصراره على الكتمان وإعراضه عن سماع السرّ وابن سعد يؤكّد له أنّ الأمر أعظم من ذلك، للأسباب التالية:
هذا ما أشرنا إليه قبل قليل، إذ أنّ دعيّاً تنعقد نطفته من سيول مياه الزناة ويكتنفه رحمٌ شهد أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) أنّه لأمةٍ فاجرة، وهو يتوارث هذه النطفة القذرة من أبيه ابن سميّة صاحبة الراية حتّى تنازع فيه الزناة، فلصقه معاوية (وهو ابن هند) بأبي سفيان، وكان ولا زال لم يُعرَف له أب، فدُعي: زياد ابن أبيه.
لقد شبّ وكبر في مستنقع آسن يزكم الأُنوف، ورعى في دمن القرود الأموية الفاجرة الخليعة، متقلّباً بين أحضان المومسات الرخيصات، يرضع منهنّ صديد الخيانة ويرتوي من قيء القرود الثملة مسكرات الدسائس والغوائل والتنكّر للحقّ وأهله.
كيف يكون مثل هذا النبت المشوّه الممسوخ الغاطس في أوحال
ص: 179
الدناءة والخسّة واللؤم، والمتشبّث بلزوجة قاع النسب الخامل اللئيم، والمرتكس في مزابل الخُلق الذميم، والمغروز في خمائر المكر والحيلة والغشّ والاحتيال، كيف يكون مثل هذا متمسّكاً بالأمانة، ومؤكّداً على رعايتها، ومعرضاً عن الخيانة وخائفاً من عواقبها، حتّى لا يرضى لابن سعد أن يفشي سرّ ابن عمّه! ويشيح بوجهه القبيح عنه ثلاث مرّات! ولا يقبل منهالخيانة إلّا بعد إصرار؟!
إنّ ابن الأمة الفاجرة كان في موقفٍ حرج، وقد سارت مجريات الأحداث بشكلٍ جعلته خائفاً مرتبكاً لا يدري ماذا يخبّئ له القدَر من مواجهة تعقب شهادة المولى الغريب (علیه السلام) إن قتله، فهو في أمسّ الحاجة لاستطلاع أيّ خبرٍ يمكن أن يعينه على مستقبل أيامه، بل الساعات القليلة القادمة من يومه.
فكيف يُغضي عن خبرٍ ربما يودي تجاهله بحياته وحياة القرد الشامي المجدور، ويأتي على جذور الشجرة الملعونة فيجتثّها ويطهّر المنبر النبوي من نزوها؟!
كان ابن زيادٍ في مواجهةٍ حقيقيّةٍ مع المولى الغريب وسيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو يترصّد كلّ شاردةٍ وواردة يمكن أن يوظّفها في تسريع القضاء على خامس أصحاب الكساء (علیهم السلام) ، وقد بثّ -- كما يقولون --
ص: 180
جواسيس وعيوناً، ونظم الصحراء بالخيل والرجال، وزرع في كلّ مناطق الكوفة ما يستكشف به واقعها المتحرّك في الشوارع والأزقّة أو المكنون خلف جدران الدور وأسوار الضياع.
فهو قد مارس التجسّس، وقد شهد له التاريخ بذلك، والتجسّسواستجماع المعلومات بأيّ طريقٍ كان من ضرورات الحروب سابقاً ولاحقاً، فكيف يأنف عن إفشاء السرّ وهو يدفع لاستكشاف الأسرار المال والرجال؟!
للطواغيت سلوكيات خاصّة، فربما تظاهروا في تصرفاتهم بسلوكٍ لا يأبهون به ولا يقيمون له وزناً، إمّا لموقفٍ سياسيّ أو لمكاسب اجتماعيّة أو مراعاة مصالح شخصيّة أو حكومية، وغير ذلك من الدواعي.
وربما تعمّد الطاغوت سلوكاً معيّناً ليكون طُعماً يلقمه الراوي والمؤرخ، فيرويه عنه ويسجّل له فضيلةً ومنقبة وسلوكاً حسناً، ويتبجّح بمستوىً رفيع من التحلّي بالمحاسن والمكرمات، وهذا الرياء ينطوي على البسطاء السذّج، ويتلقّفه المصلحيّون والوصوليّون والمتملّقون والنفعيّون، ويعتقد به أصحاب القلوب المريضة والمطعونون.
لذا ترى الطاغية يحسب له ألف حساب، وقد رأينا ذلك جليّاً في سلوك إفرازات السقيفة من الحكام، إذ التزموا الصلاة والصيام، وتظاهروا
ص: 181
بالنسك والعبادة والتهجّد والقيام، وهم بعد لحظاتٍ تضجّ لياليهم بالمزامير والقيان وتبادل كؤوس المدام، وكم من موقفٍ تحلّم فيه وهو يتميّز حقداً وغيضاً ليسجّل له عبر روايات المؤرّخين، ثم يبادر إلى دسائس كوامنه وضغائنه وأحقاده فيقتل أو يغتال.فلا يبعد أن يكون تصرّف ابن الأمة الفاجرة في هذا الموقف من هذا القبيل، إذ إنّه واثق من حصوله على المعلومة الّتي تغلي في صدر ابن سعد الحقود، وهو عبد قنّ حقير سافل بين يديه، فلماذا لا يسجّل له موقفاً في مثل هذا الظرف الحسّاس ليبدو في صورة مموّهة للتاريخ باعتباره رجلاً لا يحبّ الخيانة وإفشاء السرّ؟!
ربما كشفت هذه المحاورة بين الجرو الأموي وذيله عن نوع من الحرب النفسية والمغالبة والتكالب ومحاولات ثني السواعد وكسر العظام بينهما.
فمن جهةٍ يحاول ابن سعد من خلال التهويل والترميز أن يوحي إلى ابن زياد أنّه يحتفظ بأسرار مهمّة تمكّنه من التسلّط على موقع ابن زياد، وتعرّض وجوده وكيانه للخطر.
ومن الجهة الأُخرى يحاول ابن زياد احتقار ابن سعد والازدراء به وبمحتوياته والاستهانة بموقعه وأسراره ومعلوماته، فهو يعرض عنها ثلاث مرّات تأكيداً على عدم الاحتفاء به وبأسراره، وتعبيراً عن عدم اكتراثه.
ص: 182
وهو يعلم عاقبة الأمر مع ابن سعد وضعفه وتراميه على أقدام القردة، فهو سيبوح له على كلّ حال، وفي ذات الوقت يعلم أنّ ما في جعبته لم يغب عنه، لأنّه قد استوعب ما يهمّه من أخبار حركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فلاتهمّه معلومة يزعم ابن سعد أنّه اكتشفها.
إنّ ابن الأمة الفاجرة يعرف سيوف الحسين (علیه السلام) وليوث آل أبي طالب، ويعرف البطل الهاشميّ مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ويعلم مِن خلال مجريات الأحداث أنّ مسلماً سوف لا ولن يكشف سرّاً من أسرار سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وهو المقاتل المجرَّب في ساحات الوغى أيّام الجمل وصفّين، والمجاهد الثابت في ولاية الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ، والخبير الحاذق والمحنّك العميق الغور، وليس لابن سعد ولا لغيره من الأوغاد أن يستخرجوا من صدره ما هو أقلّ من السرّ، ويتعرّفوا من خلال وصيّته على ما يؤثّر في عرقلة حركة سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فلماذا إذن يكترث بما جاء به هذا الرخيص الهابط؟
أجل! ربما كان يلتفت إليه أو يستحثّه على الكلام والبوح إذا كان ابن سعد قد زعم أنّه حاز معلومةً عن غير سبيل مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .
لمّا ألحّ ابن سعد على كشف ما زعم أنّه سرّاً، قال له ابن زياد: هات،
ص: 183
وعقّب -- حسب نصّ الدينوري -- قائلاً: قد أسأتَ في إفشائك ماأسرّه إليك، وقد قيل: إنّه لا يخونك إلّا الأمين!! وربما ائتمنك الخائن ((1)).
وفي نصّ الطبري وجملة من المؤرّخين: قال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن ((2)).
وفي (مقتل الحسين (علیه السلام)) لأبي مخنف المشهور: فقال ابن زياد (لعنه الله): قبّحك الله من مستودَع سرّاً، والله لو إنّه باح إليّ سرّه لكتمتُ عليه وقضيت حاجته ((3)).
وفي (المقاتل): هات، فإنّه لا يخون الأمين، ولا يؤتمن الخائن ((4)).
وفي عبارة الشجري: فقال عبيد الله: إنّه لا يخون الأمين، ولكنّه قد يؤتمن الخائن ((5)).
ويلاحظ هنا عدّة ملاحظات:
يُلاحظ أنّ ما نُسب لابن زياد إنّما هو مؤدّى قول خاتم النبيّين محمّد
ص: 184
الأمين (صلی الله علیه و آله) كما رواه عنه ابنه الصادق (علیه السلام) ، فيما أخرجه الحرّ العامليقال: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (علیهما السلام) أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال : «ليس لك أن تتّهم مَن قد ائتمنتَه، ولا تأتمن الخائن وقد جرّبتَه» ((1)).
وورد بلفظٍ قريب جدّاً عن معمر بن خلاد قال: سمعتُ أبا الحسن (علیه السلام) يقول: كان أبو جعفر (علیه السلام) يقول: «لا يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن».
وروي بالألفاظ وتركيبات أُخرى أيضاً عنهم (علیهم السلام) ((2)).
وربما كان قول النبي (صلی الله علیه و آله) قد ذهب مذهب المثل كما هو اليوم، فهي ليست من كلمات ابن زياد وإبداعاته، وهو أحقر من أن يدرك هذه الحقائق من ذات نفسه.
ص: 185
أمّا سبب تمثّله بهذه القولة فقد يوعز إلى عدّة أسباب على نحو الاستقلال أو المجموع:
لا يبعد أن يكون قد شاهد موقف الخيانة من ابن سعد، فذكر هذه القولة باعتبارها تصف الموقف وصفاً دقيقاً، فهو تعبيرٌ عن موقف الوغد ووصفاً له، والتمثّل ببيت شعرٍ أو بمَثَلٍ أو بالمأثور أمرٌ معتاد عند الناس.
قد يكون قصد من خلال التمثّل أن يوعِز إلى ابن سعد بحقارته ويُشعره بنذالته وسقوطه وتجذّر الخيانة في كيانه العفن، وبذلك يعرف الوغد قدره عند ابن زياد، فلا يتطاول ولا يدسّ أنفه أكثر ممّا يسمح له، فيتكوّر على حجمه، ولا يتصوّر إنّه قد جعل يداً ومنّةً له عند ابن زياد، وهو يعرف ابن زياد أيضاً ويعرف قذارته وخيانته ودناءته، وقد وصفه بالخيانة والتملّق الرخيص، فويل لمن كفّره النمرود!
إنّ هذا التمثّل في مثل هذا الموقف له دلالاته بالنسبة للمتمثِّل وللمتمثَّل له، وكلاهما يعلمان من خلال مجريات الأحداث وما وردهما من كتب وأخبار أنّهما مقبِلان على أمرٍ عظيم، يحتاج كلّ منهما للآخر.
ولابدّ لابن زياد من الاستخفاف بالوغد الكاسر والأفعى الرقطاء
ص: 186
ليمسك بها من رأسها، فيُغرِز أنيابها فيمن أحبّ من دون أن تلدغه، ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوه﴾.
فهو في تمثّله هذا كشف لابن سعد أنّه قد قرأه إلى آخر سطر، وعرف مقداره ووزنه وأخلاقه، فأعلن له عن تقييمه له ليكون محذّراً له من الخيانة فيما يستقبل من الأيام، وما تحوّل له من المهام، ويفهّمه أنّه لا يثق به ولا يتعامل معه إلّا بحذرٍ تامّ، لأنّه قد انكشف له تماماً، وسوف لا يأتمن خائناً.
يمكن أن تكون هذه العبارة من زيادة الراوي والمؤرّخ تحت ضغط النصب والعقيدة الفاسدة أو حبّ الدنيا والتزلّف إلى السلطان، فأضافها على أمل أن يزيّن وجوه القرود والجراء الأموية المشوّهة المرعبة، ويعرض الدمن من وجهه الأخضر في صورة من يعرف شيئاً مهمّاً من القيم والأخلاقيات، ويتقزّز من عظائم المنكرات، وينكمش وجهه من ممارسة الخيانة، وينتفض عند مقارفة الرذيلة، فيلوم المرتكب وكأنّه خلو منها، ويقول قد أسأت!! وهيهات ثمّ هيهات، وقد كشف الصبحُ فحمةَ الدُّجى.
تفرّد ابن قتيبة في صياغة ما جرى بين القزمين الحقيرين، فعرضها في تركيبةٍ يُستظهَر منها أنّ إفشاء السرّ كان بعد شهادة المولى الغريب (علیه السلام) .
ص: 187
قال: فضرب عنقه وألقاه عمرو لعبيد الله وقال: أتدري ما قال؟ ... قال: أخبرني أنّ الحسين ومَن معه قد أقبل ... ((1)).
فذكر الشهادة أوّلاً، ثمّ قال: وألقاه عمر لعبيد الله.. وهو يفيد أنّ الإلقاء تمّ بعد ضرب العنق.
وهو بعيد، لتفرّد ابن قتيبة من جهة، واستبعاد أن يصبر الخبيثان على ذلك، فلا ابن سعد يصبر على الكتمان مع خزينه النتن، ولا ابن زياد يصبر وهو يبحث عن أيّ سببٍ يضيفه إلى مسوّغاته في حربه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) وقتله المولى الغريب (علیه السلام) .
صوّر ابن سعدٍ وصيّة المولى الغريب (علیه السلام) كسرٍّ عظيم، وهوّل الأمر على ابن زياد، وعرضه كتهديدٍ مروّع لا يسعه تجاهله والتغافل عنه؛ «فالأمر أعظم من ذلك»! وأصرّ على كشفه واطلاع ابن الأمة الفاجرة عليه، فلابدّ أن تكون ثمّة نوازع تدفعه لهذا التصوير والتهويل والإلحاح على الإفشاء.
وقد ذكرنا جملة من نوازعه وأغراضه في ثنايا الحديث قبل قليل، ويمكن أن نجملها هنا بعبارةٍ مقتضبة:
إنّ ابن سعد يريد أن يحجز لنفسه عوداً من أعواد الشجرة الملعونة، فيتسلّق إليه من خلال التمسّك بذيل القرد الأموي، وذيل القرد الأموي
ص: 188
مشدودٌ بذيل جروه ابن زياد، فلا يسلك طريقاً إلى أيّ موقع في حديقة القرود ما لم يرضَ هذا الجرو القابع في قصر الخبال.
وإنّما يتمّ ذلك من خلال إثبات خالص الولاء من جهة ولو على أساس القيم والشيم والأخلاق إن كانت بهم شمّةٌ من ذلك، ومن ثم التملّق إليه بما يقنعه بالتمحّض في الخدمة.
وهو يريد أيضاً أن يجعل نفسه رقماً ينبغي لابن زياد أن يلتفت إليه من حيث كونه حاملاً لأسرار مؤثّرة ومعلومات مدمّرة، لا يسع ابن زياد تجاهله ولا التغافل عنه.
هذا، عدا معدنه النجس ومنبته النحس ونطفته القذرة الّتي تدعوه لارتكاب أيّ خيانةٍ ومجانبة أيّ شرفٍ وتنكّب الرذيلة وتعقّب المواقف الذليلة.
ومن هنا ربما نكتشف وازعاً ودافعاً مهمّاً يدعو الدعيّ للوشاية وإفشاء السرّ، وهو النصب والحقد والضغينة والعداوة المتجذّرة في ذاته النكراء لأهل البيت (علیهم السلام) ، وربما كان هذا من أهمّ الأسباب، إذ لا يألوا مثل ابن سعد الناصبيّ النجس جهداً في إيذاء كلّ مَن يمتّ إلى أهل البيت (علیهم السلام) بصلةٍ ويحاربه ويمثّل به.
إنّ العداوة والنصب والبغضاء والشحناء والحقد الكامن في أعماق ابن سعد الخبيث يعدّ المحرك الأساس في جميع مواقفه إزاء سيّد الشهداء (علیه السلام) وأنصاره وأهل بيته، وهو ما يمكّنه أن يفسّر لنا جرائمه وجناياته وعظيمما
ص: 189
ارتكبه من سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته في كربلاء.
أمّا إقدامه على جميع ذلك طمعاً في الري!! والري فقط! فهو كلام ينبغي التأمّل فيه، من دون تنكّر لظواهر التصريحات، وليس هذا موضعه.
إفشاء السرّ جناية كبرى وإثم كبير له آثاره التكوينية وتبعاته الوضعيّة وعواقبه وأوزاره، وهو ينمّ عن سوابق غير مرضية في المفشي، وإفشاء السرّ هو في حقيقته نميمة ((1))، فتشمله نصوص ذمّ النميمة وما يترتّب عليها، وقد ورد في إفشاء السرّ الكثير من الأحاديث الذامّة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
فقد ورد عن عبد الله بن سنان قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: نعم، قلت: تعني سفليه؟ قال: ليس حيث تذهب، إنّما هو إذاعة سرّه ((2)).
وإفشاء السرّ سقوط ((3)).
وثلاثة لا ينبغي للمرء الحازم أن يتقدّم عليها: شرب السمّ للتجربة وإننجا منه، وإفشاء السرّ إلى القرابة الحاسد وإن نجا منه، وركوب البحر
ص: 190
وإن كان الغنى فيه ((1)).
وستّ خصالٍ تُعرف في الجاهل: الغضب من غير شرّ، والكلام من غير نفع، والعطيّة في غير موضعها، وإفشاء السرّ، والثقة بكلّ أحدٍ لا يعرف صديقه من عدوّه ((2)).
وإفشاؤك سرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك ((3)).
ومن أفشى سرّاً استودعه فقد خان ((4)).
وبناءاً على ما ورد في المصادر التاريخيّة، فإنّ هذا الوغد المتوحّش ابن سعد قد ارتكب هذه الرذيلة، وقد جاءت النصوص بصياغةٍ مرعبة وتعليلٍ مخيف، يرتجف لها الكيان، ويهتزّ بها الوجدان، ويرتعش منها الفؤاد، ويخلع القلب من مستقرّه، ويشيب لهوله الرضيع، ويجهض من سماعه الجنين، ويكاد لا يصدّقها إنسانٌ لعظم وقعها وشدّة وطأتها..
يا لله! يا للهول! يا للخيبة والخسران!
قالوا: فقال ابن زياد: أما والله إذ دللتَ عليه لا يقاتلهم أحدٌ غيرك ((5)).
ص: 191
قال ابن زياد: أما إذ أخبرتني فوالله لا خرج لقتاله غيرك ((1)).
وقالوا: ثمّ أنّ ابن زياد سمع بذلك، فقال: قبّحك الله من مستودَع سرّاً، وحيث أنّك أفشيت سرّه فلا يخرج إلى حرب الحسين غيرك ((2)).
تفريع وتعليل: إذ دللت عليه.. لا يقاتلهم أحدٌ غيرك.. وحيث أنّك أفشيت سرّه.. فلا يخرج إلى حرب الحسين غيرك..
ترتيب للقتال وللخروج إلى الحرب على الإفشاء مباشرة، وكأنّه النتيجة الطبيعيّة للدلالة عليه، والحاصل الضروريّ من الإفشاء.
هل يعني أنّ إفشاء السرّ يبلغ هذه الخطورة وهذا المدى الرهيب! يبلغ هذا الحدّ من المعقبات والتوالي؟!
أفشى السرّ فأعان على نفسه، وأعطى الذريعة بيد الطاغية ليكلّفه -- في الظاهر -- ليقاتل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فجرّه عملُه -- حسب تصريح ابن الأمة الفاجرة ومجريات الأحداث في الظاهر المنظور -- إلى قتل ريحانة النبي (صلی الله علیه و آله) وأهل بيته وصحبه (علیهم السلام) ؟!!
نعوذ بالله ونستجير به!
تنقسم المصادر في تحديد مَن ردّ على المولى الغريب (علیه السلام) بعد أن
ص: 192
انتهى من وصيّته إلى ثلاثة أقسام:
بعد أن أفشى الوحش المتعطّش لدم سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) السرّ لسائسه ابن زياد، سمع منه الردّ على بنود الوصيّة الأساسية، وقد صرّح ابن سعد في ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) من (الطبقات) والذهبي في (تاريخ الإسلام) أنّ ابن زياد وجّه خطابه لابن سعد باعتباره واسطةً بينه وبين المولى الغريب (علیه السلام) ، فقال: قل له: أمّا مالك فهو لك لا نمنعك منه، وأمّا حسين فإن تركنا لم نرده، وأمّا جثّته فإذا قتلناه لم نبالِ ما صنع به ((1)).
فيكون الخبيث ابن سعد مجرّد ناقل رسالةٍ ليس إلّا، ويكون المقصود بالمال في قوله: أماّ مالك فهو لك، أي: أمّا مال مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وهذا يؤكّد أنّ مسلماً قد أوصى بقضاء الدين من ماله شخصيّاً، وأنّ له مالاً يمكنه أن يوصي به!
وأمّا الآخرون فلم يذكروا عبارة: «قل له»، فيكون الخطاب حينئذٍ مع ابن سعد بالذات باعتباره قابلاً للوصية، ويؤكّد ذلك قول ابن زياد فيما يخصّ الجثّة المقدسة: «فإنّا لا نشفّعك فيها»، أي: لا يشفّع ابن سعد كما هوواضح من العبارة.
قال البلاذري وغيره: فقال: أمّا مالك فهو لك، تصنع فيه ما شئت،
ص: 193
وأمّا حسين! فإنّه إن لم يردنا لم نرده، وأمّا جثّته فإنّا لا نشفّعك، لأنّه قد جهد أن يهلكنا. ثم قال: وما نصنع بجثّته بعد قتلنا إياه ((1)).
وفي رواية الطبري وآخرون: قال له ابن زياد: ... أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت، وأمّا حسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده ((2))، وإن أرادنا لم نكف عنه، (وفي رواية أنّه قال: وأمّا الحسين، فلا ولا كرامة ((3)))، وأمّا جثّته فإنّا لن نشفّعك فيها، إنّه ليس بأهل منّا لذلك، قد جاهدنا وخالفنا، وجهد على هلاكنا ((4)). وزعموا أنّه قال: أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذ قتلناه ما صُنع بها ((5)).
وقال ابن نما: فقال: مالُه له، لا نمنعه أن يصنع به ما شاء، وأمّا الحسين إن تركنا لم نرده، وأمّا جثّته، فإذا قتلناه لا نبالي ما صُنع بها ((6)).
وقال ابن كثير: فأجاز ذلك له كلّه، وقال: أمّا الحسين فإنّه [إن] لميردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه ((7)).
ص: 194
ويلاحظ في النصوص المذكورة عدّة أُمور:
بمجرّد أن عرض الوغد الرذيل بنود الوصيّة على ابن زياد بادر ابن زياد بالجواب، وكأنّ ابن سعد إنّما عرض عليه البنود بقصد الاستئذان في التنفيذ، وإجراء ما يوافق مصالح مولاه، والإعراض عمّا لا يوافق عليه ولم يعطِ الإذن فيه.
فإمّا أن يكون ذلك هو ما فهمه من موقف ابن سعد فبادر للإجابة، أو باعتبار طغيانه وتجبّره وتنمرده على أولياء الله، أو إبلاغاً منه لابن سعد وتفهيماً له أن ليس له من الأمر شيء، وإنّما هو تحت إمرته وطوع إرادته وليس له أن يفعل أو لا يفعل إلّا بعد صدور الموافقة من أميره الفاجر.
سواءً كان المخاطب في النصوص المذكورة ابن سعد -- كما في المصادر -- أو المولى الغريب مسلم (علیه السلام) -- كما في نصّ ابن سعد والذهبي --، فإنّ الرجس المتغطرس صرّح أنّه لا يتدخّل في التصرّف بالمال، وله أن يفعل ما أحبّ أو ما شاء.
فيما يخصّ وصيّة المولى الغريب (علیه السلام) في إبلاغ سيّد الشهداء (علیه السلام) بخذلان أهل الكوفة وما آل إليه أمره، وردت النصوص في ثلاث مفادات،
ص: 195
فذكر ابن سعد والبلاذريّ وجماعةٌ آخرون: وأمّا حسين! فإنّه إن لم يردنا لم نرده ((1)).
وأضاف الطبري وابن كثير على ما مضى قوله: وإن أرادنا لم نكف عنه ((2)).
وفي (المقتل) للخوارزمي بعد ذكر الفقرة الأُولى: وفي رواية أنّه قال: وأمّا الحسين، فلا ولا كرامة ((3)).
وينبغي الالتفات هنا إلى ما يلي:
ماذا يُنتظَر من دعيّ ينشأ مرتضعاً من صديد المومسات، وجروٍ يترعرع بين القرود، أن يفقه من سيّد الشهداء (علیه السلام) ويعرف من مقامه ومنزلته، ولذاتراه ينظر في عطفه، وينتفخ سحره، وهو الرعديد الجبان لمجرّد ذِكر سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، فيغطي خوفه، ويحاول أن يتماسك أمام ذيله بذكر سيّد الشهداء (علیه السلام) بالاسم مجرّداً من (ال) التحلية والتعظيم، وقد صار
ص: 196
الاسم مع (ال) علَماً للحسين (علیه السلام) ، فيقول: «حسين»، «يردنا»، وفي المقابل يذكر نفسه بالتعظيم فيقول: «يردنا».. لقد عتى وطغى وتكبّر وتجبّر على الله، وهو ابن الأمة الفاجرة المعروف بالجبن والنسب اللئيم القذر!!
ماذا يقصد الخبيث بقوله: «إن لم يردنا لم نرده»؟
إن كان يقصد أنّه ما دام في مأمنٍ من صولة سيّد الشهداء (علیه السلام) وأنّ الإمام لم يقصد إسقاط الحكم والاستيلاء على السلطان، فهو إذن لا يتعرّض له بسوء، فلماذا تعرّض له وخيّره بين النزول على حكمه أو القتل؟
لأنّ مجرّد دخول قافلةٍ تضمّ عدداً قليلاً من الرجال وعدداً من النساء والأطفال إلى الكوفة لا يعدّ تهديداً للسلطة، وقد أحكم اللّعين قبضته على الكوفة وضواحيها، بل على الطرق المؤدّية إليها والصحراء المحيطة بها، وأعلن الناس خضوعهم وخنوعهم واستسلامهم له ولزبانيته، وتوافرت لديه العساكر وأعلنت العشائر بالولاء والانصياع.
مَن هو هذا الوضيع القزم المتهالك في خِدمة القرد الأموي الأجرب،حتّى يريده أو يرده الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) أو يقصده بأيّ مستوىً من المستويات الّتي تجعله قريناً لسيّد الكائنات يومها وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ؟!
ثم إنّه كذب وفجر (لعنه الله)، إذ إنّه طلب دم سيّد الشهداء (علیه السلام) من
ص: 197
دون أن يريده أو يرده الإمام (علیه السلام) ، وإلّا فما الّذي دعاه أن ينظم الصحراء خيلاً ورجالاً، ويرسل الكتائب تجوب الفيافي، ويفرض على الحرّ أن يمنعه من الرجوع أو التوجّه إلى أيّ جهةٍ إلّا أن ينزل على حكم الأدعياء أو يُقتَل هو ومَن معه؟!
ومتى أرادهم الإمام الأبي؟ ففي المدينة أبى البيعة وقال: «مثلي لا يبايع مثله»، فطلب دمه، وأمر القرد الشامي الأجرب أن يبعث له الوالي برأس ريحانة النبي (صلی الله علیه و آله) مع جواب الكتاب ((1))، فخرج -- فداه روحي -- من المدينة وقد ضيّعوه وخذلوه وتركوه وحيداً ((2)).
توجّه إلى مكّة، وفيها طلبوا دمه ودبّروا لقتله ولو كان متعلّقاً بأستار الكبعة ((3))، فخرج حبيب الله متوجّهاً إلى حيث أمره الله، حيث وصلت كتب الكوفيّين ورسلهم تدعوه إليهم.
وبعد أن قطعوا عليه الطريق في الصحراء عرض عليهم أن يرجع إذخذلوه وكرهوا قدومه! فأبوا إلّا أن ينزل على حكم ابن زياد أو يزيد، فأبى أن يعطيهم بيده إعطاء الذليل ((4)).
فمتى إذن أرادهم وقصدهم؟ ((5)) وهل يمكن أن يكون مثل ابن زياد رقماً
ص: 198
يعتدّ به سيّد الشهداء (علیه السلام) ويحسب له ويجعل نفسه بإزائه؟ إنّ هذا لهو البهتان العظيم!
بل على العكس تماماً كان ابن زياد مأموراً بملاحقة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وكان متوثّباً هو وأزلامه من قبيل عمر بن سعد للقضاء عليه واستئصال شأفة النبي (صلی الله علیه و آله) وآل الله (علیهم السلام) جميعاً، وكانوا ينتظرون أن تعلّق مخالبهم به، فيقطعون أوصاله ويملؤون منه أكراشاً، ويشبعون نهمهم لدماء آل أبي طالب، وينتقمون من سيّد الأنبياء (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ويثأرون لبدر وأُحد والمشاهد الأُخرى.
وأليس ابن زياد هو القائل:
الآن
إذ علقت مخالبُنا به
يرجو النجاةَ ولات حين مناصِ! ((1))
ربما يُستفاد من قوله: «إن لم يردنا لم نرده» أنّه أذن لعمر أن يرسل إلى سيّد الشهداء (علیه السلام) مَن يبلّغه رسالة سفيره، بمعنى أنّه يقول لابن سعد: أرسل الرسول فلا مانع من ذلك، فإن بلغه الرسول فامتنع سيّد الشهداء (علیه السلام) عن القدوم إلى الكوفة فإنّه سيكفّ عنه، وإن جاء فإنّه لا يكفّ عنه، وقد كذب هنا أيضاً، وهو كذوب، ويعرف كذبه من التعرّض لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومحاصرته في البيداء، ومنعه من الرجوع أو التوجّه في
ص: 199
أرض الله الواسعة، حتّى أُنزل في كربلاء ومُنع من الانتقال عنها بأمرٍ من ابن الأمة الفاجرة ((1)).
في روايةٍ للخوارزمي أنّه قال: وأمّا الحسين، فلا ولا كرامة ((2)).
فإن كان الخبيث يقصد: لا كرامة لابن سعد في هذه القضية، أي إنّه سوف لن يشفّعه بها، فإنّ ابن سعد أحقر من أن يعترض هنا ويقول له: إنّك أمرتني بالاستماع إلى وصيّته.
وهو مع ذلك قد صرّح برفضه هذا أنّه يريد سيّد الشهداء (علیه السلام) ويلاحقه ويتربّص به، ليقتله ويُرضي بذلك أعداء الله ورسوله.وإن كان يقصد الأُخرى، ولا يبعد أن تصدر هذه الجسارة والطغيان والعدوان من مثل هذا الحقير الدنيء والرجس النجس في حقّ سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد كان ابن زياد بؤرة الحقد والضغينة على معدن الطهر والعفاف والفضيلة، ولم يترك جنايةً وجريمةً ورذيلة إلّا وارتكبها الخبيث في حياته، فلعنة الله عليه وعلى من سلّطه على رقاب المسلمين. اللّهمّ العن أوّل ظالم ظلم حقّ محمّدٍ وآل محمّد، وآخر تابع له على ذلك.
ص: 200
من روى الوصيّة روى بند استيهاب الجثّة المقدّسة، وفي ذلك دلالة واضحة أنّ المولى الغريب العالم العارف مسلم بن عقيل (علیهما السلام) يعرف عدوّه جيّداً، وهو عالمٌ بما سيجري عليها بعده، إمّا بالإخبار من قبل المعصومين (علیهم السلام) ، فيكون الاستيهاب إتماماً للحجّة، وإمّا لمعرفته بنذالة ابن زياد وسلوكيّاته، وهو إتمام حجّة وإبلاغ.
وقد نصّ ابن سعد في ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) وغيرُه أنّ ابن الأمة الفاجرة قال: فإذا قتلناه لم نبالِ ما صُنع به ((1)).
وخالفهم البلاذريّ وغيره، فنقلوا عنه أنّه أبى ذلك وقال: وأمّا جثّتهفإنّا لا نشفّعك، لأنّه قد جهد أن يهلكنا ((2))، ثم إنّه تراجع وقال: وما نصنع بجثّته بعد قتلنا إياه ((3)).
وفي (تاريخ الطبري) و(المقاتل): وأمّا جثّته فإنّا لن نشفّعك فيها، إنّه ليس بأهل منّا لذلك، قد جاهدَنا وخالفَنا وجهد على هلاكنا ((4)). وزعموا
ص: 201
أنّه قال: أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذ قتلناه ما صُنع بها ((1)).
ويلاحظ أنّ التعليل في ردّ الوصيّة في خصوص الجثّة، كما عند البلاذري وغيره: «لأنّه قد جهد أن يهلكنا» ((2))، وعند الطبري وغيره: «إنّه ليس بأهلٍ منّا لذلك، قد جاهدنا وخالفنا وجهد على هلاكنا» ((3)).
فهي تتّفق على تعليله بأنّه جهد على إهلاكه، أمّا ما ذكره الطبري: «إنّه ليس بأهل منّا» و«إنّه جاهدنا وخالفنا»، فهي مقدّمات للتعليل الأخير.ثم إنّهم ذكروا أنّه تراجَع وقال: وما نصنع بجثّته بعد قتلنا إياه؟ ((4)) أو إنّه قبل ذلك من رأس، كما نصّ عليه ابن سعد والذهبي، ويكذّبه أُمور:
أنّ الطبري ذكر التراجع بعد أن أبى التنفيذ بلحن «وزعموا»، وهو تضعيفٌ ظاهر.
ويكذبه أيضاً -- وهو الأهم -- : نفس تقدّم المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام)
ص: 202
بهذه الوصيّة، فهو لولا إنّه يعرف حقد ابن زياد وتشفّيه وشماتته ونذالته إذا شاط به الغيظ وتمكّن بعد انهيار، لَما تقدّم باستنقاذ الجثّة واستيهابها.
الواقع التاريخيّ المروي، حيث إنّه اعتدى على الجثّتين الطاهرتين الزاكيتين لمسلم وهاني (علیهما السلام) ، ودفعهما إلى الجند والغوغاء والسفلة وغيرهم من أهل الكوفة، فجرّوهما وسحلوهما في الشوارع، وهتكوا حرمتهما بما سنأتي على ذكره إن شاء الله تعالى.
نحن نعرف المؤرّخ جيّداً، ونشكّ فيه شكّاً مؤكّداً، ونرتاب في كلّ مايرويه، وفيه كنس لجرائم الطاغوت وتلميع لوجهه المشوّه، إذ يعتبر هذا القدر من النزاهة في التعامل مع جثّة عدوّه الّذي أرغم أنفه في تراب الذلّة وتركه يقرض ذيله من شدّة الخوف والهلع، وبدا يحسب الأيام والساعات للانجحار والانقراض..
إنّ هذا المقدار من التنازل عن التغطرس والخيلاء والتكبّر والتجبّر، بحيث يتجاوز عن الجثّة المقدّسة ويتغافل عن أخذها ودفنها دونما التشفّي بها والإمعان في تفريغ الأضغان والدفائن، يعدّ ميزةً ترفعه عن قاعه العفن، وهو ما لا يكون لمثل ابن الأمة الفاجرة.
بالخصوص إذا عرفنا أنّ هذا السلوك الوحشي المتردّي في الرذيلة كان دأباً يمارسه الخبيث مع أعدائه، وقد أكّده بفعلته الشنيعة الّتي زلزلت
ص: 203
الأرض وكادت السماء تتفطر لهولها يوم أمر برضّ جسد سيّد الشهداء (علیه السلام) والتمثيل به، فامتثلوا وفعلوا ((1)). قال في كتابه لابن سعد: «وأوطِئِ الخيلَ صدرَه وظهره ((2))، ومَثِّل به» ((3)).فلا يُصدَّق إذن دعوى مَن زعم أنّه رضي، أو أنّه رجع فأذن بدفن الجثّة، بحجّة أنّه إن قتله لا يبالي، فإنّ مجرّد القتل لا يُرضي هؤلاء الأوغاد المولَعين بالتشفّي والشماتة والحقد على الأطهار الأبرار، وقد سمعنا ما فعله بالجثّة الطاهرة -- كما نقله المؤرّخ --، وقد قال أميرُ المؤمنين (علیه السلام) : «ليس لكذوبٍ أمانة، ولا لفجور صيانة» ((4))، وقديماً قيل: لا حافظة لكذوب.
ص: 204
أمّا ابن كثير الّذي يسمّي يزيداً (أمير المؤمنين) ((1))، فقد عرض ابن زياد في صورةٍ لا يتوقّعها ابن زياد لنفسه، فأوجز في عبارةٍ واحدة موقفه، فقال: فأجاز ذلك له كلّه، وقال: أمّا الحسين فإن لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه ((2)).
ومَن كان يزيد (لعنه الله) عنده أمير المؤمنين، فلابدّ أن يكون هذا النغل المدلَّل عند بني أُميّة بهذه الصفة عند أتباعه!! والقذَر كلّه واحد.
تفرّد ابن أعثم -- حسب فحصنا -- بجعل الردّ مباشراً من ابن الأمة الفاجرة يخاطب به سليل إبراهيم الخليل مسلم بن عقيل (علیهما السلام) : «فقال ابن زياد: أمّا ما ذكرت يا ابن عقيل من أمر دَينك، فإنّما هو مالك يُقضى به دَينُك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت، وأمّا جسدك إذا نحن قتلناك فالخيار في ذلك لنا، ولسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك، وأمّا الحسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه» ((3)).
ويمكن أن يفيد النصّ عدّة فوائد:
ص: 205
يفيد قول ابن زياد في أمر الدَّين أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد أوصى بقضاء الدين من ماله خاصّة، سواءً كان من خلال بيع فرسه أو انتظار الغلّة حتّى تأتي من الحجاز، كما ورد في بعض المصادر الّتي ذكرناها آنفاً، أو وجود مالٍ بحوزته فعلاً، المهم أنّ تصريح الرجس وقوله: «فإنّما هو مالك يُقضى به دَينُك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت» يفيد بوضوح أنّ المال الموصى به لقضاء الدين إنّما هو مال مسلم بن عقيل (علیه السلام) شخصيّاً، فهو لم يطلب من عمر بن سعد تسديد الدَّين إلّا من ماله الشخصي لا منمال عمر ولا غير عمر.
يفيد النصّ أنّ الخبيث ردّ على هذا البند بجبروته وطغيانه واستعلائه واستكباره المعهود، وهو مَن قد عرفه التاريخ بالحقارة والدناءَة والسقوط والانحطاط بكلّ المعايير، إذ إنّه يقول: وأمّا جسدك إذا نحن قتلناك فالخيار في ذلك لنا، ولسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك..
فهو يؤكّد أنّ الخيار له يصنع بالجثّة ما يشاء، ومن الواضح أنّه يصنع بها ما ينسجم وشأنه وطبعه وطريقته الّتي تأبى إلّا أن لا تجعل في الحضيض مَن هو أسفل منه، ولا يُتصوَّر من أمثال هذا الجرو أن يتعامل معها معاملة البشر، وهو مسخ رديء.
ص: 206
وتضمّن أيضاً تعبيره هذا وما لحقه من قوله: «ولسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك» تهديداً يؤكّد ما سمعته في الفقرة السابقة، فهو يوعز ما يفعله إلى الله كما هو شأنه دائماً وشأن أسياده ورعاته من القرود الأمويّة والسباع الّتي نشأت في السقيفة.
ولو كان لا يريد التهديد والوعيد والتلويح بما سيفعله من التمثيل والسحل بالجثّة ولم يكن يبيّت ذلك، إذ أنّ قوله: «لا نبالي ما صنع به» أو «لسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك»، يشير إلى أنّه لا يهتم بدفنه ولا تجهيزه ولا يبالي بذلك، فإذا مثّلوا بها أو سحلوها في الأزقّة فهو لا يبالي أيضاً ولايهمّه ذلك!
يلاحَظ في هذا النصّ -- كما يلاحَظ في النصوص الأُخرى الّتي تروي ما قاله هذا الخبيث بين يدَي المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) -- أنّ الوقاحة والصلافة والغطرسة والتجبّر والعتوّ والاستعلاء على الله وعلى أوليائه من السمات المتجذّرة في هذه المخلوقات العاتية، فهو يتكلّم بصيغة الجمع عن نفسه! ويعلن عن نواياه كأنّه الحاكم المطلَق والمتسلّط الّذي لا يُنازَع، غير إنّه لا يجرؤ على الإصحار عمّا في كوامنه من ادّعاء الربوبيّة، فهو قد قالها: (أنا ربّكم الأعلى) بكلّ صيغة، وعبّر عنها في كلّ تصرّفٍ وجملةٍ من دون أن يذكر هذه الكلمات الثلاث.
ص: 207
أمّا القسم الثالث من الكتب، فقد ورد فيها أنّ عمر بن سعد هو الّذي بادر للردّ على المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) وحدّد له الموقف ومدى الاستجابة في تنفيذ الوصيّة.
قال الطريحي: فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نشهدها، وأمّا ما ذكرت من بيع الدرع وقضاء الدين فذلك إلينا إن شئنا قضيناه وإن شئنا لم نقض، وأمّا ما ذكرت من أمر الحسين فلابدّ أن يقدمعلينا ونذيقه الموت غصّةً بعد غصّة ((1)).
وفي (المقتل) المشهور لأبي مخنف: فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نقرّ بها، وأمّا ما ذكرتَ من بيع درعك وقضاء دَينك فنحن أولى إن شئنا قضينا وإن شئنا لم نقضه، وأمّا الحسين (علیه السلام) فلابدّ أن يقدم علينا ونذيقه الموت غصّةً بعد غصّة ((2)).
ونصُّ الطريحي -- كما يبدو -- مأخوذٌ من (المقتل) المشهور لأبي مخنف، ولولا ما فيه من نقطتين لكان أكثر تلائماً وانسجاماً مع مواقف المجرمين ونفسيّاتهم:
يبدو من خلال النصوص الواردة في المتون السابقة، مضافاً إلى ما هو
ص: 208
معروفٌ من دناءة ابن سعد وذلّة نفسه وحقارة محتده ومنبته وسقوطه وتملّقه لابن زياد، أنّ من البعيد جدّاً أن تقوم به الجرأة ليبادر في الجواب قبل أن يأذن له ابن زياد.
إلّا أن يقال: أنّ هذا الجواب كان عبارة عن تبليغ لمقالة ابن زياد، فهو قد بلّغ مولاه وسيّده بما قال البطل الهاشمي (علیه السلام) ، واستمع إلى ردود ابنزياد، ثمّ نقلها إلى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) من دون أن ينسبها إلى صاحبها، باعتباره هو المباشر في سماع الوصيّة والمطالَب بتنفيذها والمتوقَّع منه الجواب على بنودها.
وربما لوّحَت العبارات والتهديد والوعيد الوارد فيها إلى أنّها قريبة من لغة ابن زياد ونفسيّته وموقعه ومواقفه.
لقد ورد في نصّ (المقتل) لأبي مخنف المشهور والشيخ الطريحي أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد شهد الشهادات الثلاث، وجاء هنا على لسان عمر ابن سعد أنّه يقول: «أمّا ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نقرّ بها»، من دون إبداء أيّ امتعاضٍ أو اعتراض على الشهادة الثالثة، وكأنّه راضٍ ومعتقدٍ بها، وأنّه يشهدها ويشهد بها جميع الناس؛ «فكلّنا نقرّ بها»، وهو ما لا يمكن المصير إليه بتاتاً.
إلّا أن يقال: إنّه قصد الشهادتين وتجاهل الشهادة الثالثة، ليُفهَم منه
ص: 209
أنّه لا زال على ظاهر دين الإسلام، لو ساعد السياق على ذلك، وهو ليس كذلك.
أمّا باقي فقرات الجواب، فهي تناسب تماماً ما في كوامن ابن زياد وابن سعد من الحقد والتميّز غيضاً وحنقاً على معادن الطهر والشرف، وانتظارهم بلهفةٍ مشتعلة ورود سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) ، ليملؤوا أكراشهم السغبا منأوصاله المقدّسة، ويلغوا بشهيّةٍ متفاقمة في دمائه الزاكية.
قال ابن سعد وعنه الذهبي: وقضى عمر بن سعد دَين مسلم بن عقيل، وأخذ جثّته فكفّنه ودفنه، وأرسل رجلاً إلى الحسين، فحمله على ناقةٍ وأعطاه نفقةً وأمره أن يبلّغه ما قال مسلم بن عقيل، فلقيه على أربع مراحل فأخبره ((1)).
وقال الذهبي: ففعل ذلك، وبعث رجلاً على ناقةٍ إلى الحسين، فلقيه على أربع مراحل ((2)).
ابن سعد عن الواقدي وغيره بإسنادهم: أنّ عمر بن سعد بن أبي وقّاص أرسل رجلاً على ناقةٍ إلى الحسين يخبره بقتل مسلم بن عقيل، وكان قد بعثه الحسين إلى الكوفة.. ((3)).
ص: 210
سيأتي الكلام عن تنفيذ الوصيّة فيما يخصّ الجثمان المقدّس تحت عنوان (تجهيز الأجساد الطاهرة)، وقد مرّ الكلام في تبليغ الرسالة لسيّد الشهداء (علیه السلام) في بحث (مسلم بن عقيل -- ثائرٌ أم سفير؟).
ومن الواضح أنّ ابن سعد لا يتجاوز حدود ما يرسمه له سائسُه ابنُ زياد، ولمّا كان في تبليغ سيّد الشهداء (علیه السلام) ما يحقّق لهم مأرباً فقد أذن له،وما سوى ذلك فقد خضع لأحقاده وضغائنه، وصغى به لعداوته وشحنائه ومنبته الموبوء.
ص: 211
ص: 212
بدنٌ مكدود.. مزّقته الجراح، طرّزت له الدماء سربالاً، وانغرزت فيه النبال حتّى لكأنّه مقاديم النسور، وهشمت فمه الحجارة ونصلت ثنيّتاه، غاصت الرماح في أحشائه، وانتهلت السيوف من أعضائه، فكرعت من دمه الذي جفّفه العطش، فصدرت رويّةً من ضربة ابن حمران وطعنة الغادر بعد أن ردّ عليهم الأمان..
أذبل الظمأ شفتيه، وفتّت كبده، وأيبس رأتيه، وامتلأ فوه دماً منعه من شرب الماء..
أحاطت به الأراذل والأوباش، واجتمعت عليه الغوغاء والأحابيش والسفلة، وصكّت مسامعه زعقات اللئام المردة..
حاصرته الأنظار الّتي زاغت من هول صولته وسطوته، والأبصار الّتي كفّها وغضها واختطفها وميض سيفه وسرعة جولانه في المعركة.. غير أنّها
ص: 213
الآن تجده مكبّلاً، فرمته بسهام لواحظ الشماتة الخائبة..
شماتة الجبناء، تسلّط الخونة، لؤم الغلبة.. وسطوة الرعديد جرحٌ لا يُطاق ألمه، بعد أن يكبَّل الأسد لمّا أُثخن وتكاثرت عليه الضباع..
وليت الجَنان يعينه البيان ويؤازره اللسان، ويجتمع بنو الإنسان ليتمكّنوا من وصف جراحات الضيغم الهاشميّ والأسد الطالبيّ واللّيث العقيلي وهو داخل قصر الطاغية ابن الأمة الفاجرة.. ليت!
لقد ذكرنا في غير موضع الجراحات الّتي أُصيب بها المولى الغريب (علیه السلام) ، وقد اقتضب المؤرّخون الحديث عنها بعباراتٍ لو تأمّلناها قليلاً لعلمنا أن لا موضع في بدنه المقدّس لم يُدمِه عضّ السلاح..
فكم من حجارةٍ كدمته وأدمته؟
وكم من سهمٍ أصابه ومزّقه؟
وكم من رمح طعنه؟
وكم من سيفٍ ضربه وهشّمه؟
وكم من حزمة قصب مشتعلة جرحته وأحرقته؟
هذا سوى ضربة ابن حمران والحجر الّذي كسر فاه، وطعنة الغادر الّتي صرعته..
وسوى العطش.. والشماتة والنظر إلى دعيّ مكّنته السقيفة على سليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) !العجيب! الّذي يبهر العقول، ويهزّ كيان الغيور، ويدعو للفخر والمباهاة،
ص: 214
ويحيّر ذوي الألباب، ويترك المتابع أيّاً كان في ذهول، أن يقف سفيرُ سيّد الشهداء (علیه السلام) بعد كلّ ذلك ليذبّ ويدافع وينافح ويكافح ويصول بلسانه العقيلي الحادّ اللاذع، ويخوض حرباً كلاميّة بلسانه الّذي جفّفه العطش وضرّجته الدماء..
فمه مكسور.. شفته مقطوعة.. ثناياه ناصلة.. لسانه مخضَّب.. والعطش.. العطش؛ يكاد يلصق لسانه بلهاته.. فكيف كان الهزبر الظامئ المجروح يتكلّم؟!
ما ضعف البدن عمّا قويت عليه العزيمة.. إنّه حفيد أبي طالب، وابن عقيل، وابن أخي سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين (علیه السلام) ، وأخو سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (علیه السلام) .
لقد كان ثابت الجَنان، صلب الإيمان، نافذ البصيرة، قوي اليقين، راسخ القدم، على بصيرةٍ من أمره، ثاقب النظر، بعيد الغور، سليم الطوية، عظيم المناقب، عالي المراتب، يطلّ من سامق مقامه، ويشرف من سامي منزلته، نجيب المحتد، أصيل النسب، رفيع الحسب، تقوم به همّتُه، وتسانده غزير معرفته الّتي لا تقوى العقول غير المعصومة على حصر سعتها، ولا ترى لبحار علومه شاطئاً، ولا تكتشف لها عمقاً..
إنّه مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، سفير الحسين (علیه السلام) .. لا يقف إلّا كما يقفسيّده ومشرّفه بهذه المهمّة، فهو يعرف الحسين (علیه السلام) كما يليق بمثل مسلمٍ (علیه السلام) أن يعرفه..
ص: 215
لئن أجهد العطشُ والجراح والشماتة بدنَه، فقلبه طوع الحسين (علیه السلام) .. كزبر الحديد على أعدائه، بل أشدّ وأعظم تماسكاً وأقوى وأصلب، لا يضعفه نزف الجراح، ولا يكلّ ولا يملّ عن مقارعة أعداء الله وأعداء سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولا تزلزله القواصف، ولا تحرّكه العواصف، ولا تخور له قوّة، ولا تلين له صلابة، ولا يخيفه في الله لومة لائم..
إنّه قلب مسلم بن عقيل (علیه السلام) .. المفعَم بحبّ الحسين (علیه السلام) ، المتوهّج بنور مصباح الهدى، المتألّق بمعرفة الله، المتعلّق بالرفيق الأعلى..
إنّه مسلم بن عقيل (علیه السلام) .. النجيب الّذي وُلد من نكاح لا من سفاح في طول تاريخ شجرته الّتي نبتت في الحرم وبسقت بالجود والعطاء والكرم، وأضاءت الدنيا بأنوار غرر آبائه منذ أشرقت وأطلّت على دياجير الجاهلية، فكشفت عورات الأدعياء وأبناء الأدعياء.. إنّه ابن الزواكي الطاهرات، وابن الأنبياء، وسليل النجباء..
أوَليس للقارئ أن يعجب كيف كان هذا البطل المكلوم، والغريب المهموم، والعزيز الّذي وقع بين براثن أولاد البغايا أسيراً، وهو يعاني من كلّ تلك الجراحات.. كيف كان يستطيع الجواب، ويردّ على مَن افترى عليه وتعرّض لساحة قدس مولاه؟!هل يكون ذلك إلّا من رجال سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ومن أبناء أبي طالب (علیه السلام) ، ومن أختارهم الله على علمٍ ليكونوا لمثل هذه المواقف؟! وعندها ينطلق اللّسان كأمضى سلاح، وتنطق الجراح.. ولا يبالي القلب بما
ص: 216
يعتري البدن، ولا يكلّ اللسان من هول المصاب وعمق القرح!
* * * * *
تنقسم المصادر كالعادة إلى أقسام في نقل ما ورد في المقام من حيث الاقتضاب والإطناب والاختصار والتفصيل، وتكاد تتّفق على المضمون.
قال المسعودي: ثمّ أدخل إلى ابن زياد، فلمّا انقضى كلامه ومسلم يغلظ له في الجواب أمر به ... ((1)).
وقال أبو الفرج: ثمّ قال ابن زياد لمسلم: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لم تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغيلة لمن هو أحقّ به منك ((2)).
وقال الطبرسي: فقال ابن زياد: لَعمري لتُقتَلنّ قتلةً لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام. فقال له مسلم: أنت أحقّ مَن أحدث في الإسلام، وإنّكلا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وقبح السيرة، ولؤم الغلبة. وأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه ((3)).
ص: 217
وقال ابن شهرآشوب: فأُتي به إلى ابن زياد، فتجاوبا، وكان ابن زياد يسبّ حسيناً وعليّاً (علیهما السلام) ، فقال مسلم: فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله ((1)).
هذه النصوص المختصرة الّتي تحكي ما دار بين المولى الغريب (علیه السلام) وبين ابن الأمة الفاجرة، وهي كما ترى تنقل مقطعاً من الوارد في المتون المفصّلة، فنترك البحث فيها هنا، إذ أنّنا سنتناولها هناك.
غير أنّ تعبير المسعوديّ في (المروج) فيه إشعارٌ يجمل التوقّف عنده ولو على عجل، يقول: فلمّا انقضى كلامه ومسلم يغلظ له في الجواب أمر به ((2)).
يفيد النصّ قوّة المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، ويعبّر عن الضربات الموجعة التي سدّدها بشفرة لسانه إلى عدوّ الله، فأعجزه وطمّه في جحره وهو يخال أنّه يعيش زهو الظفر، فخاب وانقمع وتضاءل وانجحر..
ويبقى الشريف الكريم في كلّ حالاته شريفاً كريماً جليلاً عظيماً مهيباًمبادراً، يوجّه أزمّة الأُمور وفق موازين الطاعة لله ولمن أوجب الله طاعته، ويضع المقاليد في مواضعها، لأنّه يعرف ضخامته وفخامته وحقارة عدوّه وذلّته وصغاره، كما يعرف الملاحظ ذلك..
ويبقى القويّ المتين الثابت الرصين يعطي لمن يواجهه فسحةً للفخار
ص: 218
غالباً كان أو مغلوباً، فقد افتخرت أخت عمرو بن ودّ حينما أُبلِغت أنّ قاتل عمرو كان أمير المؤمنين حيدر الكرار (علیه السلام) ، وقالت أنّها سكنت لوعتها وهدأت رنّتها، ولو كان قاتله غير أسد الله وأسد رسوله لبكت عليه سالف الأبد، ولكنّها سوف لا تبكيه إذ أنّ قاتله كفوٌ كريم.
وسُبي سيّد الكائنات في زمانه الإمام زين العابدين (علیه السلام) وولده الوصيّ من بعده الإمام الباقر (علیه السلام) وفخر المخدّرات عقيلة الطالبيين (علیها السلام) ، وكبّلوهم.. وكانت لهم على عدوّهم الوضيع.. لأنّ العظيم إذا وقع أسيراً بيد من هو دونه فهو زيادة في حقارة الدنيء وإمعانٌ في كشف زيفه وسخرية العارف بهما منه..
والقيود والأغلال لا تضعف القويّ ولا تسلخ عنه هويته، ولا تزيد هيبته إلّا جلالاً وعظمة، إذ لم يؤثّر السبي والقيد في الإمام زين العابدين (علیه السلام) ولا في عمّته فخر المخدرات (علیها السلام) ، بل انبرى كلٌّ منهما بما منحه الله من هيبةٍ وجلال وقوّة، فحدّوا للطغاة حدّهم، وقرّعوهم وفضحوهم، وكشفوا الحضيض الذي يتقلّبون فيه بأعمالهم، فإنّ العزّة دائماً لله ولرسولهوللمؤمنين أينما كانوا وفي أيّ حال كانوا..
ومسلم (علیه السلام) يغلظ له في الجواب.. يكرّ عليه ولا يفرّ، فلم يجد الجبان الرعديد الفاشل سوى أن يأمر به، وهكذا جرت المقادير، ولله الحكمة البالغة..
ص: 219
قال البلاذري: وقال الهيثم بن عدي: حدّثني ابن عياش [ظ] عن مجالد، عن الشعبيّ قال: أُدخل مسلم بن عقيل (رحمه الله) على ابن زياد وقد ضُرب على فمه، فقال: يا ابن عقيل، أتيت لتشتيت الكلمة؟ فقال: ما لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر كتبوا أنّ أباك سفك دماءهم وانتهك أعراضهم، فجئنا لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فقال: وما أنت وذاك؟ وجرى بينهما كلام.
وقال هشام بن الكلبي: قال أبو مخنف في إسناده: قال ابن زياد لابن عقيل: أردت أن تشتّت أمر الناس بعد اتفاقه، وتفرّق أُلفتهم بعد اجتماعهما.
وجرى بينهما كلامٌ حتّى قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام. فقال له مسلم: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام، مالم يكن فيه من سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة... ((1)).
وقال الطبري: ثمّ إنّ ابن زياد قال: إيه يا ابن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض! قال: كلّا، لست أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ أولم نكن
ص: 220
نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر!
قال: أنا أشرب الخمر؟ والله إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلت بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه، ولم يرك أهله. قال: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد! فقال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً؟ قال: والله ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين. قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام! قال: أماأنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك.
وأقبل ابن سميّة يشتمه ويشتم حسيناً وعلياً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه.
وزعم أهل العلم أنّ عبيد الله أمر له بماء، فسُقي بخزفة، ثمّ قال له: إنّه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلّا كراهة أن تُحرم بالشرب فيها، ثم نقتلك، ولذلك
ص: 221
سقيناك في هذا ((1)).
وقال ابن أعثم: فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني، فقد قَتل شرٌّ منك مَن كان خيراً منّي.
فقال له ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجتَ على إمامك، وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد! والله ما كان معاوية خليفة بإجماع الأُمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّك ألقحتَها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته، فوالله ما خالفتُ ولا كفرتُ ولا بدّلت! وإنّما أنا في طاعة أميرالمؤمنين! الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة؟ فقال مسلم بن عقيل: أحقّ والله بشرب الخمر منّي مَن يقتل النفس الحرام، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً، أحالك الله دونه وجعله لأهله. فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد ومعاوية. فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله، كفى بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد لعنه الله: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً؟ فقال مسلم
ص: 222
ابن عقيل: لا والله، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين. فقال ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك! فقال مسلم: إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة، والله لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربةٍ من ماء لَطال عليك أن تراني في هذا القصر ...
... ولكنّي أريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيتَ إلى هذا البلد؟ شتّتَّ أمرهم، وفرّقتَ كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض! فقال مسلم بن عقيل: لست لذلك أتيت هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهمعن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولا تزال الخلافة لنا، فإنّا قهرنا عليها، لأنّكم أوّل مَن خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾.
قال: فجعل ابن زياد يشتم عليّاً والحسن والحسين (رضي الله عنهم)، فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم، فاقضِ ما أنت قاض، فنحن أهل بيتٍ موكَلٌ بنا البلاء.
فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر، فاضربوا عنقه وألحقوا رأسه جسده. فقال مسلم (رحمه الله): أما والله يا ابن زياد! لو كنتَ
ص: 223
من قريش أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني، ولكنّك ابن أبيك ((1)).
قال المفيد والفتال: ثمّ قال ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وهم جميع، فشتّتّ بينهم، وفرّقتَ كلمتهم، وحملتَ بعضهم على بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمربالعدل وندعو إلى حكم الكتاب.
فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لمْ تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! أما والله إنّ الله يعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلتَ بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها، ويسفك الدم الحرام على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه، ولم يرك اللهُ له أهلاً. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد! فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام
ص: 224
من الناس. فقال له مسلم: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقُبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة لأحد. فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً (علیهم السلام) ، وأخذ مسلم لا يكلّمه ((1)).
قال مسكويه: وانتهى بمسلم إليه. فقال: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيت الناسوأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم وتحمل بعضهم على بعض. قال: كلّا! لست لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحد في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة، لا أحد من الناس أحقّ بها منك. وأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً، وأمسك مسلم لا يكلّمه ((2)).
الخوارزمي: ثم قال لمسلم: يا شاقّ يا عاقّ، خرجتَ على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، وألقحت الفتنة. فقال: كذبت يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وإنّما ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد ابن عبيد بن علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي
ص: 225
شرّ بريّته، فوالله ما خلعتُ وما غيّرت، وإنّما أنا في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟ فقال مسلم: الله يعلم أنّي ما شربتها قطّ، وأحقّ منّي بشرب الخمر مَن يقتل النفسالحرام، ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسُك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال مسلم: ومن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال له: يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً؟ فقال: لا والله، ما هو بالظنّ ولكنّه اليقين.
فقال ابن زياد له: قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة. فقال له مسلم: أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الفعلة لأحدٍ غيرك أولى منك، والله لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرتُ على شربة ماء، لطال عليك أن تراني في هذا القصر ...
... ولكن أُريد أن تخبرني يا ابن عقيل، لماذا أتيتَ أهل هذا البلد وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، فأردتَ أن تفرّق عليهم أمرهم، وتحمل بعضهم على بعض؟ فقال له مسلم: ليس لذلك أتيت، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وأنّ معاوية حكم فيهم ظلماً بغير رضىً منهم، وغلبهم على ثغورهم الّتي أفاء الله بها عليهم، وأنّ
ص: 226
عاملهم يتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر، فأتينا لنأمر بالعدل، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنّا أهله، ولم تزل الخلافة لنا وإن قهرنا عليها،رضيتم بذلك أم كرهتم، لأنّكم أوّل من خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾.
قال: فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين، فقال مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتم والسبّ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله، فنحن أهل بيتٍ موكل بنا البلاء ((1)).
وقال ابن الأثير: ثمّ قال لمسلم: يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم وتفرّق كلمتهم. فقال: كلّا، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب والسنة.
فقال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة؟ قال: أنا أشرب الخمر؟ والله إنّ الله يعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّ أحقّ الناس بشرب الخمر منّي مَن يلغ في دماء المسلمين، فيقتل النفسَ التي حرّم الله قتلها على الغضب والعداوة، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
ص: 227
فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك. فشتمه ابن زياد وشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، فلم يكلّمه مسلم ((1)).
وقال ابن نما: قال: اسكت، ويحك ما هو لي بأمير! فقال عبيد الله: لا عليك، سلّمت أم لم تسلِّم فإنّك مقتول. قال: إن قتلتَني فلقد قتل مَن هو شرٌّ منك مَن هو خيرٌ منّي، فإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة، لا أحد أولى بها منك. فقال ابن زياد: يا عاقّ، يا شاقّ، خرجتَ على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين أنت وأبوك زياد عبد بني علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على أيدي شرّ البريّة.
فقال ابن زياد: منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال مسلم: ومَن أهله يا ابن مرجانة؟ قال: يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد: أتظنّ أنّ لك شيئاً من الأمر؟ قال: والله ما هو الظنّ، وإنّما هو اليقين.
فقال ابن زياد: أما كان في قيان المدينة ما يشغلك عن السعي في فساد أُمّة محمّد؟ أتيتهم وكلمتهم واحدة، ففرّقتهم. فقال: ما للفساد أتيت،
ص: 228
ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وأنّ معاوية ظلمهم وحمل فيئهم إليه، فجئتُ لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأقوم بالقسط وأدعو إلى حكم الكتاب ((1)).
وقال السيّد ابن طاووس: فقال له: اسكت، ويحك، والله ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمت أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم: إن قتلتني، فلقد قَتل مَن هو شرٌّ منك مَن هو خيرٌ منّي، وبعد، فإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحدٍ أولى بها منك.
فقال ابن زياد: يا عاقّ يا شاقّ، خرجتَ على إمامك، وشققتَ عصا المسلمين، وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة، فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته.
فقال له ابن زياد: منّتك نفسك أمراً أحال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم: ومَن أهلُه يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
فقال له ابن زياد: أتظنّ أن لك في الأمر شيئاً؟ فقال له مسلم: والله ما هو الظنّ، ولكنّه اليقين. فقال ابن زياد: أخبرني يا مسلم بماذا أتيت هذا
ص: 229
البلد وأمرهم ملتئم، فشتّتَّ أمرهم بينهم وفرّقت كلمتهم. فقال مسلم: ما لهذا أتيت، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس بغير رضىً منهم، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنّا أهل ذلك. فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين (علیهم السلام) ، فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله ((1)).
وقال النويري: ثمّ قال: يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتيت بينهم وتفريق كلمتهم. قال: كلّا، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءَهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال: وما أنت وذاك؟ ثم كانت بينهما مقاولة، قال له ابن زياد في آخرتها: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. فقال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة لأحدٍ من الناس أحقّ بها منك! فشتمه ابن زياد وشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً، ولم يكلّمه مسلم ((2)).
وقال ابن كثير: فأقبل ابن زيادٍ عليه، فقال: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيت
ص: 230
الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم، وتحمل بعضهم على قتل بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب.
قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ فقال: أنا أشرب الخمر؟ واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلتَ بغير علم، وأنتَ أحقّ بذلك منّي، [فإنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أولى بها منّي مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، ويقتل النفس الّتي حرّم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظنّ، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله. قال: فمَن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد. قال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً؟ قال: لا والله، ما هو بالظنّ ولكنّه اليقين.
قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم]. وأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً، ومسلم ساكت
ص: 231
لا يكلّمه. رواه ابن جرير عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة ((1)).
جاءت المحاججة والمناظرة أو المعركة الكلاميّة والمنازلة والمصاولة اللسانية -- إن شئت فسمّها -- في بعض المصادر فيها شيءٌ من التفصيل لما جرى بين سليل الطهر وسليل العهر، بيد أنّ بعضهم اقتطع النصّ واجتزأ منه لأيّ غرضٍ كان، كأن يكون قاصداً للاختصار، أو خائفاً من انتشار رائحة الفضيحة الّتي كشف غطاءها المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، أو متنكّباً الجادّة العامّة الّتي أوضح مناهجها العالِم من عترة النبي (صلی الله علیه و آله) ، لأنّ في ذلك إبطالٌ لحجّة أئمّتهم وسادتهم، أو بدافع إرضاء السلطان، أو أيّ حاجةٍ في نفس المؤرّخ والراوي يودّ أن يقضيها بالاجتزاء والاختصار.
ويشهد لذلك قول البلاذري: وجرى بينهما كلامٌ حتّى قال له: قتلني الله إن لم أقتلك.. ((2)).
وقول مسكويه: وتراجعا الكلام إلى أن قال ... ((3)).
وقول النويري: ثمّ كانت بينهما مقاولة، قال له ابن زياد في آخرتها ... ((4)).
ص: 232
وهذا ما يعطي مجالاً للمتابع أن يأخذ الزيادات المناسبة للموقف بنظر الاعتبار، إذ أنّ هؤلاء أقرّوا أنّ ثمّة محذوفٌ في البين، فربّما كانت الزيادات من المحذوفات.
أرسل ابن الأمة الفاجرة أرتالاً وكتائب عبّأهم لقتال البطل الهاشميّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وكان فيهم صناديد عسكر السقيفة في الكوفة يومها، وقد أتينا على ذلك مفصّلاً في دراسة (الحرب الأخيرة)، وبقي هو يلوذ بجدران قصر الخبال، تحوطه الحرس والرجال وتذود عنه الوحشة، ما يسمّيهم بالوجوه والأشراف، وهو مع ذلك لا يقرّ له قرار، يتسقّط الأخبار، ويتابع مرتعِشاً خائفاً لا يدري ماذا يخبّئ له القدر من مواجهة فرع هاشم وغصن الشجرة المباركة وسيف الحسين (علیه السلام) البتّار، ويهتزّ كيانه حينما يسمع رسل ابن الأشعث وهو يستمدّ الفرسان ويستغيث ويطلب الرجال.
وبعد كلّ الّذي جرى وصار، حكم القدر ووقع الضيغم الهصور أسيراً في يد الأذناب والأقزام، بعد أن كظّه العطش وأُثخن بالجراح وصرعته الضربة الغادرة الّتي مزّقت أحشاءه وغاصت في خاصرته، فظنّ الرعديد المتهاوي أنّه قد تماسك واجتمع شتات نفسه الخائرة، فدبّ الزهو في أعطافه، وتوثّب الغرور من أعماقه، بعد أن كبت وقمع خلال فترة وجود المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) في الكوفة، وشال الكبرياء بقايا الغطرسة،
ص: 233
فتنافخ وعاد الهواء لأنفه وتورّم وهو يرى الأسد الغالب مكتوفاً تحفّه الجلاوزة، وتشمت به الأنظار، والحرس يحوطونه وهو بين المتزلّفين والمرتزقة.
فبدا اللّعين كأنّه وحشٌ أُطلق من قيوده، وصار يتكلّم وفق المنهج الّذي سار عليه أسلافه منذ لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً، وتمكّنوا من رقاب المسلمين بالقهر والغصب والحيلة والافتراء وقلب الموازين وتزييف الحقائق وعرض الباطل مموَّهاً بالحقّ الزائغ عن الصراط المستقيم.
فكال التهم، وافترى واجترأ، وعاند وكابر، وكذب على الله، وقلب الحقائق، وكان له ابن عقيل (علیه السلام) بالمرصاد، فقارعه وألقمه حجراً، فأذلّه وكشف وجهه، فبان كأقبح من عراق خنزير مجذوم منتن ملقىً في حشّ يهود.
ويمكن أن يلاحظ كلام الخبيث الرجس من خلال عدّة محاور ركّز عليها في حواره:
يتبيّن من النصوص الّتي ذكرناها قبل قليل أنّ ابن الأمة الفاجرة بدأ يفتري ويعرض أمام الحاضرين أفكاراً، ويستخدم مصطلحات شرعيّة وظّفها توظيفاً مقلوباً، وعكس فيها المفاهيم وفرّغ المصطلحات من معناها الحقيقيّ وحشاها معاني مغلوطة تتناقض تماماً مع إرادة الشارع الأقدس، وهو ما فعله جرذان السقيفة من قبل، فكان كلامه متهرّئاً متهافتاً لا يستر
ص: 234
قبحه ولا يردم عفنه.
وقد حاول الضرب على مواضع تربّى عليها الناس منذ أيام السقيفة، من خلال الالتجاء إلى الجماعة ووحدة الصفّ والتوجّس من مقارفة الفتن والخروج على الإمام، وهكذا.. وسوف نستعرضها تباعاً إن شاء الله تعالى.
وهو يريد من خلال ذلك محاكمة أصل المهمّة الّتي جاء من أجلها المولى الغريب سفير الحسين (علیهما السلام) :
أوّلاً: تشتيت الكلمة، وحمل بعضهم على بعض!
ثانياً: شقّ العصا.
ثالثاً: إلقاح الفتنة.
رابعاً: الخروج على الإمام.
وكان ردّ المولى مسلم بن عقيل صاعقاً قويّاً مدمّراً، يأخذ بالعقول السليمة إلى سواء السبيل، ويسلك بها المنهج القويم، ويضعها على الصراط المستقيم، ويفنّد مزاعم الخبيث، ويُرجِع الموازين كما نصبها الله، ويسوّيها خلاف ما نكسها أعداء الله.
قال البلاذري: فقال: ما لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر كتبوا أنّ أباك سفك دماءهم، وانتهك أعراضهم، فجئنا لنأمر بالمعروف وننهى عن
ص: 235
المنكر ((1)).
وقال الطبري: قال: كلّا، لست أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب.
وقال ابن أعثم: فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد! واللهِ ما كان معاوية خليفةً بإجماع الأُمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد، وأما الفتنة فإنّك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته، فوالله ما خالفتُ ولا كفرتُ ولا بدّلت! وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين! الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
وقال المفيد والفتال: قال: كلّا، لست لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءَهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لم تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟
وقال الخوارزمي: فقال: كذبتَ يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وإنّما ألقح الفتنة أنت وأبوك زياد بن عبيد بن علاج
ص: 236
من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته، فوالله ما خلعتُ وما غيّرت، وإنّما أنا في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
وقال ابن الأثير: فقال: كلّا، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب والسنة.
وقال ابن كثير: قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب ...
ويمكن اختصار ردود المولى مسلم في نقاط:
أوّلاً: نفى (علیه السلام) أن يكون قد أتى لما زعمه واتّهمه به ابنُ الأمة الفاجرة.
ثانياً: إنّه إنّما جاء بناءاً على شكوى ودعوة تقدّم بها أهل المصر.
ثالثاً: إنّ القوم قد استنصروا بهم واستغاثوا ممّا هم فيه من قتلٍ وهتكٍ للأعراض وأعمال كسرويّة وقيصريّة.
رابعاً: إنّ إغاثتهم للقوم ستكون عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى العدل وحكم الكتاب والسنّة.
خامساً: إنّ معاوية ويزيد ليسوا خلفاء مجمَع عليهم، وإنّما تغلّبوا على ما في أيديهم بالقهر والقوّة، فهم مَن شقّ العصا.سادساً: إنّ من ألقح الفتنة هو زياد ابن أبيه وسليل العلوج ابن زياد.
ص: 237
يلاحَظ في كلام المولى مسلم (علیه السلام) الدقّة في استخدام الضمائر، فهو يقول: «ما لذلك أتيت»، «كلّا لستُ أتيت».. مستخدماً ضمير المفرد.
وحينما يريد الحديث عن الناحية التي توجّهت لها كتب القوم والجواب عليها والاستجابة لما فيها، يستخدم ضمير الجمع: «فجئنا لنأمر بالمعروف»، «فأتيناهم لنأمر بالعدل»، «وندعو إلى حكم الكتاب»، «ونحن أولى بالخلافة».. في إشارةٍ إلى أنّه ليس هو صاحب الدعوة، ولا المباشر بالإجابة والإغاثة، ولا الطالب للخلافة، وإنّما هو رسولٌ وممثِّلٌ لمن وراءه، وليس هو إلّا رائد.
وفي ذلك ردٌّ وتفنيدٌ قويّ لمزاعم ابن الأمة الفاجرة، وتشتيتٌ لما يحاول تكريسه، فهو يخاطب المولى مسلم (علیه السلام) وكأنّه هو الّذي جاء ليفعل ما يزعمه ابن زياد ويطمع في الأمر لنفسه، وأنّه القائد الأصل والرجل الّذي يريد الوصول إلى غاياته التي صوّرها ابن زياد نفسه، وقد قبض عليه ابن زياد وانهى كلّ ما كان يطمح إليه.
وربما أراد أن يمارس الخبيث حرباً نفسيّة مع الناس، ويوحي إليهم أنّ القيام قد انتهى، لأنّ قائده وزعيمه والمتصدّر لتحقيق الأهداف قد وقع فيقبضته، وفي نفس الوقت يحاول أن يوفّر المسوّغات الكافية والأدلّة الوافية
ص: 238
لقتل المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) باعتباره خارجاً على الحكم شخصيّاً، وغيرها من المقاصد..
فكان ردّ البطل الهاشمي (علیه السلام) صاعقاً نبهاً دقيقاً، أتى على بنيان عدوّه من القواعد فلم يُبقِ ولم يذر، إذ أجاب بصيغة الجمع مشيراً إلى أنّه مفردة تمثّل العظيم الّذي يُذكَر بالتبجيل والتكريم والتعظيم، لأنّ ممّا يجزم به كلّ مَن يسمع كلامه (علیه السلام) أنّه لا يدّعي الخلافة لنفسه أبداً في قوله: «نحن أولى بالخلافة»، فهو ليس وحده، وإنّما هو رسولٌ لإمامه (علیه السلام) .
في لفظ البلاذري: «كتبوا»، وفي لفظ غيره: «زعموا».
والزعم أيضاً يأتي بمعنى القول، ومنه: زعم فلان كذا، أي قال ((1))، فيكون المعنى واحد. وليس المراد به الزعم بمعنى ادّعاء شيءٍ يحتمل الصدق والكذب أو التشكيك في أمر.
ذكر المولى مسلم بن عقيل (علیهما السلام) جرائم زياد سليل العلوج وجرائم ابنه، كأنّه اقتبس كلامه هذا من كتاب الإمام الحسين (علیه السلام) لمعاوية إذ يقول (علیه السلام) في حديثٍ طويل:
ص: 239
«ثمّ سلّطتَه ((1)) على العراقَين، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمّل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لستَ من هذه الأُمّة وليسوا منك» ((2)).
فقال مسلم (علیه السلام) : إنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر..
فإذا كان معك يا ابن زيادٍ في الكوفة زبد من الغوغاء، فإنّ فيهم أيضاً من عجّ وضجّ واستغاث من فعالك وفعال أبيك ومن سلّطكما، فأنت وأبوك وأسيادكم مَن شتّت الجمع وفرّق الكلمة، وعمل بالظلم والجور، ومزّق الناس كلّ ممزَّق، وجعلهم أحاديث وشراذم، حتّى صار الرجل يخاف من مملوكه وخادمه أن يفوه بكلمةٍ أمامه، وقتلوا على الظنّ والشبهة تحت كلّ كوكب، حتّى لقد كان الرجل يسقط بالكلمة فيُضرَب عنقه ((3)).
قلنا قبل قليلٍ أنّ المولى مسلماً (علیه السلام) حينما يتكلّم عن مؤدّيات الدعوة فهو لا يتكلّم بالمفرد، وإنّما يتكلّم باستخدام ضمير الجمع، فيقول: «فجئنا»،«فأتيناهم»، «ندعو».. فهو ليس عمل فردي يريد أن يتبنّاه شخصيّاً،
ص: 240
وإنّما هو واجهة وسفير وممثّل للإمام الذي «جاء» و«أتى» و«دعا»..
وقد لخّصها المولى مسلم (علیه السلام) وفق مجموع النصوص السابقة بثلاث مهام:
الأوّل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: الأمر بالعدل.
الثالث: الدعوة إلى حكم الكتاب والسنّة.
وتعبير المولى -- حسب المتون -- عميق ودقيق جدّاً، لا يمكن للدعيّ ابن زياد ولا لغيره أن يستفيد منه استهداف الحكم وتبييت الاستيلاء على السلطة والتوثّب على مقاليد الإمارة، حيث قال: «لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر»، «نأمر بالعدل»، «ندعو إلى حكم الكتاب»، وفي لفظ ابن الأثير أضاف «السنّة».
أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، وأمرٌ بالعدل ودعوةٌ إلى حكم الكتاب.. وهذه تكاليف مفروضة على كلّ مسلمٍ آمن بالله واليوم الآخر، ولا يُشَمّ من صياغة الفقرات ما يشير إلى تطبيقٍ ومباشرة تنفيذ. قال: «نأمر بالعدل» لا (ننشر العدل) مثلاً، «ندعو إلى حكم الكتاب» لا (نطبّق حكم الكتاب) أو عبارة أُخرى تدلّ على هذا المعنى.. والبحث أعمق من ذلك بكثير، وليس هذا موضعه.
ص: 241
لقد ورد النهي مؤكَّداً على لسان أئمّة أهل البيت (علیهم السلام) عن تسمية غير الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ب- (أمير المؤمنين)، حتّى وُلده الأئمّة المعصومين (علیهم السلام) ، فهو لقبٌ خاصّ منحه الله (عزّ وجلّ) له، ولا يكون لغيره قطّ من الأوّلين والآخرين، كما ورد في حديثٍ طويلٍ للإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) : «تسمّيني بإمرة المؤمنين وما جعلها الله لي ولا لأخي الحسين، ولا لأحدٍ ممّن مضى ولا لأحدٍ ممّن يأتي، إلّا لأمير المؤمنين خاصّة؟ أوَ ما سمعتَ جدّي رسول الله (صلی الله علیه و آله) قد قال لأبي: يا علي، إنّ الله سمّاك بأمير المؤمنين، ولم يُشرِك معك في هذا الاسم أحداً، فما تسمّى به غيرُه إلّا وهو مأفون في عقله؟» ((1)).
وفي تفسير فرات: عن عمر بن زاهر قال: قال رجلٌ لجعفر بن محمّد (علیهما السلام) : نسلّم على القائم بإمرة المؤمنين؟ قال: «لا، ذلك اسمٌ سمّى الله به أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لا يسمّى به أحدٌ قبله ولا بعده إلّا كافر». قال: فكيف نسلّم عليه؟ قال: «تقول: السلام عليك يا بقيّة الله». قال: ثمّ قرأ جعفر: ﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ((2)).وفي تفسير العيّاشي: دخل رجلٌ على أبي عبد الله (علیه السلام) فقال: السلام
ص: 242
عليك يا أمير المؤمنين. فقام على قدميه فقال: «مَه، هذا اسمٌ لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، اَلله سمّاه به، ولم يسَمَّ به أحدٌ غيره فرضي به إلّا كان منكوحاً، وإن لم يكن به ابتلي به، وهو قول الله في كتابه: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾». قال: قلت: فماذا يُدعى به قائمكم؟ قال: «يُقال له: السلام عليك يا بقيّة الله، السلام عليك يا ابن رسول الله» ((1)).
وقال السيّد الجزائري في (رياض الأبرار): وروى الثقة العيّاشي عند تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾: إنّه ما تسمّى أحدٌ بأمير المؤمنين غير علي (علیه السلام) إلّا كان ممّن يؤتى في دبره وله حظٌّ من الأنوثيّة ((2)).
ولا نشكّ أنّ الفقيه العالم ربيب بيت أمير المؤمنين (علیه السلام) ومَن آخاه سيّد شباب أهل الجنّة الحسين (علیه السلام) قد سمع ذلك ووعاه وعمل به، فلا يمكن أن يسمّي الإمامَ الحسين (علیه السلام) بأمير المؤمنين، كما ذكره ابن أعثم: «وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن علي..».
ويشهد لذلك تفرّد ابن أعثم به، وأنّ الخوارزميّ وغيره نقلوا النصّنفسه من دون هذه الزيادة.
إلّا أن يقال -- على فرض صحّة ذلك -- : إنّه أراد أن يُفهِم ابنَ زيادٍ أنّ
ص: 243
هذا المقام (أمير المؤمنين) مقامٌ غصبه الأجلاف أسلافُه، وهو لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) خاصّة، وإن كان لغيره فهو لابنه الحسين (علیه السلام) .
وهو بعيد؛ لما ذكرناه قبل قليلٍ من ورود النهي عنه من جهة، ومن تعبيره (علیه السلام) بالخلافة في مقام بيان أحقّيّة الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كما سنسمع بعد قليل.
رمى ابنُ زياد الخبيث المولى مسلمَ بن عقيل (علیه السلام) بشقّ عصا المسلمين وتشتيت كلمتهم وتفريق وحدتهم، فردّ عليه البطل الهاشمي (علیه السلام) ردّاً أتى على بنيانه من القواعد، وأبان الحقّ وكشف الدجى بنيّر كلماته، الّتي أثبت فيها أنّ ابن زياد ومَن سلّطه على رقاب الناس هم الّذين شقّوا العصا وفرّقوا الكلمة وشتّتوا الجماعة، وبذلك أعاد مسلم (علیه السلام) الحقّ إلى نصابه، وأرجع الميزان الّذي حاول ابن زياد قلبه إلى اعتداله، ودلّ على القيم الأصلية التي ينبغي الرجوع إليها والتحاكم وفقها.
فقال مسلم (علیه السلام) -- كما في (الفتوح) -- : كذبتَ يا ابن زياد! واللهِ ما كان معاوية خليفةً بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنهالخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد ... وإنّما أنا في طاعة ... الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
ص: 244
وفي (المقتل) للخوارزمي: فقال: كذبتَ يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ... فوالله ما خلعتُ وما غيّرت، وإنّما أنا في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
عبارات المولى الغريب (علیه السلام) في هذا المقطع -- كما هو في سائر عبائره -- غاية في المتانة وقوّة الاستدلال، وجزالة اللفظ وحبك المعاني، وترادف الأفكار والمعتقدات، وتتابع المقدّمات والنتائج، وعمق الغور ودقّة التعبير..
فهو أثبت -- وفق نصّ ابن أعثم -- أنّ معاوية قد تسلّط على الناس بالحيل والغلبة والقهر، ولم تكن الأمّة مجمعة عليه، فهو لم يصل إلى سدّة الحكم والسلطان بجعلٍ وتسديدٍ من الملِك المنّان، بل اختلسها اختلاساً، وغصبها غصباً من الوليّ الّذي جعله الله إماماً مفترَض الطاعة وأَولى بالمؤمنين من أنفسهم، والإمام العدل الّذي جعل الله له الولاية على الخلق لم يخلع ولن يخلع بالغلبة والحيلة، ولم تسقط ولايته بإعراض جميع الخلق عنها، كيف! وقد كان فيهم الكثير ممّن يعتقد بها ويدين الله بإمامتهوحاكميّته وولايته.
فمعاوية إذن لم يكن إماماً مجعولاً من الله، وإنّما أخذها بالغلبة والقهر والحيلة والغدر، فلا هو منصوبٌ بالنصّ من الله تعالى، ولم يجتمع عليه مَن يسمّونهم بأهل الحلّ والعقد، ولا أفرزته شورى، ولا اجتمعت عليه الأُمّة.. فبأيّ معيارٍ استولى على الحكم؟ ومِن أيّ شريعةٍ استمدّ قوّة السلطان؟
ص: 245
فإذا كان الإمام وصيّ النبيّ وخليفته الإمام الحسين والحسن المجتبى ومن قبلهما الإمام أمير المؤمنين وسيّد الوصيين (علیهم السلام) هم أئمّة الحقّ المنصوص عليهم من الله والمفروضة طاعتهم بنصّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فمَن خالفهم يُسمّى خارجيّاً مفارقاً للجماعة وشاقّاً للعصا.
معاوية ليس خليفة، وبالأولويّة لم يكن ابنه يزيد خليفة؛ لأنّ معاوية لم يأخذ الحكم وفق شريعةٍ أقرّها الإسلام، ولا نصّ عليها النبيّ (صلی الله علیه و آله) ولا ارتضاها ربّ العالمين، فكيف يخلف عليها ابنه؟! والإمام الحسين (علیه السلام) هو الخليفة بالحقّ، والوصيّ المنصوص عليه، فمَن تمسّك به وأطاعه فهو في طاعة الله، ومن خالفه فقد هوى وغرق وشقّ العصا.
إنّها الحجّة القارعة، والبرهان الدامغ، والحجر المُسكِت الّذي ألقمه لابن الأمة الفاجرة..
الخارجيّ هو معاوية، ويزيد، وابن زياد.. ومَن تبعهم ولهث خلفهم ولحس قيأهم.. أمّا مَن تبع الإمام المعصوم فليس هو الخارجي، وإنّما هوعلى الصراط المستقيم، ومَن كان في طاعة الحسين (علیه السلام) فهو في طاعة ربّ العالمين، فهم المحور وبهم الجماعة، ومَن فارقها شبراً أو فتراً أو أقلّ من ذلك، فقد شقّ العصا ودعا إلى الفرقة وشتّت الكلمة، ورجع إلى الجاهليّة القهقرى، وأكبّه الله منكوساً في جهنّم واللّظى.
هذه هي سنّة الله وسنّة نبيّه، وليس كما يصوّره ابن زياد وأسياده.. والإمام الحقّ المنصوب من الله هو الجماعة وبه ومعه تكون، وكلّ مَن
ص: 246
خالف سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وقاتَله وأعان عليه، فهو خارجيٌّ خرج على إمام زمانه..
فليس الخارجيّ ولا شقّ العصا كما زعم ابن زياد ورمى به المولى الغريب (علیه السلام) ، وإنّما هو على العكس تماماً، ابن زياد هو وأسياده الخوارج، وهم مَن شقّ العصا.
وفي كلامه (علیه السلام) هذا على اختصاره بحوث وفوائد عقائديّة وتاريخيّة كثيرة غنيّة، لا تسعها أوراق العجلان هذه.
في الفتوح لابن أعثم: وأمّا الفتنة، فإنّك ألقحتَها أنت وأبوك زياد بن [عبيد بن] علاج من بني ثقيف..
ومثله في (المقتل) للخوارزمي.
إنّه ابن عقيل (علیه السلام) ، العالِم بأنساب العرب، الّذي أذاق بني أُميّة السهادمرّاً، وأطعمهم الذلّ والفضيحة علقماً، وسقاهم حنظل منابتهم الذميمة النتنة ببيانه وحدّ لسانه، فلم يدع لهم مثلبةً إلّا كشفها على رؤوس الأشهاد، فسلب النوم من عيونهم، وزعزع عليهم استقرارهم..
مسلم (علیه السلام) الشجاع، ضربهم بالسيف وطعنهم بالسنان، وكبح زهوهم وقمع كبرياءهم بلسانه وبيانه..
مَن هو ابن زياد وأبوه؟ أولاد الخيام المنصوبة على قارعة الطريق، الّتي
ص: 247
يدخلها كلّ رخيص، والنتاج المتولّد تحت رايات البغي المنشورة للزناة، والنطف المنعقدة من سيلانات المياه العفنة المتداخلة من سقطات المجتمع..
لقد واجهه مسلم بهذه الحقيقة المدمّرة أكثر من مرّة، فعرّض به حينما بحث عن قرشيّ في المجلس ليوصي إليه، فالتفت إلى عمر بن سعد وقال: لا أرى في المجلس قرشيّ غيرك.. فجاءت طعنة نجلاء أفرغت أعطاف ابن الأمة الفاجرة المتورّم زوراً، إنّه التصق بأبي سفيان..
ثمّ واجهه هنا مباشرةً بكلمةٍ أنفذ من السهم وأمضّ من السنان.. «أنت وأبوك زياد بن عبيد علاج من بني ثقيف!!».
وقد سبقه إلى هذا القول سيّده وسيّد الكائنات الإمام الحسين (علیه السلام) في كتابه لمعاوية: «أوَلست المدّعي زياد ابن سميّة، المولود على فراش عبيد ثقيف؟ فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) : الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركتَ سنّة رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله) تعمّداً، واتبعتَ هواك بغير هدىً من اللَّه» ((1)).
فحدّ المولى الغريب (علیه السلام) لابن زياد حدّه، وعرّفه بحقارة أصله، ودناءة حسبه، وخساسة نسبه..
فديتك يا ابن عقيل على هذه الشجاعة الّتي يتراجع أمامها الصناديد،
ص: 248
وينجحر بين يديك الأبطال، فكيف بهذا الجبان الرعديد؟!
ثمّ إنّ القوم منذ يوم السقيفة وقبلها شرعوا في قلب الموازين، ونكس القيَم، ولبس الدين لبس الفرو مقلوباً، وتحريف معاني القرآن، وتشتيت القلوب والأذهان، وتهديم بناء العقل البشريّ الّذي بناه سيّد الأكوان النبيّ محمّد الأمين (صلی الله علیه و آله) ووصيّه الناصح (علیه السلام) ، وبناء عقل حشوه الشرك وطلاؤه الإسلام، يرضى بالمتناقضات ويخنع للترهات، فزيّفوا وحرّفوا وشكّكوا، ودخلوا قرية الدين فدمّروها تدميراً، وهذا هو شأن الملوك إذا دخلوا قرية، كما صرّح به القرآن.
وقد أعاد الحقّ إلى نصابه، ونصب الميزان معتدلاً مستقرّاً أبو حميدة، فأبان للرجس سليل الفاجرات أنّ الفتنة إنّما لقحت به وبأبيه وبمن سلّطهما، فجعلا يسملان الأعين، ويصلبان على جذوع النخل، ويلاحقان المؤمنين تحت كلّ حجرٍ ومدر، وهجّرا الآمنين من ديارهم، وخبطا الناس خبطعشواء، فلم يسلم من عذابهما أحدٌ من العالمين، وهما يقتلان على التهمة والظنّة، ولطالما قتلا بريئاً ليرعبا به الآخرين..
فعلا هذا وغيره كثير، ولا زالت صفحات التاريخ تأنّ من احتوائه، ولا زال المراجع للتاريخ يصيبه الدوّار ويفغر فاه ويغلبه الغثيان من التردّد على سطور الكتب الّتي استعرضت حياتهما وحياة أسيادهما.
لقد فعلوا ذلك معاندين مكابرين مصرّين عالمين بما يفعلون، لأنّ مهمّتهم الأساس هي أن يفتنوا الناس عن دينهم، ويفرّقوا بينهم وبين
ص: 249
إمامهم الحقّ المنصوب لهم من ربّهم.
فهم أتون الفتنة وكانون النار الخبيثة المشتعلة من عظام الأبرياء والمؤمنين والأتقياء، ولهيب العار الذي يشرّد بالناس في عقائدهم وأفكارهم ودينهم وكتابهم ونبيّهم وإمامهم..
أمّا الإمام الحق (علیه السلام) وصاحب الولاية الإلهيّة، فقد وعظ الناس بالحسنى، وجادلهم بالّتي هي أحسن، ودعا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.. ومَن اقتدى به وامتثل أمره وأطاعه وسلك نهجه ومضى في سبيله مقتدياً بالصالحين ومتّبعاً للنبيّين ومرافقاً للشهداء والسعداء والصالحين، فليس هو ممّن فُتن أو افتتن..
فما دام هو في طاعة الحقّ وإمام الحقّ، فلم يخلع، ولم يغيّر، ولم يبدِّل، ولم يكفر، تماماً كما قال في مجموع نصَّي ابن أعثم والخوارزمي: «فواللهما خالفتُ ولا كفرتُ ولا بدّلت. فوالله ما خلعتُ وما غيّرت، وإنّما أنا في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية ويزيد وآل زياد».
أنا مسلم (علیه السلام) ، في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله) .. وأنت يا ابن زياد في طاعة مَن؟ في طاعة القردة الّتي تجيد فنّ النزو على كلّ حرمة، القردة التعيسة الّتي ما تكاثرت إلّا بالحرام وطريق الحرام، حفنة من البغايا والزناة والسقطات والزبد الاجتماعي المتلبّد بالعفن منذ قديم الأيام، فلا شرف في جاهليّةٍ ولا إسلام..
ص: 250
ما أقواك! وأشجعك! وأبعد دلالات كلامك! يا فارس الكوفة وسيف الحسين (علیه السلام) ..
أكّد المولى الغريب (علیه السلام) والبطل الهاشميّ الصنديد، أنّ ما زعمه ابن زياد وأسياده وأسلافه من خلال محاولة تمويه باطلهم بشفف الحقّ، ومزج عفن تسلّطهم وتجبّرهم وقهرهم لعباد الله واتّخاذهم خولاً بشيءٍ من عبق الرسالة وعبير الخلافة المنتسبة ولو من بعيد للنبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) .. كذبة مفضوحة وفرية قبيحة لا تمرّ على العقول النيّرة والقلوب الصافية، فليس الأمر كما يزعمون أنّهم خلفاء، وإنّما هم ملوك وسلاطين بطّاشين جبّارين يسيرون بسيرة كسرى وقيصر، ولا يستنّون بسنن خاتم المرسلينالأطهر (صلی الله علیه و آله) .. فليقولوا ما يقولوا، وليشوّهوا كما يحلوا لهم، فإنّ أعمالهم هي الحكم، وهي الشاهد عليهم (يقتلون الخيار، ويسفكون الدماء، ويعملون في الناس أعمال كسرى وقيصر..).
روى الطبريّ أنّ ابن زياد ردّ على المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لمّا شرح له سبب المجيء إلى الكوفة، وأنّ أهل المصر كتبوا يشكون فتنة ابن زياد وقتله خيارهم وسفكه دماءهم؛ «فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب»، فقال ابن الأمة الفاجرة: «أوَ لم نكن نعمل بذاك فيهم؟».
ص: 251
ويحتمل في هذا النصّ احتمالان:
أن يكون نصّ الطبري صحيحاً، ويكون ابن زياد بمستوىً من الوقاحة والصلافة وصلابة الوجه بحيث يكذب كذبةً بهذه الضخامة الّتي تُغاير كلّ حقيقةٍ شهد بها التاريخ، ووثّقتها جرائمه وجرائم أسلافه في الغابرين.
ولا يستبعد مثل هذا البهتان العظيم على مثل ابن زياد، فقد فعلها جرذان السقيفة، وسار عليها الطغاة عبر القرون.
لقد اعتدنا أن نسمع من الطبري ما تمجّه الطباع السليمة من تحريفٍ وتزوير وتزويق وتنميق لدمن القرود الأموية، وهو يحاول أن يلمّع كدرهم ويموّه دمنهم، فنسب العمل بالكتاب لهم على لسان ابن زياد.
ولعلّ الصحيح هو ما رواه المفيد والفتّال وابن كثير وغيرهم: «فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك؟ لمَ لمْ تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة؟».
وفي لفظ ابن كثير: «لمَ لا كنت تعمل بذلك فيهم..».
وفق هذا النصّ لم يكن ابن زياد يدّعي ذلك لنفسه، وإنّما أراد أن ينال من قداسة شخص المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، ويقول له كذباً وزوراً
ص: 252
وبهتاناً واجتراءاً على الله وأوليائه أنّك لست مؤهَّلاً لهذه الدعوة..
حجّةٌ دامغة، وتقريعٌ عنيف، وكبحٌ لجموح الخيلاء، وقمعٌ لجنوح الكبرياء الّذي أذلّ الخبيث المتطاول، فأسكته وملأ فمه القذر بالأحجار الّتي تلقم الكلاب المتوحّشة والسائبة، فانبهر اللّعين وتقطّعت أنفاسه، فماذا يفعل! وقد أوقع نفسه في ورطةٍ ليس له منها خلاص.. فلو كانت حرباً بالسيوف والأسنّة لأحالها إلى صناديد الكوفة والمجرّبين في ساحات القتال من أُمراء جيش السقيفة.. ولكنّها الحرب هنا عنده في قصر الخبال مواجهةً بينه وبين البطل الهاشمي (علیه السلام) ، ولا حجّة له ولا طاقة على مقارعة حجج الحقّ!فمالَ إلى طريق القرود الأُمويّة، وسلك منهاج السقيفة في الغدر والافتراء والكذب ومحاولة تفريغ المقدّسات من القداسة، ظنّاً خائباً منه أنّ هذه القداسات كالهالات المنطفئة الّتي يسجّرها الملوك والسلاطين حولهم فيخدعون بها الناس، ونسي أو تناسى أو ضاق إناؤه عن إدراك أنّها قداسة ربّانيّة وهالات نورٍ إلهية، تستمدّ النور والقداسة من مشكاة النبوّة والإمامة..
إنّ مسلماً (علیه السلام) من العترة النبويّة، وابنَ زيادٍ وأسياده ديدان نشأت في المزابل، وتوالدت وتكاثرت في النفايات المتراكمة في خيم البغاء الموبوءة وراء تلال مكّة وغيرها من الأمصار.. ومن هوان الدنيا على الله أن يرمي
ص: 253
هذا الوغد الوقيح مقلع الرذائل مسلم بن عقيل (علیه السلام) بكلماتٍ نابيةٍ لا ترضى أن تنتسب إلى ساحته أبداً، لأنّها لا تنسجم مع منابت الطهارة ومعادن العظمة والجلالة..
فعمد اللّعينُ إلى أُسلوبٍ رخيصٍ هجم فيه على شخص المولى الغريب (علیه السلام) ، ليشنّ حرباً نفسيّةً استفزازيّةً ربما يستطيع من خلالها أن يضطرّ مسلماً (علیه السلام) للدفاع عن نفسه، ويسقط هيبته في عيون الحاضرين ومن سيبلغهم خطابه، في محاولةٍ جديدةٍ منه لقلب الحقائق وتزييف الموازين.
فقذفه بشرب الخمر!!! والعياذ بالله..
أهذا هو جواب الحجج الّتي ساقها مسلم بن عقيل (علیه السلام) ؟! أهذا هو ردّمن أثبت له أنّه وأسياده باطلٌ صُراح، وقد اغتصبوا الخلافة اغتصاباً، ونزو على منبر النبي (صلی الله علیه و آله) شرّ نزو، وعملوا في الناس بأعمال كسرى وقيصر، وحاربوا الحقّ، وفتنوا الناس عن دينهم؟!
الأدب الرفيع يكون دائماً ملازماً لأصحاب الهامات الكبيرة والقمم الشمّاء السامقة والأشجار المثمرة المونقة الباسقة، أمّا النكرات والأقزام والذوات المعقدة المتكونة من مزيج النطف، فإنّها لا يمكن أن تمارس إلّا ما تفيض به الأوساخ المتراكمة في أصولها.. والنخلة المثمرة إذا رميتَها تُسقِط
ص: 254
عليك رطباً جنياً، والصبّار لا تتوقّع منه سوى المرارة والأشواك..
طفح ابن الأمة الفاجرة بما في وعائه، وهو لا يعرف سوى ما قال، ولا ينطلق في اختيار الكلمات والألفاظ إلّا من خلال الأجواء والمفردات الّتي يعايشها ويصابحها ويماسيها، فتملأ جوانحه وتظهر على جوارحه..
هو لا يجد إلّا المفردة الّتي توفّرت في قاموسه، وانبثقت من كوامنه.. لقد كبر ونشأ وترعرع ونما منذ انعقاد نطفته القذرة في خيام السكر ومجالس الفسق والفجور والغناء والقيان والفواحش وذوات الأعلام.. تجده لا يعاشِر إلّا ثَمِلاً سكّيراً يعاقر الخمرة وينام في دنانها، ويأنس بالفواحش ما ظهر منها وما بطن..فإمامه وأميره وسيّده يزيد (لعنهما الله) الّذي باع آخرته بدنياه، يقول وقد سكر يوماً، فقال للمغنّي: غنّ، ثم قال يزيد بديهاً:
إسقِني شربةً تروّي فؤادي
ثمّ مل فاسق مثلها ابن زيادِ
صاحب السرّ والأمانة عندي
ولتسديد مغنمي وجهادي
قاتل الخارجيّ أعني حسيناً
ومبيد الأعداء والحسّادِ
وقال:
ولو لم يمسّ الأرض فاضل بردها
لما كان عندي مسحة في التيمّمِ
وقال:
معشر الندمان قوموا
واسمعوا صوت الأغاني
ص: 255
واشربوا كأس مدام
واتركوا ذكر المعاني
شغلتني نغمة العيدان
عن صوت الأذانِ
وتعوّضتُ عن الحور
عجوزاً في الدنانِ
وقال:
عليّة هاتي واعلني وترنّمي
بذلك أنّي لا أحبّ التناجيا
حديث أبي سفيان قِدماً سما بها
إلى أحدٍ حتّى أقام البواكيا
ألا هات فاسقيني على ذاك قهوة
تخيّرها العنسيّ كرماً شآميا
إذا ما نظرنا في أُمورٍ قديمةٍ
وجدنا حلالاً شربها متوالياوإن متّ يا أُمّ الأحيمر فانكحي
ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإنّ الذي حدّثتُ عن يوم بعثنا
أحاديث طسم تجعل
القلب ساهيا
ولا بدّ لي من أن أزور محمداً
بمشمولةٍ صفراء تروي عظاميا ((1))
تاريخهم مع الخمرة معروفٌ مشهور، ولياليهم العاجّة بالغواني والقيان مكشوفة مفضوحة، ومَن لا يفارق هذه الأجواء إلّا لسفك دم حرام أو ارتكاب فاحشة أو انتهاك حرمة لا يجيد لغةً سوى الّتي تكلّم بها ابن زياد..
ومن سخريّة الدهر أن يقف هذا اللئيم الحقير أمام الطود العظيم مسلم (علیه السلام) ، ويتفوّه بهذه الكلمات النابية.. لكن هكذا جرت المقادير قدماً
ص: 256
في أولياء الله، ومضت مشيئة الله في أنبيائه ورسله وأوصيائه (علیهم السلام) ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، والابتلاء سنّةٌ إلهيّة يفوز بها الأمثل فالأمثل من عباد الله الصالحين.
قارن -- ولو بنظرةٍ عجلى -- بين أراجيف ابن زياد والكلمات الوحشيّة الّتي تدافعت كالزبد من فمه لتفضح لؤم عنصره وتفاهة تنمّره، وبين كلمات المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) الطُّهر الطاهر والمنار الواضح والنور اللّائح والسموّ والرفعة والتعالي عن الدنيّة..
ابن زياد.. وهو مَن قد عرفت! وعرفه التاريخ! ولا غبار ولا لبس ولاتعتيم على أصله وحسبه ونسبه.. ابن مرجانة، ابن سميّة.. ولا ينكر ذلك أحدٌ حتّى زياد ابن أبيه نفسه وابن زياد ومعاوية.. كلّهم أقرّ بتنازع شرذمةٍ من الزناة المحترفين -- الّذين اعتادوا مراودة البغايا الرخيصات البائرات النتنات اللواتي لا سوق لهنّ في خيام البغاء -- على زياد وابنه..
أمثل هذا يقف ليذكر مسلم بن عقيل (علیه السلام) وينسبه لأُمّه معرِّضاً به؟!!
إنّه لَعجبٌ عجاب! عقيل؛ العالم بأنساب العرب، الّذي كلّفه سيّد الكائنات بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله) أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) أن يختار له زوجة (أُمّ البنين (علیها السلام))، أيختار من النساء امرأةً عاديّةً من عرض الناس لتلد له أولاداً يُقتَلون في محبّة سيّد الشهداء وسيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ؟
ص: 257
لكنّها السنّة الجارية في كلّ وضيع متهاوٍ يستشعر الحقارة والذلّ والدناءة في أعماق كيانه، فتجيش به مراجل الحقد والبغضاء والضغينة والشحناء على كلّ طاهرٍ عفيف نظيف الأردان ناصع النسب مبرّأ الأذيال..
روى البلاذري قال: حدّثني حفص بن عمر، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة قال: جرى بين ابن عقيل وابن زياد كلام، فقال له ابن زياد: إيهٍ يا ابن حلية. فقال له ابن عقيل: حلية خيرٌ من سميّة وأعف ((1)).
فلمّا رآه أمر به فكُتِف، وقال: أجئتَ يا ابن حلية لتنزع سلطاني؟قال: وحلية أمّ مسلم بن عقيل، وهي أمّ ولد ((2)).
وفي (تاريخ الطبري): حتّى أتاه، فأمر به فكُتِف، ثمّ قال: هيه هيه يا ابن خلية. قال الحسين بن نصر في حديثه: يا ابن كذا، جئتَ لتنزع سلطاني؟! ((3))
كأنّ في خبر الطبري كناية أعرض عن ذكرها الراوي «يا ابن كذا»، تفيد أنّ الخبيث نطق بلفظةٍ نابيةٍ نزّه الراوي نفسه عن التلفّظ بها، ولا نستبعد صدور ذلك من الوغد الرعديد الّذي عرفناه بؤرةً للأقذار..
والحرب عند ابن زياد حرب سلطان، حرب تسلّطٍ ونزوٍ وتحكّم في الرقاب.. ومَن هو هذا الجرو الأجرب حتّى يزعم لنفسه سلطاناً؟!! إنّما هو
ص: 258
وسخٌ متعلّق بذيول القرود الأموية ليس إلّا !
والبطل الهاشمي (علیه السلام) الّذي لم تفارقه السكينة ولم يزايله الوقار أبداً، ولم يستفزّ، وهو يعرف حجم الطاغية ومنبته.. لم يترك له كلمةً إلّا ردّها ردّاً صاعقاً مخرساً، يجزم السامع له أنّ ابن زياد قرض ذيله حتّى النهاية ندماً على ما قال وورّط نفسه في مواجهة هذه الصاعقة الإلهيّة المنقضّة على قصر الخبال..
إنّه ابن عقيل! المعروف بحدّة اللّسان وقوّة البيان وبداهة الجواب وسرعة الردّ.. والابن سرّ أبيه!ماذا يعيب ابن سميّة على أمّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، الّتي ولدت مثل هذا الضرغام المكتوف، الّذي انهال عليه بلسانه الذي نشّفه العطش وفمه الّذي كسره الحجر وشفته التي مضى فيها السيف حتّى قطعها وثناياه الناصلة من ضربة ابن حمران؟!
لقد ولدت (حلية) -- كما سمّاها ابن زياد -- مثل مسلم (علیه السلام) ، الّذي تعجز نساء الدهر أن تقوم عن مثله.. وماذا ولدت البغي سوى جرواً ربّته القرود؟!
ردّها عليه سيف الحسين (علیه السلام) المسلول في الكوفة مسلم بن عقيل (علیه السلام) : «حلية خيرٌ من سميّة وأعفّ» ((1)).. ذكّره باسم سميّة.. سميّة ذات العلم الّتي لا يجهلها أحدٌ لحذقها ومهارتها في صنعتها، حتّى بزّت كلّ
ص: 259
البغايا رغم دمامتها ونتن ريحها وزرقتها..
لقد حجر ابن عقيل (علیه السلام) الكلام على ابن سميّة، إذ لا ينبغي لابن بغيّ لا تعرف العفاف أن يجري على لسانه أسماء النساء الزواكي الطواهر العفيفات المخدّرات..
كلمات نابية، لا تليق إلّا بابن زياد وأمثاله ممّن عجمتهم القرود الأمويةوهضمتهم مع الخمرة ثمّ قائتهم، فسحّوا على المجتمع قطعاً كبيرة تزكم الأُنوفَ روائحُهم، وتكتسح المجتمعات جرائمهم..
ولو بحث التاريخ عن نماذج مجسّدة للفسق والشقاق والكفر والنفاق، وكلّ الرذائل والذميم من الأخلاق، لما وجد مثالاً أفضل من ابن زياد وأسياده..
هذه سيرة آل أبي طالب (علیهم السلام) بشهادة التاريخ، وسيرة آل زياد، لكنّها أساليب السقيفة المعروفة في قلب الموازين وتحطيم المقدّسات..
فمنذ اليوم الأوّل الّذي تنمّرت فيه جرذان السقيفة، وتمرّدت على الله، وهجمت متوحّشةً على بيت الوحي، وهتكت حرمات الله على رؤوس الأشهاد، واعتدت على بيت النبي (صلی الله علیه و آله) وبنته وبضعته وروحه الّتي بين جنبيه، وقتلت ابن النبي (المحسن) الشهيد، وطغت وبغت على الوليّ الوصيّ الناصح (علیه السلام) أمام أعين الناس، ولقّنت الناس أخطر الدروس،
ص: 260
وأفهمتهم أنّ أعظم الحرمات وأقدس المقدّسات منتهكة مسحوقة في شرع هؤلاء، فما بالك بغيرهم! هكذا هم مع أهل بيت الوحي ومختلف الملائكة ومعدن العلم والحلم والكرم، فليحذر الآخرون..
تهديم أُسس الدين، وتحطيم مقدّساته، وتشويه صور المتّقين، وإطفاء نور الله، وإخماد جذوة أولياءه.. سلوكٌ أُمويّ متواصل عبر التاريخ، ولذلك من الشواهد والدلائل ما يملأ أسفاراً .. وهذه الافتراءات الفجّة علىمسلم ابن عقيل (علیه السلام) مفردة من تلك المفردات، ومشهد من تلك المشاهد.. غير أنّ الله يأبى إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون والكافرون..
وقد سمعنا مولانا المعظّم وسيّدنا المكرّم وبطلنا المنزّه عن الدنيّة يردّ على ابن زياد، فلا نطيل في هذا المقام، وما عسانا نقول ردّاً على ساقطٍ متجاهر بارتكاب المحرّمات والمآثم حتّى لم يدع لله حرمةً إلّا اقتحمها؟!!
ولكن نقف وقفةً سريعةً عند ما وقف عليه نفس المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، لنسمع جوابه بكلّ فخرٍ واعتزاز:
قال الطبري: قال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلت بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.
ابن أعثم: فقال مسلم بن عقيل: أحقّ واللهِ بشرب الخمر منّي مَن
ص: 261
يقتل النفس الحرام، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنّه لم يسمع شيئاً.
المفيد والفتال: قال: أنا أشرب الخمر؟! أما والله إنّ الله يعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلتَ بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها، ويسفك الدم الحرام على الغضب والعداوة وسوء الظنّ،وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.
الخوارزمي: فقال مسلم: الله يعلم أنّي ما شربتها قطّ، وأحقّ منّي بشرب الخمر مَن يقتل النفس الحرام ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ، وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
ابن الأثير: قال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله يعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّ أحقّ الناس بشرب الخمر منّي مَن يلغ في دماء المسلمين، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها على الغضب والعداوة، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
ابن كثير: فقال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلتَ بغير علم، وأنت أحقّ بذلك منّي، فإنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أولى بها منّي مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، ويقتل النفس الّتي حرّم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظنّ، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً.
* * * * *
ص: 262
النصوص الحاكية لردّ المولى (علیه السلام) في المتون التاريخيّة متقاربة، وتكاد تروي نفس المعنى سوى بعض الاختلافات في وسائل التعبير والتأكيد المستخدمة في النصّ، وقد تركّز جواب المولى الغريب (علیه السلام) في عدّة نقاط:
مفاجأة مروّعة أن يُتَّهم الإنسان بما ليس فيه، ولا يمكن أن يكون فيه أو يدانيه.. فمن المفارقات الّتي لا تستوعَب: أن يُرمى الأسد بالجبن، أو الثعلب بالنسك.. فكيف يتنسّك الثعلب الشرّير، ويرمى الطهر الطاهر بما ليس فيه؟!!
غير أنّ الخبيث أراد أن يعرض صورةً للمولى الطاهر تثير المتابع، حيث وصفه بالميوعة ومعاقرة الخمرة -- والعياذ بالله --، والخمّار لا يؤتمَن ولا يرعوي ولا يعرف الغيرة.. وهي صفة ابن زياد وربّه يزيد وآبائهم!
وقد أبدى المولى الغريب (علیه السلام) استغراباً واستنكاراً شديداً لهذه الفرية، لأنّها لا يمكن أن تشتمله ولا تنسجم مع ساحته المقدّسة، فنفى ذلك بصيغة السؤال الاستنكاري العنيف: «أنا أشرب الخمر؟!!»، ثم أكّد ذلك النفي والاستنكار بالقسم: «والله»، وشدّد التأكيد بجعل الله شهيداً على كذب الطاغية المبتذل: «إنّ الله يعلم أنّك غير صادق».
ثم إنّه قال ذلك بغير علم، والقسم لا زال ساري المفعول..
ثمّ نفى مرّةً أُخرى وقال: «أنّي لستُ كما ذكرت»..
ص: 263
يستشعر القارئ أنّ مسلماً (علیه السلام) استنكف من هذه الفرية، فقد رماه الخبيث بكثيرٍ من الخِلال الّتي لا تجوز في مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، بيد أنّها من الممكن أن تصدر من مثل هذا الوحش المتطفّل على الصورة البشريّة، غير أنّ هذه الفرية فيها ممّا يدنّس ساحة قدسه، ولو كانت بمستوى الفريةوالكذب، ومسلم (علیه السلام) يأباها ولا يحبّ أن تقاربه ولو كذباً، فأذياله أطهر من أن يتعمّد رجسٌ نجس من الدنوّ منها، والخمرة مبغوضة لآل أبي طالب (علیهم السلام) يوم كانت محبوبة عند العرب، وقد اجتنبها عمّه جعفر -- بشهادة رسول الله (صلی الله علیه و آله) -- ولم يشربها حتّى في الجاهليّة، كما هو شأن بقيّة أعمامه وآبائه وأجداده، فهي غريبة عنهم ألبتّة..
مقزّزٌ ومقرفٌ جدّاً أن يُرمى الطاهر بمثل هذه الفرية، وهي مؤلمة وموجعة رغم أنّها كذب جزماً.. ولم نشاهد مسلماً (علیه السلام) طيلة هذه المصاولة الكلاميّة غضباً متظلّماً مؤكّداً في الردّ مثلما شاهدناه في هذا المقطع!
بعد أنّ نزّه المولى الغريب (علیه السلام) ساحته من هذه الفرية الباردة السخيفة التافهة الّتي لا يقبلها مَن له أدنى معرفة بمسلم بن عقيل وآل أبي طالب (علیهم السلام) ، كرّ على الجرو المتغطرس، فرغم أنفَه ومرّغه بالوحل، وأشعره بحقارته ووضاعته وحجمه المنكمش المتضائل وزهوه المتبدّد، وسحقه كفقعةٍ وطِأت بقرقر..
ص: 264
بدأ البطل الهاشميّ (علیه السلام) هجومه بأدبه الرفيع وألفاظه الجزلة وأدلّته الرصينة المتينة القويّة، وعباراته المتماسكة المتقنة المعبّرة عن القلب الواثق بالله والإيمان الراسخ والمعرفة العميقة..
وقد أجابه في ردَّين:
«أنّك أحقّ بشرب الخمر منّي».. أيتّهمه ابن زياد، اللّقيط ابن اللقيط، الّذي انتشله أبو سفيان من مطامر النفايات وحمله من مزابل البغايا؟! وقد أشرنا قبل قليلٍ إلى أنّ ابن زياد نشأ وترعرع في مجالس اللّهو وخيام البغي وحانات الخمر.. وقد صرّح يزيد في أبياته الّتي سمعتَها قبل قليلٍ أنّه وابن زياد عاقرا الخمرة ابتهاجاً بقتل سيّد الشهداء (علیه السلام) !
وتاريخ ابن زياد ومنبته وأصله وحياته وسلوكيّاته وأخلاقه والجوّ الّذي عايشه ومرتعه الّذي نشأ فيه، كلّها مؤيّدات وشواهد أنّه ممّن يعشق الخمرة ويعبّها في الدنان، فلا يحتاج أن يذكر ذلك أحدٌ أو يستدلّ عليه، ومثل هذه الظروف لا تولّد إلّا سكّيراً ثملاً مترنّحاً لا يصحو إلّا إذا اطمأنّ للكأس بين راحتيه يكرع فيه كالبهيمة.
إنّ المؤمن المتّقي الّذي يخاف الله ويطيعه في كلّ شيء، وتعلوه أنوار العترة النبويّة، ويُعرَف بالصلاح، ويشرب من رحيق الوحي، ويغتذي من
ص: 265
حدائق الجنان، لا يصدَّق فيه هراء أولاد البغايا.
أمّا مَن قضى عمره في انتهاك الحرمات والاجتراء على الله، وقد خمد فيه الخير وانطفأت فيه النخوة، وعاش جرواً سائباً في حدائق القرود الأمويّة، واغتذى بالدم وشرب منه، وهو «يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفسالّتي حرّم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً»..
إنّ من يرتكب هذه -- وهي فعال ابن الأمة الفاجرة الّتي يعلمها هو في نفسه ويشهد عليه التاريخ بها -- أولى بشرب الخمر!
إذا كان لهوه ولعبه في انتهاك هذه الحرمات، والالتذاذ بعذاب الآخرين، والطرب على آهات الثكالى وأنين المظلومين وحشرجات المذبوحين.. فما يعني له حرمة شرب الخمر؟ وهل يفعل كلّ تلك الأفاعيل إلّا من يعاقر الخمر فينتشي بها، ويرتكب الفواحش ويستعذب الآثام؟!
إذا كان ابن زياد الخبيث يشوّه التاريخ ويفتري على مسلم بن عقيل (علیه السلام) بين يديه وأمام عينيه، ويقول له: أنّك كنت في المدينة كذا وكذا، فماذا سيفعل بعد شهادته، وكيف سيفتري عليه؟ وماذا سيقول عن نفسه وعن عدوّه ابن عقيل (علیه السلام) الّذي أذاق الطاغية الذلّ والهوان،
ص: 266
وأهلكه وهو في عرش السلطان؟
ولا ننسى أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد قُتل في الكوفة وليس معه من أهل بيته وأنصاره المخلصين أحد.. قُتل غريباً، وحيداً، فريداً.. وقد بقي الراوية لما جرى عليه من الأعداء والمتزلّفين المتكاثرين تحت مقعد ابن الأمة الفاجرة، فكتبوا كما يحلو له وأطاعوا ما أمرهم فيه!
يلاحَظ ردود المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیه السلام) في دقّتها، وانطلاقها من المباني الشرعيّة الكاشفة عن عمق معرفته وسعة علومه وقوّة تشخيصه وإحاطته بقيام إمامه سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقد ركّز أكثر من مرّة خلال كلامه أنّه إنّما جاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة المستنجدين بالإمام الحسين (علیه السلام) ، ولم يتعرّض بأيّ إشارةٍ من قريب ولا من بعيد إلى السلطة والحكم وإسقاط النظام.
ويلاحَظ في تعبيره من الدقّة المذهلة الّتي تدعو القارئ إلى التأمّل العميق، وتجعله يكبر غاية الإكبار والإجلال هذا العالم الطالبيّ الفذّ، حينما يقول في أكثر من موضع -- كما في (الطبري) و(الفتوح) وغيرهما -- : «فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة»، فقد دعا القوم وأتاهم، وليس ابن زياد ولا القرد الأموي المجدور السائب في قصور الشام، ولا السلطان والحكم، ولا غير ذلك من الأغراض
ص: 267
الإداريّة والمناصب الدنيويّة محطّ نظر، ولا موضع لحظ عند مسلم (علیه السلام) وعند مولاه ومولى الثقلين الإمام الحسين (علیه السلام) !
فهو قد جاء للناس.. أتيناهم.. ننهاهم.. ندعوهم.. وقد وجّه الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) كتابه مع مسلم (علیه السلام) إلى الناس وإلى مَن كاتبه، كما وجّه نفسالمولى (علیه السلام) سفيره الثقة الأمين إليهم، ولم يوجّهه إلى الوالي، ولا إلى أيّ جهةٍ أخرى تمثّل السلطة يومئذٍ.. وقد أكّد الإمام الحسين (علیه السلام) أنّه قد خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة الناس إلى سيرة أبيه وجدّه، فمن قبله بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن لم يقبله فيصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين، كما ورد في وصيّته (علیه السلام) ((1)).
ص: 268
ولا يفوت الملاحظ أنّ هذا النصّ ورد في وصيّة، والوصيّة إنّما تُفتَح ويُنظَر فيها بعد الموت، فهي ليست مشروع عمل، وإنّما هي بلاغٌ عن نوع القيام، وهي ردٌّ على مَن سيزعم أنّ قيامه إنّما كان أشراً وبطراً أو فساداً، لأنّ جميع ظروفه وشروطه الخارجيّة دالّة بوضوح على نتيجته وما سيؤول إليه الأمر من القتل الذريع والاستئصال، وقد أدرك هذا المعنى القاصي والداني والشريف والدني، وصرّح به المعترضون على قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) من قبيل ابن عبّاس وابن عمر وابن مطيع وأضرابهم..
ولا يفوت أيضاً أنّ هذا نصّ تاريخيّ واحد نقله ابن أعثم في (الفتوح)، وربّما أخذ عنه مَن جاء بعده، ويقابله كمٌّ هائلٌ من النصوص الشرعيّة المقدّسة الصريحة الواضحة من النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله) وأوصيائه الأولياء (علیهم السلام) سادات أهل العالم، المؤكِّدة على الجانب الغيبيّ في قيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنّ له يوماً مشهوداً، وقتلاً معهوداً بتفاصيله، وأرضاً
ص: 269
تنتظره، ومصرعاً محدوداً، وحفرةً معدَّة له، وهو قتيل العَبرة، وثار الله ووتره الموتور.. وكلّ ما يجري من ظروفٍ خارجيّة إنّما هي مقدّمات لوقوع المصيبة العظمى، وتحقيق الإرادة الإلهيّة والغاية القصوى، وجميع ما ترتّب على تلك الشهادة من آثار من إحياء الدين وإبقاء شريعة سيّد المرسلين (صلی الله علیه و آله) وحفظ الملّة وترسيخ الإمامة، وغيرها من الآثار والفوائدالدنيويّة والأُخرويّة الّتي لا تُعدّ ولا تحصى، إنّما هي نتاج تلك الطاعة، وثمارٌ لبذل الدم الزاكي، وتعرّض حرم الله وحرم رسوله إلى ما تعرّضت إليه من السبي والتعذيب والاضطهاد والسلب والنهب والإحراق والعرض في المجالس والأسواق.
فالهدف الأوّل والأخير والغَرَض الأوحد إنّما هو طاعة الله حينما شاء أن يراه قتيلاً وشاء أن يراهن سبايا.. وقد بذل سيّد الشهداء (علیه السلام) مهجته الزاكية المقدّسة في الله فقط؛ «بذل مهجته فيك»! فكانت النتيجة استنقاذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة وغيرها من الآثار.. فالحسين (علیه السلام) -- وهو حبيب الله ومحبّه -- بذل مهجته في الله فقط، ولا يمكن أن يكون دم الحسين (علیه السلام) ثمناً لشيءٍ آخر، كما لا يمكن أن يكون لدمه ثمناً سوى الله، فكان ثار الله ووتر الله!
والبحث في هذا الأمر الخطير الدقيق ذي الأبعاد المترامية والنتائج الخطيرة المؤثّرة ليس هذا موضعه ((1))، وإنّما ذكرناه هنا باقتضاب، نحسب
ص: 270
أنّه مخلّ، غير إنّه يشير ولو إشارةً ضعيفة تفيد في فهم موقف المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وعظمته وأبعاد معرفته الّتي لا تدرك أغوارها لقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) .
وقد أكّد العالم الطالبي (علیه السلام) أنّه إنّما جاء للقوم لا للسلطان، بناءاً علىدعوة الناس مستجيباً لاستغاثتهم واستنجادهم، وقد توجّه نحوهم وهم قصده، وليس ابن زياد ملحوظاً كهدفٍ مقصودٍ لوحده، وإنّما هو فعل ما فعل متابعاً لجرائم أسياده وأسلافه، فضاق الناس ذرعاً ودعوا سيّد الشهداء (علیه السلام) وشكوا له ما هم فيه، فأرسل لهم مسلماً (علیه السلام) سفيره في مهمّةٍ خاصّة أتينا على ذكرها مفصّلاً بأبعادها وتفاصيلها في بحثٍ مستقل، والغرض من مجيء الإمام سيّد الشهداء (علیه السلام) إنّما هو ليأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويدعوهم إلى حكم الكتاب وسيرة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وسيّد الأوصياء (علیه السلام) ، لتكون هذه الدعوة التامّة مناراً يتبعه التائهون، ومحجّةً واضحةً يسلكها المتلكّؤون، وطريقاً ومنهاجاً يسير عليه الضائعون المضلَّلون، فقد هجروا القرآن وضيّعوا السنن، وضلّلوا الناس منذ يوم السقيفة، بل حاولوا محاولات حثيثة في إطفاء نور الله قبل ذلك اليوم أيضاً، ولا يخفى ذلك على القارئ للتاريخ والمتابع للنصوص النبويّة والمعصوميّة.
وقد جهد الأُمويّون ومن مكّنهم من الرقاب أن يصوّروا الحرب بينهم وبين الأئمّة الأوصياء (علیهم السلام) بكلّ صورة، ويظهرونها بكلّ مظهر من الحرب
ص: 271
على السلطان، والتنافس في فضول الحطام، والتنازع على القدرة والحكم، والصراع العائلي والتنافس القبلي، وما شاكل.. لئلّا يكون الأمر كما هو في الحقيقة صراعاً بين الحقّ والباطل، ونزاعاً على تحكيم إرادة الله أو تحقيق أماني الشيطان، والفرق بين الدعوتين المسارعة في رضا الله أوالتثاقل في مغريات الشهوات ونزوات الشيطان.
وليس الحكم والسلطان عند المعصوم إلّا جزء ضئيل من مهامّه الإلهية، يقيم به الحقّ ويدحض به الباطل من موقع معيّن بذاته، فإن كان فسيتّخذه أداة، وإلّا فهو القائم لله بالحجّة البالغة، والداعي إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمقيم للحقّ والداحض للباطل، والوصيّ المعيَّن من الله، لا يعزله أحد، ولا ينال رتبته مخلوقٌ أيّاً كان، وكلّ الأئمة (علیهم السلام) هداةٌ مهديّون قائمون لله، بهم يقوم الدين، وبهم تثبت الشريعة، وبوجودهم يتحقّق العابد الحقّ المتمحّض لله بالعبوديّة، فيتحقّق الغرض من الوجود، فيبقى الكون لبقاء الهدف والغاية منه؛ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُون﴾، وهو جارٍ سارٍ فيهم جميعاً، مَن قام منهم ومن قعد، ومن صالح ومن قاتل، ومن قُتل بالسمّ غيلةً ومن ضُرب بالسيف ضربةً ومن قطّعوه إرباً إرباً..
ولذا حاول القرود وأذنابهم وجراؤهم أن يرموا سيّد الشهداء (علیه السلام) ، الّذي أعلن منذ اللّحظة الأُولى أنّه يمشي مسرعاً إلى الموت العزيز الّذي
ص: 272
اختاره الله له، وأنّ من يلتحق به سيبلغ الفتح بالشهادة، وقد أُزعج وأُخرج من بلد جدّه ومسقط رأسه المدينة المنورة، ولوحق في مكّة، فكان لابدّ أن يُقتَل فيها إن لم يخرج، فخرج لئلّا يهتكوا بقتله الحرمات، متوجّهاً إلى أرض المصرع الموعود..
والأمويّون كانوا ولا زالوا يرمون القيام الحسيني المقدّس بهذه الفريةالمقذعة، ويتّهمونه بطلب ما لم يطلبه، ليأكّدوا أنّهم كانوا في السلطة وخرج عليهم خارجي، فاستبحاحوا حماه، واستأصلوا شأفته، وسبوا عياله، ليكون عِبرةً لمن اعتبر!!! وهذه عاقبة التنازع على السلطان حينما يكون السلطان أقوى من المنازعين له..
وقد قال أبوه أمير المؤمنين (علیه السلام) : «اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شي ءٍ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك» ((1)).
والأمويّون أيضاً جهدوا أن يظهروا بمظهر السلطان المختار من الله، وأنّ سلطانهم يمثّل الإرادة الربانية، ومَن نازعهم إنّما نازع سلطان الله، ومَن خالفهم وعارضهم إنّما عارض إرادة الله وسخط عليها! فانطلق الجرو الأموي الأجرب من نفس منطلقات أسياده، فجعل يرمي ساحة المولى الغريب (علیه السلام) ويقصد من ورائه الطعن بقيام سيّد الشهداء (علیه السلام) ، فقال له ابن زياد: إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه، ولم يَرك أهله.
ص: 273
قال: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد!!!
فقال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً؟
قال: والله ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين ((1)).وفي نصّ ابن أعثم: فقال له ابن زياد: منّتك نفسك أمراً، أحالك الله دونه وجعله لأهله.
فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة؟
فقال: أهله يزيد ومعاوية!!
فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله، كفى بالله حكماً بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد (لعنه الله): أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً؟
فقال مسلم بن عقيل: لا والله، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين ...
... ولكنّي أُريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتّتَّ أمرهم، وفرّقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض!
فقال مسلم بن عقيل: لستُ لذلك أتيت هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي
ص: 274
طالب، ولا تزال الخلافة لنا، فإنّا قهرنا عليها، لأنّكم أوّل من خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مَثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾.وقد ذكرت مصادرُ أُخرى هذا المقطع من المناظرة والمحاججة بين الأسد الهاشمي (علیه السلام) والجرو الأموي، غير أنّ ألفاظها قريبة قد لا تكون فيها إضافات ملحوظة على ما ذكره الطبري وابن أعثم، فاكتفينا هنا بهما.
ويمكن أن يفيد النصّ عدّة ردود ردّ بها المولى الطالبي (علیه السلام) :
قد يكون التسديد الإلهيّ حليف العبد، فيأخذ بما أمره الله به، ويقيس الآخرين وفق مقاسات الشريعة الربّانية، ويحكم عليهم مستنداً إلى الأحكام النبويّة ومنهاج الأئمة الطاهرين (علیهم السلام) .. أمّا إذا كان الإنسان مخذولاً، قد اتّخذ إلهه هواه من دون الله، وصار وكراً للشيطان، فإنّه يقيس الناس وفق مقاساته، ويحكم عليهم بناءاً على متبنّياته وقناعته الذاتية.
فظنّ ابن زياد أنّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) قد تمنّى السلطة وراح يحلم بمواقع القدرة، وقد خاب وافترى، فليس من كلامه شيءٌ يصدق على المولى الغريب (علیه السلام) الموعود بالشهادة من خاتم الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء والمظلومين (علیه السلام) ، وقد جاء سفيراً للإمام الحسين (علیه السلام) في
ص: 275
مهمّةٍ خاصّةٍ محدّدة المعالم، وهو يعلم عاقبته في الكوفة تماماً.
ومع ذلك فقد جاراه وسأله بكلّ ثقةٍ وثبات، وقال: ومَن أهلُه يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد ومعاوية!! فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله، كفى بالله حكماً بيننا وبينكم. واللفظ لابن أعثم، وقريبٌ منه لفظ الطبري.ويمكن إجمال ردّ المولى في نقاط:
نقل الطبري خطاب المولى الغريب (علیه السلام) للجرو الأمويّ بلفظ: «ابن زياد»، ونقله ابن أعثم بلفظ: «ابن مرجانة»، وليس كبير فرقٍ بين اللّفظين، وكلاهما تقريعٌ وتحقير ومنقصة في الوغد، فابن زياد المنسوب إلى أبيه المجهول النسب والهويّة اللّقيط اللصيق المعروف بالبطش والدمويّة والجرائم والجنايات الّتي شهد بها التاريخ وشهد بها سيّد الشهداء (علیه السلام) وشهدها أهل الكوفة حتّى ضجّوا منها.. وابن مرجانة البغيّ المعروفة المشهورة.. فهو على كلا التقديرَين نتاج الزنا والنسب المجهول والعقدة الحقيرة الدنيئة الّتي يتقزّز من ذكرها كلّ إنسانٍ لمجرّد كونه بشراً، وفي هذا الخطاب نفسه ردٌّ صاعق مدمّر يحجر على أبناء الزواني أن يتكلّم في السلطان والحكم، لأنّ من شروط الحاكم أن يكون طاهر النسب.
يبدو من سياق الكلام أنّ سؤال مسلم بن عقيل (علیه السلام) كان سؤالاً
ص: 276
استنكاريّاً تقريعيّاً، وهو لا يريد أن يدّعي شيئاً لنفسه، وإنّما يريد أن يطعن في خيار ابن مرجانة ويقول له: فمن تظنّه أنت الدعيّ ابن الدعيّ واللّصيق ابن اللصيق مؤهّلاً لذلك؟ وهو يعلم أنّ ابن مرجانة لا يعدو أنيذكر أصنامه الّتي يعبدها، وهم أنفسهم الّذين شكاهم أهل الكوفة، وضجّوا من تسلّطهم على الرقاب، وهتكهم للحرمات، واستخفافهم بالدماء والأعراض.. فقال ابن مرجانة: أهله يزيد ومعاوية!!
يبدو من خُبث ابن مرجانة أنّه كان يجرّ الكلام ليبدر من المولى الغريب (علیه السلام) أيّ لفظةٍ يمكنه أن يوظّفها أمام الملأ وينسب فيها ما لا ينبغي نسبته إلى مسلم بن عقيل (علیه السلام) من خلال إيكال الأمر إلى الله، فلو بدرت من مسلم (علیه السلام) أيّ بادرةٍ أو لفظةٍ تفيد نفي ذلك، ولو كانت صحيحة -- ولا يصدر من ثقة الحسين مسلم (علیهما السلام) إلّا الصحيح --، بأن يقول له: لا، إنّ الله ما أراد ذلك.. وأخذ يشرح له الاعتقاد الصحيح ومعنى الإرادة الإلهيّة وحرمة نسبة العصيان والطغيان وسفك الدم الحرام والتسلّط بالظلم والجور إلى الله، لأخذها الخبيث وطار بها وشوّهها للناظرين، والأكثريّة يومها كانت من أتباع السقيفة تقتات على إفرازاتها والقيح الراشح منها، ويمكنها أن تستسيغ كلام مثل ابن زياد، ويصعب عليها إدراك الحقّ وكلام رجاله.
وبالتالي، فإنّ قضاء الله وقدره جار في الخلائق، ولو من باب كيف ما
ص: 277
تكونوا يولّ عليكم، ولذا أجابه المولى (علیه السلام) فقال: الحمد لله، كفى بالله حكماً بيننا وبينكم.
وهذا التعبير الرائع عن التسليم لله والحمد والشكر له، وهو الّذي لايُحمَد على مكروهٍ سواه، يتضمّن تكذيباً واضحاً لمزاعم ابن مرجانة، فقد حمد الله (فداه روحي)، وجعله حكماً بينهم، وهو خير الحاكمين، ولا يحكم إلّا بالعدل.
وربما تضمّن أيضاً معنى أنّك ظالم متجبّر وطاغوت متكبّر، تدّعي شيئاً لا تريد أن تقبل غيره، فليحكم الله بيننا.
وعلى كلّ حال، فهو ردٌّ قويّ، لأنّه قد أوكله إلى مَن لا يغلبه غالب ولا يفوته مطلوب.
يمكن استعراض الردّ الثاني في نقطتين:
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) وقف هنا موقفاً يدافع ويكافح فيه الظلمة عن الحقّ المسلوب منذ اليوم الأوّل والخلافة الّتي زُويت عن أهلها ووُضعت في الأراذل والأوباش، حتّى بلغت إلى قاع لا يُحتمل يوم نزى عليها القرد المجدور يزيد الخمور والفواحش والشرور.
وابن الأمة الفاجرة حينما يتكلّم مع المولى الغريب (علیه السلام) ، يعلم أنّه سفير
ص: 278
للإمام (علیه السلام) ، فهو يكلّمه كسفير، ويقصد أن يناقش في أصل القيام وحركة سيّد الشهداء (علیه السلام) ، ولو كلّمه بشكل شخصي ليفتري عليه ما ليس فيه، بغية إعداد المسوّغات للقتل وإعلان الذرائع أمام الملأ، ويشهد لذلكقوله: «كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً»، فهو يخاطب مسلماً (علیه السلام) «كأنّك تظنّ» بضمير الخطاب المفرد، ثم يعدل عنه إلى ضمير الجمع: «أنّ لكم».
وكذلك كان المولى الغريب (علیه السلام) يتكّلم مدافعاً عن حقّ الله المضيّع بين العباد، والسعادة المهدورة بترك اتّباع الإمام المفروض الطاعة، وهو لا يدّعي شيئاً من ذلك لنفسه، وحاشاه، وهو أعلى وأجلّ وأكبر من أن يدّعي ما لم يجعله الله له، نستغفر الله ونتوب إليه.
فحينما يقول له ابن زياد (لعنه الله): أتظنّ أن لكم (لك) من الأمر شيئاً. يردّ عليه مسلم بن عقيل: لا والله، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.. جزماً هو لا يقصد أنّ له شخصيّاً من الأمر شيء إلّا بمقدار ما يدافع به المؤمن عن الأمر الإلهي، ويكافح من أجل فرض المنصوب يوم الغدير بأمر ربّ العالمين والنبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) .
وبهذا يتّضح أنّه كان يطالب بحقٍّ ثابتٍ منذ اليوم الأوّل وقد سُلب من أصحابه، وليس يطالب بسلطةٍ ضيقةٍ محدودة اجتمعت بعض خيوطها بيد ابن الأمة الفاجرة.
ص: 279
صعد أوّل القوم فقال أنّ له شيطاناً يعتريه ((1))، وتمنّى شطيره أن يكونبعرة ((2))، وكبت بثالثهم بطنته، إذ كان نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه ((3))، وكان كلٌّ منهم شاكّاً في نفسه لا يعلم عاقبة أمره، فلمّا ارتقى أمير المؤمنين (علیه السلام) مراقي المنبر أعلنها إعلان الواثق بربّه، فقال: «أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يقولها غيري إلّا كذّاب مفتر»، وهو مليك مفاتيح الجنّة وقسيم النار، لأنّه وصيّ النبيّ المختار (صلی الله علیه و آله) بأمر القويّ المتين الجبّار..
والمؤمن لا يشكّ ولا يعتريه الريب فيما أمر به الله وأعلنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، فكيف إذا كان المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) ربيب أمير المؤمنين وأخو الحسين (علیهما السلام) .
أراد الخبيث الرجس أن يجعلها بمستوى الظنّ والخيال والتوهّم والتمنّي والتطلّع والأحلام، تماماً كما هو شأن عبيد الدنيا وأبناء الشهوات واللذات، فردّ عليه الليث الطالبي (علیه السلام) بالحقّ الإلهي وبثقة العارف بالله وثبات الموالي لأولياء الله..
ما أروعه من جوابٍ ينمّ عن عظمة ولاء مسلم (علیه السلام) ورسوخ إيمانه ويقينه بربّه وتسليمه لنبيّه وإخباته لإمامه.. قالها بقوّة مسلم بن
ص: 280
عقيل (علیه السلام) : لا والله، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.
لقد نفى الظنّ مرّتين؛ مرّةً حينما قال: «لا»، فنفى الظنّ الّذي زعمه ابن مرجانة، ثمّ عاد فنفاه مؤكّداً بالقسم، فقال: «ما هو الظنّ»..حشّد جملةً من المؤكِّدات في النفي والإثبات، فنفى بلا، ثم أكّد بالقسم بالذات الإلهيّة المقدّسة بلفظ الجلالة وواو القسم، ثمّ نفى الظنّ مصرِّحاً به، ثم استثنى ب- «لكن»، ثم أكّد بالتصريح باليقين، وقد اختار لفظ «اليقين»، وربّما لا تجد كلمةً أُخرى تعبّر عن المدى الّذي تعبّر عنه كلمة اليقين، لا العلم، ولا القطع، ولا الجزم، ولا غيرها من المفردات.. «لكنّه اليقين»!
ومن ذا يشكّ من المؤمنين أنّ الأمر للأئمة الطاهرين (علیه السلام) ، لكن أن يبلغ (اليقين)، ويبلغ يقيناً كيقين مسلم بن عقيل (علیه السلام) ! فهذا ما لا يكون إلّا لمسلم (علیه السلام) ولأمثاله ممّن أعطاهم الله ذلك اليقين!
رغم ردود المولى الغريب (علیه السلام) المفحِمة وأجوبته القويّة، لم يرعوي الوغد الوضيع ابن زياد، وبقي يستمرّ كالمقامر يطمع باستعادة الضائع بالقمار كلّما خسر يقامر من جديد، وظنّ الأحمق أنّه يستطيع -- ولو في جولةٍ -- أن يكسب الموقف أمام ابن عقيل وسليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، فكأنّه أراد أن يعيد ما يخاله كرّةً على البطل الهاشميّ (علیه السلام) ، فقال -- كما في رواية ابن أعثم والخوارزمي -- :
... ولكنّي أُريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيتَ إلى هذا البلد؟
ص: 281
شتّتَّ أمرهم، وفرّقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض!فقال مسلم بن عقيل: لستُ لذلك أتيتُ هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، ولا تزال الخلافة لنا، فإنّا قهرنا عليها، لأنّكم أوّل مَن خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾.
قد تناولنا أكثر فقرات هذا الردّ القاصم لظهر الجرو الوضيع خلال العناوين السابقة، وإنّما أفردنا بعضها هنا للتأكيد على عقيدةٍ غاية في الأهمية تميّز بين الحقّ والباطل ذكرها مسلم بن عقيل (علیهما السلام) :
كرّر ابن الأمة الفاجرة أكثر من مرّة ألفاظ نابية تليق به، تؤدّي بالمجموع إلى دفع مسلم بن عقيل والإمام الحسين (علیهما السلام) عن مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كتاب الله وسنّة النبيّ (صلی الله علیه و آله) والعترة الطاهرة (علیهم السلام) ، وملوّحاً إلى قيامه وأصنامه بذلك، ورمى المولى مسلم بن
ص: 282
عقيل (علیه السلام) بأقذع التهم وافترى عليه أقبح الافتراءات، فأجابه مسلم (علیه السلام) قائلاً: «فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك».
أجل! هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كتاب الله والسنّة، وابن زياد وأمثاله هم المنكر والفساد والضلال والإضلال والفتنة وقرونها وشياطينها، ومَن أولى بعترة النبيّ (صلی الله علیه و آله) وأولياء الله (علیهم السلام) من الأمر بالمعروف؟ وقد فعلوه! والنهي عن المنكر؟ وقد انتهوا عنه! والدعوة إلى كتاب الله النازل في بيوتهم، وهم المخاطَبون به والعاملون به والتالون له حقّ تلاوته..
«كنّا»: تأكيدٌ وتحقيقٌ وإخبار عن أمرٍ واقع، كان ولا زال قائماً.. هم كانوا ولا زالوا أهل ذلك.
يؤكّد المولى الفقيه العالم (علیه السلام) أنّ كلامه كلّه إنّما هو دفاعٌ عن حريم الإمام والإمامة، ولم يدّعِ هو لنفسه شيئاً، يقول: «ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، ولا تزال الخلافة لنا، فإنّا قهرنا عليها، لأنّكم أوّل من خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾».
ص: 283
ورغم أنّ المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) لم يبادر إلى هذا الموضوع، وإنّما أقحمه الخبيث فيه إقحاماً، وهذا شأنه في محاولة تهييج الرأي العام المضلَّل من خلال استدراج الخصم للتعرّض لمقدّسات الجمهور وآلهتهم، كما فعل مع ابن عفيف وغيره وسأله: ما تقول في عثمان؟ وقد التفت ابن عفيف إلى الغرض من السؤال فقال له: ما أنتم وعثمان؟ سلني عنك وعن أبيك! ((1)).
ولذا نجد المولى الغريب (علیه السلام) يتجنّب التعرّض إلى ذكر السقيفة وإفرازاتها، ويكتفي بذكر الأمويّين وغلبتهم على الحكم بعد أمير المؤمنين (علیه السلام) : «ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولا تزال الخلافة لنا..»، فجعل حدّ المطالبة منذ أن قتل أمير المؤمنين (علیه السلام) وما بعده، وهي الفترة الّتي نزى فيها قردة بني أُميّة على الحكم، بيد أنّ المتابع المسدّد يعلم من مجريات الأحداث أنّ الذي ركع لتنزو من خلال ظهره القرود هو مَن أسّس أساس الظلم والجور، وفتح شهيّة القرود للطمع، وأسال لعابها المخمور على منابر المسلمين.
ثمّ أكّد أنّها أُخذَت منهم غصباً، وقُهِروا عليها قهراً، وأنّ الخارجيّ هو مَن تمرّد على سلطان الله وخالف شريعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، واعترض وغالب إمام الحقّ على الحقّ الّذي منحه الله، وغصبه منه ونحّاه عن الموقع الّذي وضعه فيه ربّ الكبرياء والسلطان والجبروت والعظمة.
فهذا هو من يشقّ العصا ويخرج على إمام الهدى، وينازع أهله بالظلم
ص: 284
والعدوان والحيلة والغدر والطغيان، وسيكون له القويّ الجبّار بالمرصاد، وسيعلم غبّ عمله وعاقبة أمره يوم يخسر المبطلون، ويعلم الّذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون، تماماً كما قال مولانا مسلم بن عقيل (علیه السلام) : «فإنّا قهرنا عليها، لأنّكم أوّل مَن خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصبا، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾».
وفي قوله: «لا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون﴾»، تهديدٌ مرعب، وتخويفٌ مهول، وتوعّد مروّع، فعمّا قليل سيعرف الظالمون عاقبة أمرهم وسوء منقلبهم، إن كان في الدنيا على يد المختار الثقفي، أو يوم يقوم المنتقِم الأعظم صاحب الأمر والزمان وليّ الدماء الزكية (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، أو يوم يقوم الناس لربّ العالمين!
إتّفقت نصوص المتون التاريخيّة في هذه الفقرة على مضمونٍ واحد، يحكي تهديد ابن الأمة الفاجرة بقتل المولى الغريب (علیه السلام) والليث المكبَّل، فهو يؤكّد أنّه سيقتل مسلماً (علیه السلام) من خلال الدعاء على نفسه أن يقتله الله إن لم يفعل.ثمّ جعل يهدّد بنوع القتلة.. قتلة لم يقتل بها أحدٌ في الإسلام، قتلة شرّ
ص: 285
قتلة، قتلة يتحدّث بها الناس.. لو كان التهديد لغير البطل الهاشميّ (علیه السلام) القادم ليُقتَل في محبّة الحسين (علیه السلام) لكان تهديداً مروّعاً؛ فإنّ القتل الّذي حصل في تاريخ الإسلام إلى يوم الناس ذاك فيه صور مهولة، واليوم يزبد الخبيث ويرعد بقتلةٍ لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس، ويصفها أنّها شرّ قتلة..
وفات الرعديد الجبان أنّه يقف بين يدَي بطل هزبر عبّاس، طُبع على شيم الشجرة المباركة، ونشأ في بيوتٍ أذن الله أن ترفع، وهو سفيرٌ لسيّد الشهداء (علیه السلام) ، ومن بيتٍ عرّقت فيه الشجاعة، وهم لا يقاس بهم أحد، وليسوا كباقي الناس، فالكلّ يهرب من الموت في الغالب، إلّا هؤلاء الأفذاذ الأطياب، فإنّهم يركضون وراء الموت فيقبضون عليه قبضاً، ويمسكونه بقبضاتهم مسكاً..
فلا يكون تهديد الحقراء مخيفاً أو مؤثّراً في الصناديد العظماء يوماً، فكيف بالموعود بالشهادة مسلم بن عقيل (علیه السلام) ؟! فقد كرّ بصولةٍ حيدريّة، وتشامخ على التهديد بروح حسينية، وردّ على الجرو المتضائل، وهشّم أنف الوغد المتهاوي السافل، فتتابعت دفعات الشجاعة تتدفّق من بين تلك الشفتين الجريحتين، فاكتسحت الوجود النحس لابن مرجانة، وانطلق لسانه -- الّذي صار كشقّة المبرد من شدّة العطش والجراحات -- سيفاً بتّاراًمصقولاً، فأوجز في الردّ، ولكنّه أخرس الجرو ودمّره تدميراً، واجتاح كبرياءه، فلم يُبقِ له ولم يذر، وقد رماه بكلماتٍ صائبة متماسكة رصينة، تعبّر عن
ص: 286
رزانته وسكينته وثباته ومعرفته الدقيقة بعدوّه.
قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة، لا أحد من الناس أحقّ بها منك.. وخبث السيرة.. ولؤم الفعلة لأحدٍ غيرك أولى منك.. وخبث السيرة المكتسبة عن كتّابكم وجهالكم..
هذا هو مجموع ردّ المولى الغريب (علیه السلام) على تهديد ابن الأمة الفاجرة، بعد حذف الكلمات المكرّرة من المصادر.
فهو أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه.. وقد خاطبه البطل الطالبيّ (علیه السلام) بضمير المفرد المخاطب؛ زيادةً في الازدراء والتحقير..
وأكّد له أنّه لا يدع سوء القتلة.. فهذه أخلاقه وشيمه وثمار نطفته..
ولا يدع قبح المثلة، وكيف يدعها وهو الكلب السائب في دور أبناء هند آكلة الأكباد، والمرتضع من صديد طبائعها الوحشيّة؟ ومن هنا نعرف سبب تأكيد المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) على استيهاب الجثّة من هذا الخبيث والوحش الكاسر..
وخبث السريرة.. وهذا هو شأن أولاد البغايا والذوات القذرة ومنابتالسوء..
ولؤم الغلبة.. وهو شأن الجبناء والنكرات والحقراء والأنذال، ربائب الغدر والخيانة والصَغار.. ولَشدّ ما يجرح الغيور، ويؤذي الشهم، ويحزّ في قلب الشجاع، ويثير الشجون، ويعتلج في القلب الألم، وتلهبه المشاعر،
ص: 287
وتستجيشه الصورة، حينما يرى أسداً غضنفراً جريحاً، تتوثّب الفتوّة على قسمات وجهه، وتتفجّر الشجاعة من أعضائه، وتشعّ الأنوار من محيّاه، مكبّلاً تنظر إليه الثعالب والفئران بعيون شامتة.. ما أعظم ثباتك يا ابن عقيل وسليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) !
وهذه الرذائل الّتي اكتنفت وجود الدعيّ ابن الدعي؛ «لا أحد من الناس أحقّ بها منك»، لتوافر كلّ أسباب السقوط في هذا الكائن اللزج الفجّ الوقح المتهاوي في مستنقع الرذيلة، والغائص في أعماق قاع الخطيئة والجريمة.. ويشهد لذلك: «خبث السيرة..»، فهو لا يدع لؤم الفعلة لأحدٍ غيره أولى منه، وهو أولى من أيّ أحد؛ لأنّ «خبث السيرة المكتسبة عن كتابهم وجهالهم».. كما في نصّ ابن كثير.
كلّ هذه الصفات الّتي نعت بها مسلمُ بن عقيل (علیه السلام) ابنَ زيادٍ هي واقعٌ يعيشه الدعي، ويعرفها من نفسه، ولا يستطيع نكرانها ولا التنصّل منها، ومسلم (علیه السلام) هو ابن عقيل العارف بالناس وأيّامهم ووقائعهم وأخلاقياتهم وشيمهم، وذلك غير معرفته الشخصيّة بعدوّه، وعلمه بأنّ هذا الوحشالمسعور سيُقدِم على ارتكاب أعظم جريمة في تاريخ البشرية؛ قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وأنصاره، وسبي حرم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) ..
بعد أن وبّخ المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) ابنَ زياد وقرّعه، ووضعه في موقعه وحدّ له حدّه، وهجم عليه هجومه الصاعق السريع، وزلزل موقفه،
ص: 288
وأخذ بكظمه وجعله يشرق بريقه، رغم عدم تصريح التاريخ بذاك، بيد أنّ كلمات ابن عقيل (علیه السلام) كانت أمضى من سنانٍ يغرز مع كلّ كلمةٍ في جميع كيان الدعيّ المتداعي، بعد أن كشف حقيقته، وأعلن على رؤوس الأشهاد واقعه وما يمكن أن يطفح به وجوده من إفرازاتٍ تتولّد عن تلك السيرة الّتي تزكم الأنوف.. قال حسب نصّ ابن أعثم:
«واللهِ لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربةٍ من ماء، لَطال عليك أن تراني في هذا القصر ...».
ويبدو -- كما يظهر للمتابع -- أنّ الخوارزمي يعتمد في الغالب على نصّ ابن أعثم، وقد نقل عنه هنا هذه العبارة أيضاً..
وبعد غضّ النظر عن تفرّد ابن أعثم، فإنّ في كلام مسلم (علیه السلام) هذا تهديدٌ واضح وقوي لابن زياد، كما إنّه يكشف عن مدى غربته ووحدته، وتأثير العطش عليه ونشوب نيران الظمأ في جوفه وتفتّت كبده واحتراق أحشائه (فداه روحي)، حتّى إنّه يقتصر على (شربةٍ من ماء).. شربة.. والنكرةتفيد المرّة هنا، وتتحقّق بأقلّ ما يُتصوَّر.. شربة من ماءٍ واحدةٍ ولو قطرات..
يا ربّ! أيّ ثباتٍ وأيّ صبرٍ كان يمتاز به المولى المعظّم مسلم بن عقيل (علیه السلام) ؟! كلّ هذه المصاولة والحرب الكلاميّة بعد تلك الجراحات والنزف، وهو لا زال عطشاناً؟!
لقد واسيتَ -- يا سيّدي وحبيبي -- إمامك وأخيك سيّد الشهداء (علیه السلام) ،
ص: 289
فهنيئاً لك! وأيم الله، ولا أحسب أن يخشى المؤمن في قسمه إثماً إذا قال: يعجز غير المعصوم عن وصف مسلم بن عقيل (علیه السلام) وموقفه وشجاعته وثباته وصبره وإيمانه وصلابته، وكلّ خصال الخير والسؤدد والسموّ والعظمة والجلال فيه!
لؤم الغلبة! تماماً كما قالها المولى المفدّى مسلم بن عقيل (علیه السلام) .. سلاح العاجز الجبان والرعديد المهان، والسافل الذي ذاق الأمرّ من الحنظل من لسان البطل الّذي مزّق كيان ابن زياد بالردّ الحاد، أحدّ من السنان..
عجز عن مقابلة ردود المولى (علیه السلام) وضرباته الدقيقة المؤثّرة الّتي أصاب بها ابنَ الأمة الفاجرة، وفتق قلبه بسهام كلماته الصائبة، وعرّاه وكشف نسبه وحسبه، وختم على فيه بمياسم الذلّ والصغار، ومرّغ بوزه وبدّد زهوه، وتركه كدودةٍ حقيرةٍ تتلوّى في أوحال نتن الماضي وجيفة مستنقع الحاضر، فصار كالكلب المسعور، ينبح ويلهث ويهجم، ليخمش بمخالبه ويعضّبأنيابه كلَّ ما يعترضه، لعلّه يجد لنفسه مهرباً..
لقد ردّ البطل الهاشمي (علیه السلام) على كلّ سخافات الوضيع الوقح، ولم يدَع له كلمةً تمرّ أو فرية تجوز، فطفح بما في كوامنه من حقدٍ ونصبٍ وعداءٍ لآل الله، وأصحر بما في وعائه من الكفر والطغيان والعتوّ والتمرّد على الله، وسلك مسالك مَن سبقه من قرود الشجرة الملعونة في القرآن، وطفق يسبّ
ص: 290
ويشتم..
هل دفعه إلى ذلك جبنُه وفشله وخيبته وخسرانه أمام الصولة الهاشميّة، وعجزه عن مقاومة لسان ابن عقيل المسدَّد؟!
أو أنّه استشاط غضباً ولم يجد بدّاً من تفريغ غضبه بجرح الأسد المكبّل بسبّ أبيه وأخيه وعمّه ومن أحبّهم مسلم (علیه السلام) في الله وفي الولاية وفي النسب، فأراد أن يؤذي البطل ويجرح قلبه؟!
أو أنّه قد ضاق به ذرعاً، فاضطرّ إلى كشف نصبه وعداوته وحقده ومحاربته لله في أوليائه؟
أو أنّه أراد أن يكسر شوكة الحقّ بالاعتداء على حرمات الله وتحطيم المقدّسات أمام أعين الناس فيما يزعم ويخال.. فيكسب الجولة على طريقة أسلافه، الّذين جهدوا في ذلك منذ يوم الهجوم على الدار، وسبّ وهتك حرمة بيت النبيّ المختار (صلی الله علیه و آله) ، والاستمرار في لعن الوصيّ الكرار (علیه السلام) ،والإمعان في مخالفة الجليل الجبّار، ومناصبة الحقّ ومقاومة القيم وسحق الأخيار؟!
يبدو إنّه لذلك كلّه ولغيره سلك سبيل السبّ والشتم لشعائر الله العظمى.. لقد سبّ أميرَ المؤمنين (علیه السلام) ، وقد فعل ذلك أسلافُه من قبل على رؤوس الأشهاد.. وسبّ مسلماً (علیه السلام) وهو عدوّه المكتوف أمامه، وسبّ عقيلاً وهو أبو مسلم وأخو أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وله منه موقف، لأنّه كان يحمل لساناً أقوى من المهنّد البتّار، وهو العالِم بأنساب العرب، والعارف
ص: 291
بالأصيل واللّصيق منهم، وقد فضحهم في كلّ مجلسٍ ونادي في حضره وفي الأسفار..
ثمّ جعل يسبّ الحسين سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) ، ومَن أُمّه سيّدة النساء، وأبوه سيّد الأوصياء، وجدّه سيّد المرسلين والأنبياء (علیهم السلام) ، وجدّته خديجة، وعمّه حمزة وجعفر الطيار (علیهما السلام) ، وهو مَن قد عرفه ابن زياد وسمع قول النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيه وفي أخيه أنّهما: «سيّدا شباب أهل الجنّة»، وقوله (صلی الله علیه و آله) : «إنّ حبّ عليّ قُذِف في قلوب المؤمنين، فلا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق، وإنّ حبّ الحسن والحسين قُذِف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين، فلا ترى لهم ذامّاً» ((1)).
فربما تجرّأ على سبّ أمير المؤمنين (علیه السلام) اقتداءاً بسلفه الطالح، وقداغتذى وارتضع من قذر القرود الأمويّة منذ أوّل نشأته، وكان أبو سفيان شريكاً في نطفته مع غيره من الزناة، ومن الطبيعيّ أن يُبغِض ابنُ الحرام أمير الأطهار والأخيار، لكنّه في أيّ صنفٍ من المخلوقات سيكون حينما يسبّ ويبغض الحسن والحسين (علیهما السلام) ، فالبشر إمّا أن يكون مؤمناً أو منافقاً أو كافراً، وقد قذف الله في قلوب جميع هذه الأصناف حبّ الحسين (علیه السلام) ، كما في النصّ المذكور.. فمَن كان هذا المخلوق الممسوخ المشوَّه حتّى سبّ حبيب العالمين الحسين (علیه السلام) ، وعدا عليه فقتله وسبى عياله؟!!
قال الطبري: وأقبل ابنُ سميّة يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً..
ص: 292
وقال ابن أعثم والخوارزميّ -- واللّفظ للثاني -- : فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين..
أمّا ردّ المولى الغريب (علیه السلام) هنا، فقد انقسم المؤرّخون فيه إلى طائفتَين:
روى الطبري في (التاريخ)، والشيخ المفيد في (الإرشاد)، والفتال في (الروضة)، ومسكويه في (التجارب)، وابن الأثير في (الكامل)، وابن كثير في (البداية والنهاية)، وغيرهم.. أنّ المولى الغريب (علیه السلام) سكت وأخذ لا يكلّمه.. وقد صرّح ابن كثير أنّه يروي ذلك عن الطبري، وقال: «رواه ابن جرير..»، ولا يبعد أن يكون مَن ذكرناهم قد أخذوه أيضاً عنه..
ولا نريد أن نسوق الاحتمالات هنا لمعرفة سبب سكوت المولىالغريب (علیه السلام) ، وهل كان غضباً أو تجاهلاً أو مكابدةً للألم أو أيّ سبب آخر؟ فهو على كلّ حالٍ يحكي مدى ازدراء البطل الهاشمي (علیه السلام) لابن الأمة الفاجرة واحتقاره، والتنزّه عنه، واعتباره أدون من الجاهل الّذي يردّ على جهالاته بالسلام؛ ﴿إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلَاماً﴾.
وربما أكّد تعبير الطبري والشيخ المفيد وغيرهما: «وأخذ مسلم لا يكلّمه»، أو تعبير مسكويه: «وأمسك مسلم لا يكلّمه».. أنّ المولى الغريب (علیه السلام) تعمّد السكوت واتّخذه موقفاً، لا إنّه حصر أو عيّ عن الردّ -- والعياذ بالله --.
وربّما سكت ثمّ أجاب بما سنذكره بعد قليل، فروى هؤلاء السكوت
ص: 293
وروى الآخرون التتمّة.
ذكر ابن أعثم والخوارزميّ والسيّد ابن طاووس ردّاً قويّاً وجواباً حامياً ردّ به مسلم بن عقيل (علیه السلام) على تمادي ابن زياد وجرأته على الله وأوليائه ووقاحته وتطاوله على الحرمات والمقدّسات الّتي رفعها الله..
فقال ابن أعثم والخوارزميّ -- واللّفظ للثاني -- : «فقال مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتم والسبّ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله، فنحن أهل بيتٍ موكل بنا البلاء..». وذكر السيّد ابن طاووس وغيره مثله.
يبدو أنّ هذه الطائفة أقرب إلى مسار المحاججة ومجريات الأحداث،وتنسجم أكثر مع ما عهدناه خلال هذه المصاولة الكلاميّة من الانقضاض السريع المهلك من قبل البطل الهاشمي (علیه السلام) على الجرو الأموي، وردّه الفوريّ عليه بعد كلّ فقرةٍ من كلامه.. ويمكن أن نلخّص الكلام في هذه الفقرة ضمن ثلاث مقاطع:
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) لم يردّ كلّ سُبّةٍ بسبّة وشتمٍ بشتم، فلا سواء، إذ أنّ ابن زياد وأباه أحقّ بالسبّ والشتم، وهو لازمٌ لا ينفكّ عن وجودهما القذر، وذكرهما سبّةٌ على البشريّة وشتمٌ للإنسانية، وتوصيفهما يعني السبّ والشتم والرذيلة بذاتها، فمتى ما ذُكِرا جرى السبّ والشتم معهما..
ص: 294
ثم إنّه (علیه السلام) أعلن عن كفر ابن زيادٍ وطغيانه وتمرّده على الله وعتوّه بمخاطبته بما حكاه الله في مخاطبة فرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض﴾.
وأثبت له العداوة لله: «يا عدوّ الله»، فقد كفر بسبّ الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) ، واستحقّ اللّعنَ والكفر والسخط من ربّ العالمين، وبارز اللهَ بالمحاربة، وقد استوجب بذلك القتل، لو كان في القوم الحضور رجلٌ مسلم يفقه ما يقوله سليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، أو يشري نفسه لله وينفذ في هذا الوجود المتعفّن حكم الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) .
مَن عرف قدر نفسه لم يهنها بالفانيات ((1))، وما هلك امرؤٌ عرف قدر نفسه ((2))، وما جهل ولا ضاع امرؤٌ عرف قدر نفسه ((3))، والعالِم مَن عرف قدر نفسه ((4)).. وهذا مولانا مسلم بن عقيل (علیه السلام) العالم، قد عرف قدر نفسه، فقال: «فنحن أهل بيتٍ موكلٌ بنا البلاء»..
وكأنّ سفير سيّد الشهداء (علیه السلام) وثقته قد اقتبس ذلك من كلام الإمام الحسين (علیه السلام) في خطبةٍ له: «خُطَّ الموتُ على وُلد آدمَ مخطّ القلادة على
ص: 295
جِيد الفتاة ... لا محيص عن يومٍ خُطّ بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجورَ الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعةٌ له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه وتنجز لهم وعده، مَن كان فينا باذلاً مهجته موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله» ((1)).
واقتباسٌ من طائفةٍ من الأحاديث الشريفة الّتي صرّحت أنّ الله يختصّ أولياءه بالبلاء، الأنبياءَ والأوصياء والأولياء والأمثل فالأمثل.. ومسلم بن عقيل (علیه السلام) من رجال البيت النبويّ، ورجالِ البيوت الّتي أذن الله أن تُرفَع،والطائفين في أروقة تلك البيوت، ومن سيوف أمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) ، وقد أوكل الله البلاء بهم لأنّهم الأمثل في الخليقة.. ومسلم (علیه السلام) يدور معهم حيثما داروا.
ربّما يُفهَم من كلامه (علیه السلام) : «اقضِ ما أنت قاض» أحدُ فهمين، أو كلاهما معاً:
الفهم الأوّل: ردّ للسبّ والشتم
قد يُفهَم أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد أجاب على الوغد الوقح بقوله هذا بمعنى أنّ ابن زياد قد تمادى في غيّه وتفرعن، وأنّ الليث الطالبي المكبّل في
ص: 296
موقع وكّل به البلاء، وليس له إلّا الصبر ليوفّى أُجور الصابرين، وقد صبر مسلم (علیه السلام) وأهل البيت الّذي ينتسب إليه على مثل هذا البلاء، وما هو أعظم من السبّ والشتم، كالقتل وإحراق الدار وغيرها.. فهو يقول له: قل وافعل ما شئتَ من طغيان، ومارس الغطرسة بالسبّ والشتم، فإنّا من بيتٍ يجيد المتاجرة مع الله والصبر على بلائه..
أو كأنّه بقوّة قول السيّدة الصدّيقة الصغرى ردّاً على القرد الأمويالمجدور يزيد: «أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك» ((1)).
الفهم الثاني: تمنّي الشهادة
ربّما كان قوله بمعنى: إفعلْ ما شئتَ مِن قتلي، تماماً كما ردّوا على فرعون حينما هدّد وأرعد، فقالوا له: ﴿فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إنّما تَقْضي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا﴾، ومسلم (علیه السلام) من أهل بيتٍ موكل بهم البلاء، فلا يخشى الموت ولا يحزن، «ومن كرم دينه عنده هانت الدنيا عليه» ((2)).. فماذا بعد أن سبّ الزنيم أئمّة الدين على مسمع من صاحب الغيرة الطالبيّة، وهو مكتوفٌ لا يستطيع أن يهشم رأس البغي بسيفه؟! وهو ينتظر الشهادة بلهفة، ويتطلّع إلى تحقّق الأمنية الموعودة، ويستعجل اللقاء بالأحبّة محمّد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وحزبه..
ص: 297
قال الطبري: وزعم أهل العلم أنّ عبيد الله أمر له بماء، فسُقي بخزفة، ثمّ قال له: إنّه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلّا كراهة أن تحرم بالشرب فيها، ثم نقتلك، ولذلك سقيناك في هذا ((1)).
في العبارة ارتباكٌ لائح وتهافت واضح، لأنّه يقول: «لم يمنعنا أننسقيك فيها إلّا كراهة أن تحرم بالشرب فيها»، فربما كان المقصود: لم يمنعنا أن نسقيك في غيرها..
ولابدّ من تمييز معنى (التحريم) المقصود أوّلاً، فربّما أعان على فهم العبارة، ويمكن أن يفترض لها معنيان:
المعنى الأوّل: التحريم بمعنى أنّهم سيمتنعون من الاستفادة منها فيما بعد، فتحرم عليهم وتتلف ويخسرونها.
والمعنى الثاني: وهو الأقرب والأوفق الّذي يساعد عليه سياق العبارة، وهو بمعنى أن يكون لك حرمة عندنا بالشرب في آنيتنا. قال الزمخشري: تحرّم فلان بفلان، إذا عاشره ومالحه وتأكّدت الحرمة بينهما، وتحرّمت بطعامك ومجالستك، أي: حرم عليك منّي بسببهما ما كان لك أخذه ((2)).
وقال الكاشاني: تحرّمت بصحبتك، أي صرت بها ذا حرمة ((3)). وهو
ص: 298
لفظٌ يُستعمَل بمعنى أن يأكل أو يشرب أو يصاحب أحداً أو يدخل عنده ضيفاً، فتكون له بسبب ذلك حرمة تمنع من أذاه أو خيانته أو غشّه وترك النصيحة له، وإيجاد علقةٍ خاصّة وارتباطاً حامياً له عند المضيف.
وبعد أن اتّضح معنى التحريم إجمالاً، يمكن أن تُفهَم العبارة -- رغم مافيها من ارتباك -- بأحد الاحتمالات التالية:
ربّما كانت ثمّة إشارة من ابن الأمة الفاجرة إلى إناءٍ موضوع بالقرب منه، فقال: لم يمنعنا أن نسقيك فيها -- أي: في الإناء الّذي أشار إليه بالقرب منه مثلاً -- إلّا كراهة أن تحرم بالشرب فيها، أي تحرم بالمعنى الأوّل، أو إنّه قصد نفس الإناء الخزفي، بمعنى إنّه يقول: لم يمنعنا أن نسقيك في غير هذا الإناء إلّا لأنّنا نكره أن تشرب فيه فنضطرّ لاجتنابه فيحرم علينا، وهو بعيد وفيه تكلّف وتحميل على النصّ، ولا ينسجم مع تتمّة العبارة: «ثمّ نقتلك، ولذلك سقيناك في هذا».
كأنّ الخبيث الرجس يقول أنّه إنّما سقاه بإناء خزف ولم يسقه بإناء آخر من الآنية الّتي تُستعمَل عندهم؛ خوفاً من أن يتحرّم بالشرب في آنيتهم، فتكون له حرمة فلا يستطيع قتله بعدها.. وهذا المعنى أوفق بسياق العبارة رغم ما فيه.
* * * * *
ص: 299
وكيف كان، فإنّ في سلوكه التافه علاماتٌ تفيد عزم الطاغية على التعدّي والتجاسر على ساحة مولانا المقدّسة..
ويبقى أنّ الطبري تفرّد بها دون جميع المؤرّخين في طبقاتهم -- حسبفحصنا --، حتّى أُولئك الّذين يروون عنه بالحرف، وقد نسبها الطبريّ إلى زعم أهل العلم..
أضف إلى أنّنا نعرف إباء مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وأنّه لم يشرب قبل دخوله على ابن زياد، لأنّ نزف الدماء لم ينقطع وقد امتلأ القدح دماً، ولا زالت جراحاته تشخب دماً، فكيف يشرب (فداه روحي)؟ ونحن مطمئنّون أنّ مولانا المعظَّم لا يفوته مواساة سيّد الشهداء (علیه السلام) في العطش، وأنّ له كأساً مذخورة عند النبي (صلی الله علیه و آله) سيشربها ولا يظمأ بعدها أبداً!
يبدو أنّ علامات الضعف والوضع اللّائحة على الخبر وارتباكه تغني عن مناقشته..
بعد أن أكّد المولى الغريب (علیه السلام) أنّ ابن زياد وأباه زياد بن عبيد بن علاج من ثقيف هما اللّذان شقّا العصا، وأنّه ما خالف ولا غيّر ولا خلع ولا كفر ولا بدّل، وإنّما هو في طاعة سيّد شباب الجنّة الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) ، ثمّ قال -- كما في نصّ ابن أعثم والخوارزميّ والسيّد ابن طاووس -- : «وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته»، وفي
ص: 300
(مثير الأحزان) لابن نما: «أيدي شرّ البريّة»..
يمكن أن يفيد هذا الرجاء الوارد ضمن السياق المذكور عدّة مطالب:
كان البطل الهاشميّ في جوٍّ ترفرف الشهادة على رأسه بعد أن أُصيب بكلّ تلك الجراحات المؤثرة البليغة الّتي قاومها المولى الغريب (علیه السلام) بصلابة إيمانه وقوّة ثباته، ولو كانت في غيره لأتت عليه منذ اللّحظة الأُولى، مستعينةً عليه بالعطش الّذي فتّت كبده وجفّف أحشاءه وأذبل أعضاءه الممزّقة بالسيوف والسهام والمكتوية بلهيب أطنان القصب..
وقد أعلن مسلم بن عقيل (علیهما السلام) إنّه يعيش الرجاء الّذي سيتحقّق حتماً، لأنّه ممّا وعده به النبيّ الأمين (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، فهو لا يريد أن يقاتل بعد تلك اللّحظة التي جرّته إليها سنّة البلاء الموكول بالأولياء، وكان في قدَره أن يوقَف مكتوفاً في القصر ويقف أمامه الجرو الأجرب ليكلّمه بوقاحة، ويسبّ ويشتم أمامه أعظم حرمات الله على الإطلاق، وهو مصدودٌ عن القتال، ممنوع عن فري أوداج الوحش المطلق العنان، وهذه كلّها مؤشّرات واضحة وعلامات لائحة أنّه قد بلغ الغاية في بذل المجهود، ولم يبقَ بينه وبين الشهادة إلّا أن يقتحم اللعين حدود الله ويجترئ على حرماته، فيأمر بقتله وينال الشهادة الأمنية ويتحقّق له الرجاء المنشود.
ويمكن أن يستشعر المتأمّل في هذا التصريح العظيم من هذا البطل
ص: 301
العظيم في تلك اللحظة العصيبة واليوم المكفهر مدى ثبات مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وتسلّطه على الموقف، وسكينته في إدارة دفّة الأحداث،وتماسكه في الأخذ بزمام المبادرة في كلّ مراحل تشرّف الكوفة بأقدامه منذ أن دخلها سفيراً إلى اللّحظة الأخيرة من حياته المباركة..
فحتّى القتل والشهادة فقد بادر هو في تمنّيها، وأعلن عن رجائه في نيلها قبل أن يحكم فيها ابن الدعي!! ما أعظم شأنك يا ابن عقيل!
لقد وصل المولى الغريب (علیه السلام) إلى مشارف الآخرة، وقرع أبوابها، وزُخرفت الجنان واستعدّت لاستقباله، وهو يستعجل اللقاء بالنبيّ (صلی الله علیه و آله) والنظر إلى وجه عمّه أمير المؤمنين عليّ وإمامه الحسن المجتبى (علیهما السلام) وسائر الأحبّة والشهداء والصالحين، وحسُنَ أُولئك رفيقاً..
وإنّما يجتاز المؤمن هذه الحياة الدنيا ليضمن الآخرة، ومسلم بن عقيل (علیهما السلام) من سادات المؤمنين، وقد أكّد في سياق كلامه أنّه ما خالف ولا غيّر ولا خلع ولا كفر ولا بدّل، وإنّما هو في طاعة سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فعاقبته حميدة، وهو يمضي على بصيرةٍ من أمره مقتدياً بالصالحين ومتّبعاً للنبيّين والوصيّين، وماذا ينتظر بعد أن يكون على الإيمان ثابتاً، ويخرج من الدنيا بالشهادة وهو في طاعة الإمام الحسين (علیه السلام) ؟
لا شكّ أنّ الآخرة لمثل هؤلاء الأولياء خيرٌ من الدنيا، لأنّها دار عامرة،
ص: 302
وهي دار الحيوان، ومستراح المتّقين وفوزهم، وهم الّذين يقضونالحياة الدنيا ضمن سنّة الله في الأمثل فالأمثل من أوليائه المخلصين، وهو يتمنّى أن تختم له بالشهادة الموعودة، وهي أشرف الأبواب الّتي يسلكها العظماء من الأولياء لدخول الآخرة..
قرّر المولى الغريب (علیه السلام) أنّ الشهادة رزقٌ يختصّ الله به عباده، فرجى أن ينال هذا الرزق، وأن يوفّر الله حظَّه فيه ولا يحرمه منه، وهو يعيش رجاء الواثق من تحقيق الأمنية، واستجابة الدعاء من خلال الوعد الّذي قطعه له خاتم المرسلين (صلی الله علیه و آله) وسيّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) .
إنّ المولى الغريب (علیه السلام) أعلن أنّه يرجو أن يرزق الشهادة «على يدَي شرّ بريّته»، وفي لفظ ابن نما: «أيدي شرّ البريّة».
يمكن أن تُفهَم العبارتين من جانبين:
أمّا من جانب المولى (علیه السلام) فكأنّ القتل على يد شرّ البريّة فيه ميزة للقتيل، وهذا ما يتمنّاه الصالحون ويرنو إليه المخلصون، إذ إنّ القاتل كلّما كان مجرماً شرّيراً هابطاً تكون شهادته أكثر خلوصاً وأصفى، فإذا كان القاتل شرّ البريّة فلا يوجد أيّ مجالٍ لأن يكون في الشهادة أدنى شبهة في كونها قتل على الحقّ، فلو كان في القاتل مسحة خيرٍ فربّما يُنسَب عمداً أو جهلاً
ص: 303
ذلك القتل إلى تلك المسحة، أمّا إذا كان القاتل شرّ البريّة فلا يخالج أحدٌ ولا يقوى أحدٌ عامداً أو جاهلاً أن يعدّ في عمله ذلك جنبة حقّ، لأنّ شرّ البريّة لا يعرف الحقّ بتاتاً ولا يفعله ولا يصدر منه حسب الطبيعة والسيرة.
وبهذا نعرف قتَلَة الأنبياء والأوصياء، وأشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح قاتل أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وقاتل سيّدة نساء العالمين (علیها السلام) ، وقتلة سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ، وقتلة الأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) ، ومدى الشرّ الكامن في القَتَلَة.
وكلّما كان القاتل شرّيراً تكون مظلوميّة المقتول أعظم، وتعرّضه للأذى والجور والمحن أكثر، فإذا كان القاتل شرّ البريّة فماذا ستكون مديات مظلوميّة المولى الغريب (علیه السلام) وتعرّضه للأذى والجور والعدوان؟!
أمّا من جانب الدعيّ ابن الدعي، فقد أسمعه البطل الهاشمي (علیه السلام) كلاماً يتفجّر شهامةً وقوّةً وشجاعةً وبسالةً ورجولة، وكلّ ما يمكن أن يقال ويوصف من خصال البطولة والفتوّة والتسلّط على العدوّ وامتلاك زمام المبادرة إلى نهاية المعركة، وبقاء الضربة الأخيرة بيد المحارب المصاول الّذي لا يكلّ ولا يملّ عن مقارعة الظالمين وكبح جماح المتغطرسين وقمع الجبابرة المتفرعنين.
فقد واجهه بما لم يكن يتوقّع أن يسمعه من أحدٍ بعدما عُرف من
ص: 304
سجلّه الدمويّ الوحشيّ الطائش الأرعن، فكان يظنّ أن كتاف البطل الهاشمي (علیه السلام) وجراحه وأسره يفلّ من عزيمته أو أنّه يرهبه الموت، فجاءته الصفعة القاصعة والضربة المدمّرة في كلماتٍ معدوداتٍ قرّرت فيه باطله وكفره وطغيانه، وكذّبت كلّ مزاعمه في ادّعاء الصبغة الدينيّة وتمثيل امتدادات السلطان والحكم، وأكّدت أنّه ليس إلّا قذر متدلٍّ من أعقاب القرود الأمويّة متعلّق بأذنابها.. إنّه «شرّ البريّة».
مرّ علينا خلال بحث مقاطع المحاججة أنّ المولى الغريب (علیه السلام) ردّ على كلّ فقرةٍ تفوّه بها النغل المفضوح ابن مرجانة، ولم يدع له سكّةً يفرّ منها، ولا باباً يوصده على نفسه ليستريح من هجمات سليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) ، وقد هدّد الرعديد بالقتل المروّع الّذي لم يشهد له تاريخ الإسلام مثيلاً، وأزبد وأرعد، فردّ عليه فخر الكوفة وصناديدها في الحال.
وآخر ما يمكن أن يفعله الوحش المسعور أن يأمر بقتل المولى الغريب (علیه السلام) لينجو من حملاته، ويريح أُتون الحقد المستعر في أعماقه، ويشفي غليله ويطفئ لهيب البغضاء والعداوة لله ولأوليائه، ويحقّق أغراضه الّتي يصبو إليها من خلال قتل سفير سيّد شباب أهل الجنة (علیه السلام) بين الملأ.
فأمر بقتله! فجاءه الردّ قويّاً موجِعاً، وأصابته سهام كلمات ابن عقيل (علیه السلام) في الصميم، فأتت عليه من بنيانه، كما في نصّ ابن أعثم، فقال
ص: 305
مسلم: أما والله يا ابن زياد! لو كنتَ من قريشٍ أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة، لَما قتلتني ((1))، ولكنّك ابن أبيك ((2)).
وعاد البطل الهاشميّ (علیه السلام) الطهر ابن الطاهرين ليضرب على نفس المنطقة الموجعة، ويستهدف الموضع الّذي لا يستطيع ابن الأمة الفاجرة الدفاع فيه عن نفسه، ويكشف زيف النسب اللّصيق الّذي يحاول الدعيّ الاختباء تحت ظلّه..
إنّ ابن زياد لصيقٌ لا نسب له، وليد خيام الفواحش المتنازَع عليه بين جماعة روّاد دور الفاحشة، المتكوّنة نطفته في الأرحام العفنة الّتي ترفع لها الرايات فيمتزج فيها صديد الشهوات الهابطة من أصلاب القيح الاجتماعي المتراكم على مزابل خيام الفاحشة والرذيلة..
لو كنتَ من قريش، أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة، لَما قتلتني..
لو كنت! وهو ليس كذلك جزماً حتماً مؤكّداً.. بشهادة القسم، وقد حسم الأمر باستخدام «لو»، فهو فرض محالٍ لا يمكن أن يتحقّق.. ف- (لو) أداة امتناع لامتناع، فهو لا يمكن أن يكون من قريش ولو فرضاً.. وأكّد ابن عقيل (علیه السلام) وسليل الأطياب الطاهرين ذلك بقوله: «أو كان بيني وبينك رحم أو قرابة»، فنفى ابن زياد نفياً قاطعاً من أيّ علاقة بقريش وهو يزعم
ص: 306
أنّه منهم، فلمّا أمر بقتله تبيّن زيف ما يزعم وكذب ما يدّعى له، فلم تبقَ له أيّ شجنة يمكنها أن تربطه بالنسب الصريح، فهو دعيٌّ ساقط ونغل متهالك متهاوي في أحضان الرذيلة يعبّ الموبقات من النسب الرديء والحسب الدنيء، ومَن هذا شأنه يقتل الطيّبين ولا يسع وجوده الوسخ النظر إلى طهارة الطاهرين، ويكون بغضه لأئمّة الدين ورجال الحقّ متجذّراً في كيانه المعقود من النطف المتراكمة والنجاسات المكثّفة.
إنّ ابن زياد ليس من قريش، ولا يمتّ إليهم بصلةٍ لا من قريب ولا من بعيد، لولا ما ارتضاه معاوية من نسبة الزنا لأبيه فألصق زياداً به، فلا نسب ينتمي إليه هذا الوغد، (ولكنّه ابن أبيه)، ابن أبيه فقط، كما كان زياد من قبل يدعى (زياد ابن أبيه)، فهو عهرٌ من عهر، ونغلٌ من نغل، لعنة الله عليه وعلى أبيه.
وقد فعلت كلمات المولى الغريب (علیه السلام) فعلها المؤثّر في إصابة المواضع الموجعة من ابن زياد، «فازداد ابن زياد غضباً» كما في نصّ الخوارزمي.
لقد عرفنا في ثنايا الحديث -- حينما سمعنا قبل قليل ردود المولى الغريب والبطل الهاشميّ مسلم بن عقيل (علیهما السلام) على ابن الأمة الفاجرة -- مدى قوّته وصلابته ودقّة كلامه وتسديده الضربات المتتالية الموجعة، ونفترض في الناظر إلى هذه الصفحات قد تابعنا في الحديث، فلا نعيد ولا
ص: 307
نذكر فقرات كلامه (علیه السلام) ، وما سنذكره هو محاولة لرفع مستوى معرفتنا بهذا السيف البتّار من سيوف آل خير الأنام، ولتكون منطلقاً لقراءة سيرته والتعرّف على شخصه الكريم.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى عدّة نقاط مفهرسة، ونترك الباقي للمطالع وللباحث والمحقّق:
الأُولى: الدقّة في الجواب وتحديد موضع الردّ.
الثانية: قوّة الردود، ودقّة التصويب للأهداف المقصودة في الطعن على الظالم.
الثالثة: شدّة الصمود، وصلابة الإيمان، وعمق المعرفة، وثبات الجَنان.
الرابعة: قوّة السكينة والوقار والتماسك والتجلّد في تلقّي حملات العدوّ البائسة.
الخامسة: عدم الاستجابة للاستفزازات والردّ وفق متطلّبات الموقف.
السادسة: العمق الذي لا يُدرَك والغور الّذي لا يوصَف من الولاء الخالص لله ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ولأئمّة الدين (علیهم السلام) ولشخص سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) .
السابعة: المعرفة -- الّتي لا توصَف -- بالولاية.
الثامنة: المعرفة العميقة الّتي لا توصَف بالعدوّ المواجه له.
التاسعة: القوّة والدقّة والبلاغة والقدرة الفائقة على فضح العدوّ، وطعنهفي المواضع الموجِعة والقاتلة لكيانه بكلّ أبعاده.
ص: 308
العاشرة: القوّة الخارقة في الدفاع عن الإمامة وحقّ أهل البيت (علیهم السلام) في الخلافة.
الحادية عشر: المعرفة الّتي لا تدرَك بالدين وأحكامه وتشريعاته وأحكام التقيّة ومواضع استخدامها.
الثانية عشر: المعرفة الدقيقة بتفاصيل تاريخ الأُمويّين وابن زياد وأبيه.
الثالثة عشر: المعرفة الدقيقة بأساليب العدوّ وأسلافه في التعامل مع الأولياء والمخالفة لربّ السماء، والتضليل والتجهيل والتعتيم.
الرابعة عشر: المعرفة الدقيقة بتفاصيل المجتمع الّذي أُرسل إليه ومعاناته.
الخامسة عشر: المعرفة الدقيقة الشاملة الكاملة بالمهمّة المكلَّف بها من قِبل سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) .
السادسة عشر: الدقّة الفائقة في توظيف الكلمات والتعبير واستخدام الضمائر.
السابعة عشرة: الدقّة العالية في تحرّي الحقّ ومتابعته، ومسح الواقع وتشخيصه.
الثامنة عشر: الدقّة المرهفة في تجنّب أيّ موقفٍ أو تعبير يفيد ادّعاء شيءٍ أو حقٍّ شخصيّ له يدافع عنه في السلطان أو أيّ مقام دنيويّ أومنصب من مناصب الأئمّة من أهل البيت (علیهم السلام) ومقاماتهم.
التاسعة عشر: الوثوق المطلَق بالله والثقة الكاملة غير المنقوصة أبداً
ص: 309
بصلاح الموقف وصحّته، والإيمان الكامل به ما دام في طاعة إمام زمانه.
العشرون: الرضا الكامل والتسليم المطلق لمؤدّيات الموقف وما سيؤول إليه الأمر.
الحادية والعشرون: الثقة الكاملة بحسن العاقبة.
الثانية والعشرون: الشجاعة في الردّ.
الثالثة والعشرون: الصبر والصلابة والتغافل عن الجراح والنزف والإباء والعزّ والشموخ.
الرابعة والعشرون: تجاهل العدوّ واحتقاره وسحق كبريائه وغروره.
ربما كان في بعض النقاط شيءٌ من التداخل، بيد أنّنا أردنا التركيز عليها فلا مانع، وربما فاتنا شيءٌ للقارئ أن يحصيه.
ص: 310
قال البلاذري والخوارزمي: ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه. فأتبَعوا رأسه جسده ... ((1)).
وقال الطبري، أبو الفرج، مسكويه: ثمّ قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه ((2)). ثمّ أتبَعوا جسده رأسه.. ((3)).
وقال ابن أعثم: فقال له: خذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك؛ ليكون ذلك أشفى لصدرك ((4)).
وقال المفيد والفتال والطبرسي وابن شهرآشوب: ثمّ قال ابنزياد:
ص: 311
اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه ((1)). ثم أتّبعوه جسده ... ((2)).
وقال ابن الأثير: ثمّ أمر به، فأُصعِد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده ... ((3)).
وقال ابن نما: وأمر بقتله، فأغلظ له مسلم في الكلام والسبّ ((4)).
وقال السيّد ابن طاووس: فأمر ابن زياد بكر بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله ((5)).
وقال الطريحي: ثمّ أمر بمسلم أن يصعد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكَّساً على رأسه، فعند ذلك بكى مسلم على فراق الحسين (علیه السلام) وقال:
جزى اللهُ عنّا قومنا شرّ ما
جزى
شرار الموالي بل أعقّ وأظلمُ
همُ منعونا حقَّنا وتظاهروا
علينا وراموا أن نذلّ ونرغمُ
وغاروا علينا يسفكون دماءنا
فحسبُهمُ الله العظيم المعظّمُ
ونحن بنو المختار لا شي ء
مثلنا
نبيٌّ صدوقٌ مكرم ومكرمُ ((6))وقال أبو مخنف (المشهور): ثمّ أمر ابن زياد أن يُصعَد بمسلم إلى أعلى
ص: 312
القصر وينكّسه على أُمّ رأسه.
* * * * *
بعد أن عجز النذل الجبان عن مواجهة البطل الهاشمي (علیه السلام) باللسان، كما عجز هو وذئابه المدرّبة من قبل على مواجهته بالسيف والسنان، صار يتجبّر على الله، ويبغي على الحقّ، ويأمر بقتل العبد الصالح المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين والأئمّة الطاهرين (علیهم السلام) ، لينجو ممّا هو فيه، ويشفي غليله، ويسكّن نيران الحقد ولهيب الضغينة والعداوة لعترة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأهله ورهطه، وينتقم لضعفه وحقارته وفضيحته، ولأغراضه الآنية الأُخرى بدافع الحفاظ على سلطانه..
وقد اتّفقت أكثر المصادر على عدّة بنود صرّح بها الخبيث لتطبَّق عند تنفيذ قتل شهيد في محبّة الحسين (علیه السلام) :
البند الأوّل: أن يُصعَد به فوق القصر.
البند الثاني: أن يُضرَب عنقه.
البند الثالث: أن يُتبَع رأسه جسده، أو يتبع جسده رأسه، حسب اختلاف النصوص.
والمتبادر من البند الثالث أن يُقتَل أوّلاً بضرب العنق، ثمّ يُرمى برأسهوجسده المقدّسين إلى الأرض، بيد أنّ الشيخ ابن شهرآشوب والسيّد ابن طاووس اقتصرا على ذكر البندين الأوّلين فقط.
وأضاف ابن نما أنّ المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) قد أغلظ له في الكلام
ص: 313
والسبّ، ويبدو أنّه إشارة إلى ما ذكرناه قبل قليل من ردّه (علیه السلام) على الأمر بالقتل في المحور السابع.
وذكر الطريحي مستنداً على (المقتل) المشهور لأبي مخنف -- ظاهراً -- البند الثاني والثالث بصورة مروّعة أُخرى، ب- «أن يُصعَد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكّساً على رأسه»، وهذه العبارة تفيد أن يكون القتل بالإلقاء من شاهق وهو حيّاً منكّساً على رأسه ليستقبل به الأرض!!
وهي صورة تصدع الفؤاد، وتسلب القرار، وتمزّق الأحشاء، وتدعو المحبّ للجزع وقلّة التصبّر ورقّة التجلّد.. أن يُرمى وهو حيٌّ من أعلى القصر إلى الأرض ليرتطم رأسه المقدّس، وتتهشّم عظامه، وتتقطّع أعضاؤه المثخنة بالجراح!! يا لله! يا لهول المنظر وبشاعة الفعل..
وبالرغم من تفرّد (المقتل) المشهور والطريحي بنقل هذه الصورة -- حسب فحصنا --، واشتهار ما في المصادر المذكورة قديماً وحديثاً، فإنّ هذه القتلة أقرب إلى التهديد الّذي أطلقه ابن الأمة الفاجرة حينما كان واقفاً بين يدَي المولى الغريب (علیه السلام) ، إذ هدّد أنّه سيقتله قتلةً لم يُقتَل بها أحدٌ في الإسلام، أو أنّه سيقتله شرّ قتلة!
وربّما يؤيده أيضاً ما ورد في كيفيّة شهادة سفراء سيّد الشهداءالآخرين؛ قيس بن مسهر الصيداوي ((1))، وعبد الله بن يقطر ((2))، حيث
ص: 314
ورد فيهما أنّهما أُلقيا من أعلى القصر حيَّين.
ويظهر أيضاً من عبارة الطريحي أنّ المولى الغريب (علیه السلام) قد بكى على فراق سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وأنشد الأبيات: «جزى الله عنا قومنا شرّ ما جزى..» -- باختلافٍ في الأبيات الأخيرة عن (المقتل) -- عند صدور الأمر بالقتل لا عند تنفيذه كما في (المقتل).
أمّا مَن هو الّذي باشر القتل، هل هو بكر أو بكير بن حمران الأحمري أو رجل شامي ضربه البطل الهاشميّ على رأسه أو غيرهما؟ فهذا ما سيأتي بعد قليل.
ص: 315
ص: 316
يمكن تقسيم المصادر الّتي ذكرت شهادة المولى الغريب (علیه السلام) -- من حيث طريقة عرضها لهذا الخبر المفجع والمصيبة الفادحة والرزيّة الكاظة القارحة -- إلى أقسام:
ذكرنا فيما سبق أنّ بعض المصادر عرضت خبر شهادة المولى الغريب (علیه السلام) بكلمةٍ أو كلمتين، من خلال الإشارة إلى قتله وقتل شيخ الكوفة هاني بن عروة، واقتصر المؤرخ على قوله: «فأخذ عبيد الله بن زياد
ص: 317
مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة، فقتلهما جميعاً» ((1)).
أو جمعهما مع قتل عبد الله بن يقطر (صلوات الله عليهم) في ذكر أحداث سنة ستّين، فقال: قتل هانئ بن عروة ومسلم بن عقيل وعبد الله ابن يقطر ((2)).
ومنهم مَن أفرد ذكر خبر قتله لوحده، فاكتفى بقوله: «فقتله عبيد الله» ((3)).
ومنهم من اقتصر على صدور الأمر من ابن الأمة الفاجرة وصاغ تنفيذ الأمر على المجهول، فقال: «ثمّ أمر به فقُتل» ((4)).
ومنهم من أشار إلى طريقة تنفيذ القتل من خلال التنصيص على ضرب عنقه (علیه السلام) ، كابن قتيبة والبلاذري والطبري في إحدى رواياته ((5)).
ص: 318
وقال الذهبي: وقال غير واحد: قُتل مع الحسين ابن عمّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وقد كان في آخر سنة ستّين، قتله ابن زياد صبراً ((1)).
وقد تبيّن أنّ هذا القسم من المصادر رغم شدّة الاقتضاب في نقل الخبر والبخل في شرح ما جرى على المولى الغريب (علیه السلام) ، غير أنّها أفادت أنّه (فداه روحي) قُتل بضرب عنقه صبراً..
والقتل صبراً أن يُحبَس ويُقتَل، أو أن يرمى وهو حيٌّ حتّى يموت ((2))، وقد قُتِل سيّد الشهداء (علیه السلام) وزينة عرش الله صبراً كما ورد في التاريخ والحديث، فقد ورد في حديثٍ طويل عن الصادق (علیه السلام) وهو يحدّث عن العهد المأخوذ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) في المعراج التعبيرُ بالقتل صبراً في كلام الله (عزّ وجلّ) مع نبيّه (صلی الله علیه و آله) مرّتين: «يقتلونه صبراً ... أمّا ابنك المخذول المقتول وابنك المغدور المقتول صبراً..» ((3)).
ويا لها من قتلةٍ مفجعة، تصدع الفؤاد وتزيل القلب عن مستقرّه، إذ يبتلي حبيب الله ووليّه بتكاثر اللئام عليه، ويثخن بالجراح حتّى لا يقوى على القتال، فاحتوشه مَن لا يعرف إلّا «لؤم الغلبة»، ويكون مثل المولى الغريب (علیه السلام) مكتوفاً، فيتقدّم جبانٌ لئيم وغد خبيث ليضرب عنقه!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ص: 319
قال البلاذري: فقتله، فكان الّذي تولّى ذلك منه بكير بن حمران الأحمري، أشرف به على موضع الحذّائين، وهو يسبّح ويدعو على مَن غرّه وخذله، فضرب عنقه، ثمّ أتبع رأسه جسده، ثم ضرب رأسه فسقط ((1)).
الدينوري: وأمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فرُقي به إلى ظهر القصر، فأشرف به على الناس وهم على باب القصر ممّا يلي الرحبة، حتّى إذا رأوه ضُربَت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أتبع الرأس بالجسد، وكان الّذي تولّى ضرب عنقه أحمر بن بكير ((2)).
الطبري: فأمر به فأُصعِد إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثّته إلى الناس ((3)).
الطبري أيضاً: فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله، وهو يقول: اللّهمّ احكُمْ بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وأذلّونا. وأشرف به على موضع الجزّارين اليوم، فضُربَت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
قال أبو مخنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة
ص: 320
قال: نزل الأحمري بكير بن حمران الّذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيته لأقتله قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا، فقلت له: اُدنُ منّي، الحمد لله الذي أقادني منك، فضربتُه ضربةً لم تغنِ شيئاً، فقال: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاءاً من دمك أيّها العبد! فقال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت! قال: ثمّ ضربته الثانية فقتلته ((1)).
ابن أعثم: قال: فأُصعِد مسلم بن عقيل (رحمه الله) إلى أعلى القصر، وهو في ذلك يسبّح الله تعالى ويستغفره وهو يقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وخذلونا. فلم يزل كذلك حتّى أتي به إلى أعلى القصر، وتقدّم ذلك الشامي فضرب عنقه (رحمه الله).
ثمّ نزل الشامي إلى عبيد الله بن زياد وهو مدهوش، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ أقتلتَه؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! إلّا أنّه عرض لي عارض، فأنا له فزعٌ مرعوب. فقال: ما الّذي عرض لك؟ قال: رأيتُ ساعة قتلته رجلاً حذاي، أسود كثير السواد كريه المنظر وهو [عاض] على إصبعيه -- أو قال: شفتيه --، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع قطّ مثله. قال: فتبسّم [ابن] زياد وقال له: لعلّك دُهشت، وهذه عادة لم تعتدها قبل ذلك ((2)).
ص: 321
المسعودي: فأصعدوه إلى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهوى رأسه إلى الأرض، ثمّ أتبعوا رأسه جسده ((1)).
ثمّ دعا ابن زياد ببكير بن حمران الّذي ضرب عنق مسلم، فقال: أقتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبّر ويسبّح الله ويهلّل ويستغفر الله، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا ثم خذلونا وقتلونا، فقلت: الحمد لله الذي أقادني منك، وضربتُه ضربةً لم تعمل شيئاً، فقال لي: أوَ ما يكفيك! وفي خدشٍ منّي وفاء بدمك أيّها العبد؟ قال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت؟ قال: وضربتُه الثانية فقتلته، ثمّ أتبعنا رأسه جسده ((2)).
ابن حبان: ثمّ أمر عبيد الله بضرب رقبة مسلم بن عقيل، فضرب رقبة مسلم بن عقيل بكيرُ بن حمران الأحمري على طرف الجدار، فسقطت جثّته، ثمّ أتبع رأسه جسده ((3)).
أبو الفرج: فصعدوا به، وهو يستغفر الله ويصلّي على النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) وعلى أنبيائه ورسله وملائكته، وهو يقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكادونا وخذلونا.
ثمّ أشرفوا به على موضع الحذّائين، فضرب عنقه، ثمّ أتبع رأسه
ص: 322
جسده، صلّى الله عليه ورحمه ((1)).
المفيد والفتال: فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسوله ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وخذلونا. وأشرفوا على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه وأتبع جسده رأسه ((2)).
مسكويه: فصعد وهو يقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. وأشرف به على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه وأتبع جسده رأسه ((3)).
الطبرسي: وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره، ويصلّي على النبيّ وآله، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. وضرب عنقه وأتبع جسده رأسه ((4)).
الخوارزمي: قال: فأصعد مسلم إلى أعلى القصر، وهو يسبّح الله ويستغفره ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. حتّى أُتي به إلى أعلى القصر، فتقدّم ذلك الشامي وضرب عنقه، ثمّ نزل الشاميّ وهو مذعورٌ مدهوش، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ أقتلتَه؟ قال: نعم، إلّا إنّه عرض عارض، فأنا به مرعوب. قال: وما الّذي عرض؟ قال: رأيتُ ساعة
ص: 323
قتلته رجلاً بحذائي، أسود شديد السواد كريه المنظر، عاضاً على إصبعه -- أو قال: شفته --، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع مثله قطّ. فتبسّم ابن زياد وقال: دهشت من شيءٍ لم تعتده قبل ذلك ((1)).
ابن شهرآشوب: وكان مسلم يدعو الله ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. فقتله وهو على موضع الحذّائين ((2)).
ابن الأثير: فأُصعد مسلم فوق القصر، وهو يستغفر ويسبّح، وأشرف به على موضع الحذّائين، فضربت عنقه، وكان الّذي قتله بكير بن حمران الّذي ضربه مسلم، ثمّ أتبع رأسه جسده.
فلمّا نزل بكير قال له ابن زياد: ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يسبّح ويستغفر، فلمّا قتلته قلت له: ادنُ منّي، الحمد لله الّذي أمكن منك وأقادني منك، فضربته ضربةً لم تغن شيئاً، فقال: أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: وفخراً عند الموت! قال: ثمّ ضربته الثانية فقتلته ((3)).
ابن نما: فأُصعد على القصر، فضرب عنقه بكير بن حمران الأحمري، وألقى جسده إلى الناس ((4)).
ص: 324
سبط ابن الجوزي: فأمر به، فأُصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه، وألقي رأسه إلى الناس ...
ولمّا دخل ابن زياد الكوفة، طلب مسلم بن عقيل -- على ما قدمناه -- وقتله ((1)).
ابن طاووس: فصعد به وهو يسبّح الله تعالى ويستغفره ويصلّي على النبي (صلی الله علیه و آله) ، فضرب عنقه، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، رأيتُ ساعة قتلته رجلاً أسود سيّء الوجه حذائي عاضّاً على أصبعه -- أو قال: على شفته --، ففزعت منه فزعاً لم أفزعه قطّ. فقال ابن زياد (لعنه الله): لعلّك دهشت ((2)).
ابن طقطقي: فضربت عنقه فوق القصر، فهوى رأسه وأتبع جثّته رأسه ((3)).
النويري: ثم أمر به، فأُصعد فوق القصر، وهو يستغفر الله تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين، فضربت عنقه، وكان الّذي قتله بكير بن حمران، ثم أتبع رأسه جسده ((4)).
ابن كثير: ثمّ أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلا القصر، وهو يكبّر ويهلّل ويسبّح ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله، ويقول: اللّهمّ
ص: 325
احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.
ثم ضرب عنقه رجل يقال له بكير بن حمران، ثمّ ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده ((1)).
تاج الدين العاملي: فأمر به، فقتل، وألقي من أعلى القصر ((2)).
الطريحي: قال: ثمّ ألقي من أعلى القصر وعجّل الله بروحه إلى الجنّة ((3)).
أبو مخنف (المشهور): فلمّا صعد به، قال مسلم (علیه السلام) : دعني أُصلّي ركعتين، وافعَلْ ما بدا لك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل. ثمّ بكى مسلم (علیه السلام) ، وأنشأ يقول:
جزى الله عنّا قومنا شرّ ما جزى
شرار الموالي بل أعقّ وأظلما
همُ منعونا حقَّنا وتظاهروا
علينا وراموا أن نذلّ ونرغما
أغاروا علينا يسفكون دماءنا
ولم يرقبوا فينا ذماماً ولا دما
فنحن بنو المختار لا خلق مثلنا
نبيّ أبت أركانه أن تهدّما
فأقسم لولا جيشكم آل مذحج
وفرسانها والحرّ كان المقدّما
قال: فنادى ابن زياد (لعنه الله): يا ويلك، ألقِه. فرموه على أُمّ رأسه، فقضى نحبه ((4)).
ص: 326
السيّد المقرّم: فأصعده إلى أعلا القصر، وهو يسبّح الله ويهلّله ويكبّره، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا وكذبونا. وتوجّه نحو المدينة وسلّم على الحسين (علیه السلام) .
وأشرف به الشاميّ على موضع الحذّائين، وضرب عنقه ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ قال: رأيتُ ساعة قتله رجلاً أسود سيّء الوجه حذائي عاضاً على إصبعه، ففزعت منه، فقال ابن زياد: لعلّك دهشت ((1)).
ورد اسم بكر أو بكير بن حمران الأحمري في المصادر، وهو الّذي تجرّأ على المولى (علیه السلام) فضربه بالسيف على فمه فقطّع شفته العليا وأسرع في شفته السفلى فنصلت ثنيتا المولى الغريب (علیه السلام) ، وقد أتينا على تفصيل هذه الضربة وصفتها خلال بحثنا عن (الحرب الأخيرة).
واختلاف المصادر في الاسم الأوّل (بكر) أو (بكير) لا يضرّ؛ لقوّة احتمال التصحيف الّذي يكاد يورث الاطمئنان.
فلا خلاف في المصادر -- حسب فحصنا -- في الضربة وصفتها والضارب (عليه لعنة الله).لكنّ المصادر اختلفت في التصريح بقتله، منها ما اكتفى بذكر أنّ البطل
ص: 327
الهاشمي (علیه السلام) قد ردّ على ضربته بضربتين قاصمتين مؤثّرتين بليغتين:
قال البلاذري: فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم، فقطع شفته العليا وأسرع في شفته السفلى فنصلت ثنيّتاه، وضرب بكيراً ضربةً على رأسه، وأُخرى على حبل عاتقه ((1)).
لا يهمّنا كثيراً اجتناب البلاذري وصف الضربتين، لأنّ تفصيل ذلك قد ورد في غيره من المصادر من جهة، ولأنّنا نعرف ضربات آل أبي طالب من جهة أُخرى.
اقتصر هذا القسم من المصادر على ذكر ردّ المولى (علیه السلام) بضربتين قاصمتين نزلت عليه كالبرق الخاطف، أصابت إحداهما رأسه العفن وغاصت الأُخرى في عاتقه، فعبّروا عن ضربة الرأس أنّها منكرة، وعن ضربة العاتق كادت تطلع على جوفه، أو تصل جوفه.. من دون التصريح بقتله.
قال الطبريّ وابن كثير: فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمريضربتين، فضرب بكير فم مسلم، فقطع شفته العليا وأشرع السيف في السفلى ونصلت لها ثنيّتاه، فضربه مسلم ضربةً في رأسه منكرة، وثنّى بأُخرى على
ص: 328
حبل العاتق كادت تطلع على جوفه ((1)).
وقال ابن الأثير والنويري: وضرب بكير ((2)) بن حمران الأحمري فم مسلم، فقطع شفته العليا وسقط ثنيّتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنّى بأُخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه ((3)).
وقال المسعودي: واختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين: فضرب بكير فم مسلم، فقطع السيف شفته العليا وشرع في السفلى، وضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه، ثمّ ضربة أُخرى على حبل العاتق فكاد يصل إلى جوفه ((4)).
وقال المفيد والمجلسيّ والفتال: فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري، فضرب بكر فم مسلم، فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيّتاه، وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة، وثنّاه بأُخرى على حبل عاتقه كادت تطلع على جوفه ((5)).الطبرسي: واختلف هو وبكر بن حمران الأحمري، فضرب بكر فم مسلم، فقطع شفته العليا وأسرع في السفلى، وضربه مسلم على رأسه ضربةً منكرة،
ص: 329
وثنّى بأُخرى على حبل العاتق ((1)).
يلاحَظ تقارب عبارات هذا القسم من المؤرّخين واتّفاقهم على توصيف الضربتين، وإنّما ذكرنا الشيخ الطبرسي في هذا القسم باعتباره وصف الضربة الأُولى بالمنكرة، وقال: وثنّى بأُخرى، ممّا يشعر اتصافها بنفس الصفة.
صرّحت قسمٌ من المصادر بهلاك اللّعين وقتله بسيف البطل الطالبي (علیه السلام) على أثر ضربة، وفي لفظ بعضهم: بلغت جوفه، وفي لفظ (المقتل) المشهور: على أُمّ رأسه.
قال ابن أعثم: فقصده من أهل الكوفة رجلٌ يقال له بكير بن حمران الأحمري، فاختلفا بضربتين، فضربه بكير ضربةً على شفته العليا، وضربه مسلم بن عقيل ضربةً فسقط إلى الأرض قتيلاً ((2)).
وقال الخوارزمي: وقصده رجلٌ من أهل الكوفة يقال له بكير بنحمران الأحمري، فاختلفا بضربتين، ضربه بكير على شفته العليا، وضربه مسلم، فبلغت الضربة جوفه فأسقطه قتيلاً ((3)).
وقال ابن شهر آشوب والمجلسي: فضربه بكير بن حمران الأحمري على
ص: 330
شفته العليا، وضربه مسلم في جوفه فقتله ((1)).
وفي (مقتل الحسين) لأبي مخنف (المشهور): فاختلف هو وبكر بن حمران بضربتين، فعاجله مسلم، فضربه على أُمّ رأسه فقتله ((2)).
* * * * *
يتّضح ممّا سبق من التقسيم أنّ ابن أعثم والخوارزميّ وابن شهرآشوب والمجلسي في إحدى رواياته و(المقتل) المشهور لأبي مخنف تصرّح بقتل هذا الوغد، وباقي المصادر الّتي ذكرناها قبل قليل تصرّح بأنّه أُصيب إصاباتٍ بليغة منكرة في رأسه وعاتقه كادت تطلع على جوفه أو تصل إلى جوفه..
وربّما نقل الراوي في القسم الثاني ما شاهده من الضربة، ولم ينقل أكثر من ذلك لعدم مشاهدته، أو تركها مبهمة خوفاً من تعارضها مع ما سيروى من إيكال قتل المولى الغريب (علیه السلام) إليه..فربما يستبعد أن يكون بكر أو بكير بن حمران هو الّذي باشر قتل المولى الغريب (علیه السلام) لعدّة أسباب:
إنّ المصادر الّتي نصّت على قتله وهلاكه بسيف الحسين المسلول مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لها ثقلها ووزنها وقدمها في مقابل تلك الّتي لم تصرّح بقتله، من قبيل ابن أعثم والخوارزمي وابن شهرآشوب.
ص: 331
إنّ مَن يصاب بتلك الضربات المهلكة على الرأس والعاتق يكاد لا يصدّق أنّه يقوى على حمل سيفٍ ليضرب به عنق رجل فضلاً عن بطلٍ مثل مسلم بن عقيل (علیه السلام) !
إنّ بعض المصادر لم تصرّح أنّ الّذي دعاه ابن زياد إنّما هو بكر أو بكير ابن حمران، وإنّما ذكرته بالصفة، كما ورد في (تاريخ الطبري): ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدُعي، فقال: اصعد، فكن أنت الّذي تضرب عنقه ((1)).
وبعضها ذكرته بالصفة، ثم طبق المؤلّف على الأحمري، كما فعل أبوالفرج، قال: ثمّ قال: ادعوا الّذي ضربه ابن عقيل على رأسه وعاتقه بالسيف، فجاءه، فقال: اصعد، وكن أنت الّذي تضرب عنقه. وهو بكير بن حمران الأحمري ((2)) (لعنه الله).
لكنّ جماعةً -- منهم المسعودي والمفيد والفتال والطبرسي وابن طاووس -- نقلوا أنّ ابن زياد دعا الأحمريّ أو دُعي له بعد أن ذكره بالصفة:
قال المسعودي: فأُصعد إلى أعلى القصر، ثمّ دعا الأحمري الّذي ضربه
ص: 332
مسلم، فقال: كن أنت الّذي تضرب عنقه لتأخذ بثأرك من ضربته ((1)).
وقال المفيد والفتال والطبرسي: فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدُعي بكر بن حمران الأحمري، فقال له: اصعد، فلتكن أنت الذي تضرب عنقه ((2)).
وقال ابن طاووس: فأمر ابن زياد بكر بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله ((3)).
لقد صرّح ابن أعثم والخوارزمي أنّ المدعوّ هو غير الأحمري، وإنّما هو رجلٌ من الشام كان قد أُصيب بضربة منكرة على رأسه من سيف البطل الهاشمي (علیه السلام) .
قال ابن أعثم والخوارزمي -- واللّفظ للأوّل -- : قال: فأدخله ابن زياد القصر، ثمّ دعا رجلاً من أهل الشام قد كان مسلم بن عقيل ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خُذْ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك، ليكون ذلك أشفى لصدرك ((4)).
وقال ابن فندق: قتله راشد بن
صرد بن عتبة، وقيل: قتله ابن حمران
ص: 333
الأحمري ((1)).
يلاحَظ أنّ ابن فندق كأنّه اعتمد القول الأوّل ونسب الثاني إلى القيل.
* * * * *
كيف كان، فإنّ الخبيث اللّعين بكر أو بكير الأحمري إمّا أن يكون هو المباشِر في قتل المولى الغريب (علیه السلام) أو شريك بدورٍ فاعلٍ في دمه، فلعنة الله عليه وعلى مَن أمره بذلك ومن يسّر له سبيل ذلك من الأوّلين.
وقد وقعت المصيبة الّتي أفجعت قلوب المؤمنين منذ ذلك اليوم إلى قيام يوم الدين بمقتل أخي الحسين (علیه السلام) وعلامة المؤمنين بالحزن وإجراءالدمع من العين عليه، فليكن الأحمري أو الشامي هو المباشر، وإنّما استطردنا في تفصيل ذلك لأنّ المُراجِع للتاريخ تلوح له إشارات التعارض بين النصوص المصرّحة بقتل الأحمري بسيف البطل الهاشمي (علیه السلام) في الحرب الأخيرة والنصوص المصرّحة بمباشرته قتل المولى الغريب (علیه السلام) بأمر ابن زياد (لعنه الله).
دافع مشترك
سواء كان القاتل الأحمري أو الشامي، فإنّ الدافع لدعوتهما واحد عند ابن الأمة الفاجرة، وهو ما لوّحت به النصوص وصرّح به ابن أعثم والخوارزمي على لسان الطاغوت الرجس ابن زياد: «فقال له: خُذْ مسلماً
ص: 334
واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك، ليكون ذلك أشفى لصدرك» ((1)).
التشفّي.. اختار موتوراً تغلي مراجل الحقد في أعماقه، وتلسعه نيران الضغينة والعداوة، ويشبّ فيه لهيب البغضاء والشماتة.. وهو أيضاً أشفى لصدر الدعيّ ابن الدعي أن يباشر القتل مَن يحمل شيئاً من مشاعره في التشفّي والانتقام.. فقد أخزاهم وفضحهم وأوجعهم وقتل صناديدهم أخو الحسين وسفيره (علیه السلام) !
قال البلاذري: أشرف به على موضع الحذّائين ((2)).
وقال الدينوري: فرقي به إلى ظهر القصر، فأشرف به على الناس وهم على باب القصر ممّا يلي الرحبة، حتّى إذا رأوه ضُربَت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أتبع الرأس بالجسد ((3)).
وقال الطبري: فصعد به ... وأشرف به على موضع الجزّارين اليوم ((4)).
وقال ابن أعثم والخوارزمي وسبط ابن الجوزي وابن كثير: فأصعد
ص: 335
مسلم بن عقيل إلى أعلى القصر ((1)).
وقال ابن حبان: فضرب رقبة مسلم.. على طرف الجدار ((2)).
وقال أبو الفرج وابن الأثير: فصعدوا به.. ثمّ أشرفوا به على موضعالحذّائين ((3)).
وقال المفيد والفتال: فصعد به.. وأشرفوا على موضع الحذّائين اليوم ((4)).
وقال مسكويه: فصعد.. وأشرف به على موضع الحذّائين اليوم ((5)).
وقال ابن شهرآشوب: فقتله وهو على موضع الحذّائين ((6)).
وقال النويري: فأصعد فوق القصر.. وأشرف به على موضع الحدّادين ((7)).
* * * *
ص: 336
يلاحَظ أنّ المصادر كلّها اتفقت بلا خلافٍ على أنّ القتل كان أعلى القصر أو فوق القصر.
أمّا الجهة الّتي كان يشرف عليها من أعلى القصر والموضع الّذي كان يقابله، فقد وردت في المصادر أربع تسميات له:
الأوّل: موضع الحذّائين.
الثاني: ممّا يلي الرحبة.الثالث: الجزّارين.
الرابع: الحدّادين.
وربما أمكن الجمع بينها أو استكشافها من خلال بعض الاحتمالات:
يلاحَظ أنّ (الحذّائين) و(الحدّادين) و(الجزّارين) كلمات متشابهة من حيث الرسم قريبة جدّاً من بعضها، وهو احتمالٌ وارد، فيبقى الجمع بينها جميعاً كموضع واحد ذُكر بتسمياتٍ مختلفة تصحيفاً، وبين قول الدينوري: «ممّا يلي الرحبة»، وسيأتي بيانه قريباً إن شاء الله تعالى.
ربما تكون هذه المواضع جميعاً متقاربة، إذ هي أسواق تحاذي بعضها بعضاً وتنتهي جميعاً بالرحبة، فنقل كلّ راوٍ لمؤرّخه الموضع الّذي رصد منه الحدث، وهي جميعاً في جهة واحدة.
ص: 337
وبهذا تجتمع الأقوال جميعاً بما فيها قول الدينوري وتشير إلى موضع واحد، سيّما إذا لا حظنا أنّ المصيبة وقعت في أعلى القصر، فالجميع يمكن أن يراها على حدّ سواء ما داموا من جهةٍ واحدة.
يلاحَظ أنّ الطبري عبّر بقوله: «موضع الجزّارين اليوم»، وعبّر الشيخالمفيد والفتال ومسكويه: «موضع الحذّائين اليوم»، وأطلق النويري: «الحدّادين»، كما أطلق البلاذري وجماعة: «الحذّائين»، فربما كان كلٌّ يحدّد الموضع حسب ما كان في زمانه، وربما اختلفت المواقع والمواضع من عصرٍ إلى آخر، فكان نفس الموضع في زمن وقوع المصيبة، أو في زمن البلاذري يقال له: موضع الحذّائين، وتغيّر في زمن الطبري، فنفس الموقع الّذي كان فيه الحذاؤون سابقاً صار للجزّارين في زمن الطبري، وللحدّادين في زمن النويري مثلاً.
اتّفقت المصادر -- كما ذكرنا قبل قليل -- على أنّ الرجس الخبيث أمر أن يصعدوا بالمولى الغريب (علیه السلام) إلى أعلى القصر ليقتل ثمّ، فلماذا لم يقتله في القصر وأصرّ على أن يقتَل فوق القصر؟!
ربما يكون ذلك لغرضٍ من الأغراض التالية، أو لها جمعياً ولغيرها:
ص: 338
كان الخبيث في موقع يحتاج فيه إلى نشر الرعب بين الناس وتخويفهم وترهيبهم واستخفافهم ليطيعوه، وفي نفس الوقت يريد أن يورث اليأس في قلوب مَن كان لا يزال يتعلّق قلبه بسلامة المولى الغريب (علیه السلام) .
وربما أشار إلى ذلك نصّ الدينوري: «فأشرف به على الناس وهم علىباب القصر ممّا يلي الرحبة، حتّى إذا رأوه ضُربَت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أتبع الرأس بالجسد». حيث أكّد على إنّه أشرف به على الناس.. «حتّى إذا رأوه ضربت عنقه».. فكأنّ الإشراف به كان لغرض أن يراه الناس.
وكذا في تعبير سبط ابن الجوزي: «فأصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه وأُلقي رأسه إلى الناس» ((1)).. ما قد يفيد ذلك.
وكذا ما قاله الحائري المازندراني: ثمّ أُدخل على ابن زياد، وقد اجتمع الناس حول دار الإمارة، فمنهم من يقول بأنّ مسلماً مقتولٌ لا محالة، ومنهم من يقول بأنّه يساق إلى الشام، ومنهم من يقول بأنّه يحبس حتّى يأتي الخبر من يزيد في أمره، فبينما هم كذلك إذا بجثّته الشريفة قد أُلقيت من أعلى القصر بلا رأس، ثمّ أتبع برأسه الشريف ((2)).
ص: 339
المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) مجمع الفضائل، وكتلة وضّاءة، ومنبع نيّر من المقدّسات، وموطن مقدّس للحرمات، فهو مَن قد عرفه الناس نسباً وحسباً وسلوكاً ومنبتاً وشهامةً وشجاعةً وتقوىً وورعاً وإيماناً ويقيناًوعبادةً وزهادة..
تحوطه المقدّسات والحرمات من كلّ جوانبه؛ فهو من سلالة إبراهيم الخليل، وعترة النبيّ الخاتم وسيّد الأنبياء والمرسلين (صلی الله علیه و آله) ، وحفيد أبي طالب (علیه السلام) ، وابن عمّ أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين (علیه السلام) ، وربيب البيوت الّتي أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه، وأخو سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وسفير خامس أصحاب الكساء الإمام الحسين (علیه السلام) ..
تحفّه حرمة بيت الرسول، وتجلّله ظِلال الكساء الملقى على أصحاب الكساء.. وقد دأب القوم على هتك حرمات الله، والتعدّي على حرمات الرسول (صلی الله علیه و آله) ، ليعلم الناس أن لا مقدَّس عند قرود الشجرة الملعونة في القرآن، فيخاف الناسُ من جهة، ويتجرؤوا على هتك الحرمات من جهةٍ أُخرى..
وفي قتل المولى الغريب (علیه السلام) إعدادٌ للنفوس على مشاهدة الرذيلة والتمرّس عليها والتحفّز لها، لتفرغ القلوب الخاوية، وتستعدّ لمواجهة سيّد الشهداء (علیه السلام) والخروج عليه بوقاحةٍ وصلف زائدَين.
ص: 340
ربما كان إصعاده إلى أعلى القصر فيه ما يحقّق لحقده وغيضه من التشفّي والتشهير والانتقام والإمعان في أذى المولى (علیه السلام) وتعذيبه، وقد سمعناه حينما دعا الأحمري يقول له: «خُذ مسلماً، واصعد به إلى أعلىالقصر واضرب عنقه بيدك، ليكون ذلك أشفى لصدرك» ((1))، وهو أشفى لصدره الوغر، كما قلنا تحت عنوان (دافع مشترك).
سمعنا قبل قليل أنّ ابن الأمة الفاجرة قد هدّد بقتلةٍ لم يُقتَل بها أحدٌ في الإسلام، فربما كان ما فعله ليتفرّد بنوع القتلة بأن يُقتَل صبراً ويُلقى من شاهقٍ أمام عيون الملأ وعلى رؤوس الأشهاد.
وقال المسعودي: كان يكبّر ويسبّح الله ويهلّل ويستغفر الله، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا ثمّ خذلونا وقتلونا ((1)).وقال أبو الفرج: فصعدوا به وهو يستغفر الله ويصلّي على النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) وعلى أنبيائه ورسله وملائكته، وهو يقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكادونا وخذلونا ((2)).
وقال المفيد والفتال ومسكويه: فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسوله، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وخذلونا ((3)).
وقال الطبرسي: وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره ويصلّي على النبيّ وآله، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا ((4)).
وفي (المقتل) المشهور: فلمّا صعدوا به قال مسلم: دعني أصلّي ركعتين وافعَلْ ما بدا لك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل ((5)).
اقتصرنا على ذكر نماذج ممّا ورد في المصادر ولم نُحصِها جميعاً، وذلك
ص: 342
لأنّنا ذكرناها قبل قليل من جهة، ولتقارب النصوص أو اتّفاقها من جهةٍ أُخرى، ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الملاحظات:
إنّ مَن يعيش في رحاب هذا المولى العظيم والعبد المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) ، ويسايره خلال فترة تشرّف الكوفة بأقدامه المباركة، يقف بين يديه خاضعاً مخبتاً معجباً متعجّباً، بل ربما يصاب بذهول، ويؤخَذ بمجامع قلبه، ويختطف البصر والحواسّ والجوانح فيشدّها إلى نموذج يعزّ له النظير في غير الأنبياء والأوصياء..
رجلٌ لا تزايله السكينة والوقار طرفة عين أبداً.. ثابت الجنان، مطمئنّ القلب بذكر الله في كلّ خطوةٍ وفي كلّ موطن وموقف! حينما يكون الناس حوله.. حينما يخذلونه ويبقى وحده.. حينما يحارب ويقارع الصناديد ويواجه أنواع الأسلحة وشتّى الأساليب الحربيّة والقتالية وحده.. حينما يُصرَع إلى الأرض بعد أن أُثخن بالجراح.. حينما يكضّه العطش ويفتّت كبده الظمأ.. حينما يؤخذ أسيراً.. حينما ابتُلي بوقوفه في مجلس الطاغية الرعديد مكتوفاً، وجرّت عليه الدواهي أن يصبر ل- (لؤم الغلبة).. والآن وقد صعدوا به إلى أعلى القصر ليُقتَل صبراً! مكتوف الأيدي.. ينظر إلى السيف
ص: 343
بيد لئيمٍ حقير..
وهو مع ذلك لا زال مطمئنّ القلب بذكر الله، يسبّح الله ويكبّره ويستغفره.. لا يغفل عن ذكر الله!
عجباً والله لمن يقبل في مولاي حكايات التاريخ الّتي تنمّ عن شيءٍ لايعرفه العبد الصالح أبداً.. حكايات تحكي ما يخالف السكينة والوقار والاطمئنان والثبات والعزيمة على لقاء الله والفوز بالشهادة في محبّة الحسين (علیه السلام) !!
ذكر بعضهم أنّه كان يصلّي على أنبياء الله ورسله وملائكته، أو أنّه «يصلّي على رسوله» كما في عبارة الشيخ المفيد والفتال، واكتفوا بهذا المقدار من ذكر الصلوات، بيد أنّ الطبرسي قال: «ويصلّي على النبيّ وآله»، وهذا هو الصحيح، لأنّ الفقيه العالم مسلم بن عقيل (علیهما السلام) لا يصلّي على النبيّ (صلی الله علیه و آله) الصلاة البتراء الّتي نهى عنها النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
إلّا أن تحمل عبارة الشيخ المفيد والفتال «يصلّي على رسوله» على الاختصار، وكذا عبارة أبي الفرج: «ويصلّي على النبيّ محمّد وعلى أنبيائه ورسله وملائكته»، وهو اختصارٌ مخلّ في مثل هذه المواضع، خصوصاً في لفظ أبي الفرج الّذي ذكر الجميع إلّا الآل.
أمّا عبارة مثل الطبري: «يصلّي على ملائكة الله ورسله»، ولم يذكر
ص: 344
حتّى النبيّ محمّداً (صلی الله علیه و آله) ، ففيها نقصٌ واضح وتعمية تستدعي التأمّل!
ورد في لفظ الطبري -- ولم نجده عند غيره حسب فحصنا -- قولُه فيالدعاء: «وأذلّونا»، ويبدو وفق المصادر الأُخرى أنّه تصحيف، إذ أنّ الجميع روى: «خذلونا»، ولم يذكرها الطبري.
ربما يكون تكبير المولى (علیه السلام) ليُفهِم هؤلاء الطغاة العتاة المردة، والوجودات المشوّهة الّتي مسخها الغرور والتكبّر والتجبّر والطغيان والعتو على ربّ الأرباب، أنّ الله أكبر وأعزّ، وهو المنتقم الجبّار الّذي لا يفوته هارب ولا يُعجِزه غالبٌ لئيم.
وهو يسبّح الله وينزّهه؛ ليعلن عن رضاه بقضاء الله وقدره، ويُنبئ عن تسليمه للحكم العدل الّذي لا يجور، وهو من أهل بيت موكل بهم البلاء..
وهو يستغفر الله، وقد كان النبيّ (صلی الله علیه و آله) يستغفر من دون ذنبٍ ارتكبه، وها هو مسلم (علیه السلام) العبد الصالح المطيع لا يريد أن يُخرج نفسه من حدّ التقصير مع ربّه ومع إمامه الّذي يريد أن يُقتَل في محبّته، وهذا هو رسم العبوديّة الحقّة.
وهو يصلّي على النبيّ وآله؛ لأنّها الذكر الأعظم الّذي لا ترقى إليه الأذكار، وهو يتضمّن العقائد الحقّة كلّها، وبه يسهل الصعب ويتيسّر
ص: 345
العسير، ويقرّب العبد أيما تقريب من الله ورسوله والأئمّة الميامين (علیهم السلام) .
وهو بعد ذلك كلّه يستشعر اقتراب لحظة اللقاء بالله، فيُقبِل عليه حامداًممجِّداً مسبّحاً مكبّراً.. ويستشعر قرب اللقاء بالأحبّة، محمّدٍ (صلی الله علیه و آله) وحزبه، فيُقبِل عليهم بالصلاة والسلام عليهم..
ولم نجد أحداً يذكر أنّه استرجع، وهو ذكرٌ يكثر الالتجاء إليه عند المصيبة، فربما كان ذلك لئلّا يفسَّر وقتئذٍ أو فيما بعد أنّ البطل الهاشمي (علیه السلام) قد جزع -- والعياذ بالله -- من الموت، وهو الّذي أقسم لا يقتل إلّا حرّاً.. والله العالم!
دعا المولى الغريب (علیه السلام) عند قتله بدعوة على أقوام بأعيانهم وصفاتهم، وجعل الله حكماً بينه وبينهم!
حقّاً إنّ التعبير المرويّ عن المولى الغريب (علیه السلام) مذهلٌ ومدهش في الدقّة.. «احكم بيننا وبين قوم..»، نسمع ضمير الجمع في حديثه عن نفسه.. ليس المولى (علیه السلام) ممّن يستعمل ضمير الجمع لتعظيم نفسه، وإنّما هو يخبر عن شيءٍ آخر؛ إنّه ضميرٌ يعود إلى الجماعة.. ليس هو وحده الّذي قُتِل؛ قَتل هؤلاء الطغاة قبله من آل البيت (علیهم السلام) منذ يوم رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، بل يوم حمزة أسد الله وأسد رسوله، ويوم المحسن الشهيد، ويوم الصدّيقة الشهيدة (علیها السلام) ، ثمّ أمير المؤمنين والحسن المجتبى (علیهما السلام) ، ومَن قتل بين كلّ
ص: 346
شهادةٍ وشهادة، وقبل ذلك، وما سيأتي بعد أيّام حيث سيقتل سيّدالشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وصحبه.. اللّهم احكم بيننا!
ويمكن أن يكون إشارة إلى ما سيقع بعد أيام، بقرينة الصفات الّتي نعت بها هؤلاء القوم:
قوم غرّونا..
قوم كذبونا..
قوم خذلونا..
قوم قتلونا..
قوم كادونا..
قوم هذه صفاتهم: غرّونا.. وكذبونا.. وخذلونا.. وقتلونا.. وكادونا.. وهي مجموع الصفات الواردة في المصادر، وإن كان بعضهم اقتصر على بعضها.
فبهذه القرينة هو يدعو على قوم بأعيانهم، وهم الّذين باشروا هذه الرذائل وفعلوا جميع تلك الأفاعيل مع مسلم بن عقيل (علیه السلام) ومع سيّد الشهداء (علیه السلام) وأهل بيته وصحبه الأبرار.
دعا الله أن يحكم بينهم وهو خير الحاكمين، وقد انتقم الله من هؤلاء الأوغاد بسيوف آل أبي طالب (علیهم السلام) في طفّ كربلاء، وأرسل عليهم غلام ثقيف سقاهم كأساً مصبّرة، ولحقهم بلعنته ولعنة الملائكة والناس أجمعين إلى أبد الآبدين، وسينتقم لدمه الزاكي المقدّس بسيف المنتقم الأعظم ووليّ
ص: 347
الدم صاحب الأمر والزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ، ولَعذاب الآخرة أشدّ وأخزى!
وقد دعا بنفس هذا الدعاء ولداه الصغيران المظلومان الذبيحان على شاطئ الفرات: «اللّهمّ احكم بيننا وبين من قتلنا..».
كما ارتجز ابنُه عبدُ الله في الطفّ بنفس القافية والروي والوزن والكلمات..
في (المقتل) المشهور لأبي مخنف: فلمّا صعدوا به قال مسلم (علیه السلام) : دعني أًُصلّي ركعتين وافعل ما بدا لك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل ((1)).
لا نريد أن نقف هنا طويلاً بين يدي المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) وهو في ساعته الأخيرة، بيد أنّ صلاة ركعتين ما كانت لتؤخِّر قتله، فلماذا امتنع الخبيث الرجس من القبول؟! فالمولى (علیه السلام) يريد أن يختم حياته في هذه الدنيا بلقاء الله والوقوف بين يديه قبل أن يلقاه في الآخرة بعد لحظات، ويريد أن يناجي ربّه، فلعلّ الخبيث النجس خاف أن يدعو عليه في الركعتين ويعجّل الله نقمته..
قال السيّد المقرّم (رحمة الله) -- وهو يروي شهادة المولى الغريب مسلمبن
ص: 348
عقيل (علیهما السلام) بعد أن ذكر أنّهم أصعدوه إلى أعلا القصر -- : وتوجّه نحو المدينة وسلّم على الحسين ((1)).
وهكذا هو أدب السلام على سيّد الشهداء (علیه السلام) من بُعد، فقد ورد في الأحاديث في كيفيّة زيارته (علیه السلام) لمن نأت داره وبعدت شُقّته أن يصعد على السطح أو على مرتفع فيسلّم على أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ((2))، فربّما كان
ص: 349
ص: 350
المولى العارف المقتول في محبّة الحسين (علیه السلام) هو أوّل من زار سيّد الشهداء (علیه السلام) من مرتفع!
روى الطريحي أبياتاً أنشدها المولى الغريب (علیه السلام) عندما أمر اللّعين أن يصعد به إلى أعلى القصر، وقال: فعند ذلك بكى مسلم على فراق الحسين (علیه السلام) ، والظاهر أنّه اعتمد على (المقتل) المشهور رغم ما فيه من بعض الاختلاف اليسير في ألفاظ الأبيات، وربما يرجع ذلك إلى اختلاف
ص: 351
النسخ.
وقد أشار الطريحيّ إلى أنّ المولى (علیه السلام) أنشد الأبيات عندما أمر أن يُصعَد به، وفي نسخة المطبوع: أنشدها بعد أن استمهل لصلاة ركعتين فأبى اللّعين ذلك، ولذلك ذكرنا ما رواه الطريحي في موضع قبل هذا عند الكلام عن (الأمر بالقتل).
وكيف كان! فقد صرّح الطريحي -- وهو كما ذكرنا ينقل عن (المقتل) المشهور كما يبدو -- أنّ سبب بكاء المولى الغريب (علیه السلام) إنّما كان على فراق الحسين (علیه السلام) ، وهذا هو دأب المولى (علیه السلام) طيلة فترة سفره إلى الكوفة..
فقد بكى عند وداع الحسين (علیه السلام) في مكّة، وبكى عندما احتوشته الذئاب وابتُلي بقوم لئام وتجرّع «لؤم الغلبة»، وهو الآن يبكي لفراق سيّد الشهداء (علیه السلام) .. صدق رسول الله (صلی الله علیه و آله) -- ومَن أصدق منه قيلاً؟ -- حينما قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) في حديثٍ علّل فيه حبّه لعقيل: «وإنّ ولده لمقتولٌ في محبّة ولدك» ((1)).
قال أبو مخنف: ثمّ بكى مسلم (علیه السلام) ، وأنشأ يقول: ... (الأبيات) ((2)).
ثمّة جملةٌ من العناوين الّتي تحيط بلحظات الشهادة أو تليها مباشرة،
ص: 352
ويمكن من خلالها استكمال الصورة:
ذكرنا تحت عنوان (الأمر بالقتل) أنّ الصورة المروّعة المهولة الّتي تخلع القلوب عن مستقرّها، وتشتّت الذهن حتّى الذهول، الّتي رواها الطريحي عن (مقتل) أبي مخنف المشهور كما يبدو، هي أقرب إلى تهديد ابن الأمة الفاجرة.. والحال أنّ المصادر الأُخرى تكاد تتّفق أنّ الخبيث قد أمر بضرب عنقه أوّلاً وإلقاء الرأس والجثمان المقدّس إلى الأرض.
وكيف كان، فإنّنا نشعر أنّ صوراً مقزّزة ومفجعة ومروّعة أخفاها التاريخ، إذ إنّ تهديد ابن زياد كان ينصّ -- كما في نفس تلك المصادر -- على أن يقتله قتلةً لم يكن لها مثيل في الإسلام، وأنّها شرّ قتلة.. فلابدّ أن تكون المصيبة أعظم ممّا نقله لنا التاريخ، فلهفي على المولى الغريب (علیه السلام) وحرّ قلبي!!
تفرّد كتاب (المقتل) لأبي مخنف بذكر عبارة تفيد حضور ابن زياد عند إلقاء المولى الغريب (علیه السلام) من أعلى القصر، حيث يقول بعد أن يسرد الصعود به (علیه السلام) وما جرى بين القاتل وبينه من كلام وإنشاده (علیه السلام) الأبيات: فنادى ابن زياد (لعنه الله): يا ويلك ألقه. فرموه على أُمّ رأسه، فقضى نحبه.
ص: 353
التتمّة الثالثة: لم يُقتَل بأوّل ضربة
ذكر الطبري -- وهو يروي ما حكاه القاتل لابن زياد (لعنهما الله) -- أنّه قال: فضربتُه ضربةً لم تُغنِ شيئاً ... ثم ضربتُه الثانية فقتلتُه ((1)). وكذا قال المسعودي ((2)) وابن الأثير ((3)).
كان المولى الغريب (علیه السلام) قد أذبل العطش بدنه، وجفّف عروقه، وفتّت كبده، وقد أثخنته الجراح، وجسمه ينزف دماً من هامته حتّى قدميه، ورغم ذلك لم يتمكّن الرجس الخبيث من قتله بضربةٍ واحدة.. فما أصلب البطل الهاشميّ وأقواه، وما أضعف القاتل الّذي أقدم على أسدٍ مكتوفٍ جريح نازف إقدامَ الجبان الرعديد المرتجف الخائف الخائر القوى العاجز عن التركيز، ساهم الفكر، مشتّت القلب، مرتعش اليد.. ولا زال سيف الحسين (علیه السلام) الممشوق واقفاً متماسكاً صلباً مستجمع القوى، يصدّ الضربة بعنقه وينفّر السيف بجلده!
روى الطبريّ والمسعودي وابن الأثير وغيرهم أنّ الجرذ الخائر أراد أن يشمت بالمولى الغريب (علیه السلام) ، فقال له: اُدنُ منّي، الحمد لله الّذي أمكن منك وأقادني منك!! وظنّها تمرّ وأنّ المولى (علیه السلام) يواجه القتل.. وكأنّه نسي
ص: 354
رجَز المولى (علیه السلام) وقسمه أن لا يُقتَل إلّا حرّاً، وأنّ القتل في محبّة الحسين (علیه السلام) وعدٌ ينتظره غريب كوفان، وأنّه عنده أحلى من العسل..
وأقسم بالله يميناً برّةً أنّ سكينة المولى مسلم بن عقيل (علیه السلام) واطمئنانه وثباته وصلابته في محبّة الحسين يعزّ لها النظير، وتذهل العاقل اللبيب.. إذ لم يفوّت للدعيّ كلمته تلك وردّها بالفور ردّاً قاصماً مزلزلاً مدمّراً مهلكاً شامخاً بالفخر والتعالي على الأراذل بالتحقير والإهانة والإذلال لهم، كما سنسمع بعد قليل.
إنّه الإباء الطالبي.. ردّ به حفيد أبي طالب وسليل إبراهيم الخليل (علیه السلام) على كلّ كلمةٍ تجرّأ بها عدوُّه ابن زياد، فما قدرُ القاتل الوضيع الضئيل المتهالك؟!
روى الطبريّ والمسعودي وابن الأثير أنّ القاتل الدعيّ حدّث ابن زياد بما سمعه من البطل الهاشمي (علیه السلام) عندما أقدم على قتله، فلم تُغنِ الضربة الأُولى، فقال المولى الأبي (علیه السلام) : أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاءاً من دمك أيّها العبد!
وفي لفظ المسعودي: أوَ ما يكفيك! وفي خدشٍ منّي وفاء بدمك أيّها العبد!
ما أعظمك يا سيّدي وحبيبي مسلم! ما أعظمك! ما أعظم عزيمتك
ص: 355
وثباتك وسكينتك ووقارك ورباطة جأشك؟! ما أعظم إباءك؟! ما أسمى شموخك وأسمق قمتك!
إنّه مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ! يتعامل بهذا الهدوء والسكينة والوقار.. ضربه العبد ضربةً كان يظنّ أنّه سيقتل بها مسلماً (علیه السلام) ويفصل بها رأسه عن جسده.. يلزم إنّه قد وضع فيها كلّ قوّته، وجمع فيها شتات نفسه.. والمولى مسلم (علیه السلام) يسمّيها «خدشاً»! والخدش هو تفرّق في الجلد أو الظفر أو مزق في الجلد وإن لم يُدمِ ((1))، يعني أقلّ ما يسمّى جرحاً!
في ساعة الموت يهجم الضرغام الجريح على عدوّه فيهزمه ويفرغ قلبه وينخر أعماقه، يحتقره ويهينه ويذلّه، ويتركه جذعاً منخوباً خاوياً متهرّءاً..
لقد كانت ضربتا المولى (علیه السلام) مؤثّرة كادت تبلغ جوف الخبيث.. ضربات فاعلة في منطقتين حساستين لا تخطئ في القضاء عليه؛ ضربة على رأسه والأُخرى على عاتقه.. فهو ميّت منهما وهو لما به.. وقد أخبره بذلك مسلم بن عقيل (علیه السلام) حينما قال له: «وفاءاً من دمك»، فهو ميت عمّا قريب، وضربة المولى (علیه السلام) ستأتي عليه، فليكن هذا الخدش! مقابل دمه العفن!
وقد ردّ المولى (علیه السلام) عليه قولته قبل قليل: «الحمد لله الذي أقادني منك»، فإن كان الرعديد يريد قوداً ففي الخدش وفاءٌ وزيادة، «أوَ ما يكفيك وفي خدش منّي وفاء بدمك؟».. فهو يخبره أنّه هالك من ضربة
ص: 356
البطل الهاشمي (علیه السلام) ..
ثمّ أمعن المولى العزيز الأبيّ (علیه السلام) في تحقير الذليل الوضيع، وحدّ له حدّه، فخاطبه قائلاً: «أيّها العبد»! إنّه عبدٌ ذليلٌ كثير عليه الخدش قوداً من العظيم الكبير.. إنّه عبدٌ لا يرقى إلى قتل الأبطال الشجعان والفرسان الصناديد، فلا يظننّ أنّ ما ناله يرجع بالأصالة إليه، إنّه عبدٌ ليس إلّا! «أيّها العبد»!
فلمّا سمع ابن زياد موقف الأبيّ الصابر، قال: أوَ فخراً عند الموت؟!
ولا نريد أن نعلّق على كلام ابن الأمة الفاجرة؛ لأنّه أقلّ وأحقر من أن يُفتَخر بشهادته للأبرار الأخيار.. إنّ في موقف ثقة الحسين (علیه السلام) وسفيره مفتخرٌ يغني عن التفات إلى تصريح أولاد البغايا.
روى الطبريّ وابن أعثم والخوارزميّ والسيّد ابن طاووس سؤالَ ابن زياد من القاتل بعد أن نزل: قتلتَه؟ وروى أخرون سؤالاً آخر: ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟
ويبدو من سياق الأحداث أنّ ابن زياد كان لا زال خائفاً من ظلّ البطل الطالبي (علیه السلام) ، حيث سأل القاتل: قتلتَه؟ وفي لفظ ابن أعثم حينما رآه مدهوشاً: ما شأنك؟ أقتلتَه؟
يريد أن يتأكّد ليطمئنّ أنّ الصاعقة النازلة عليه من سماء الحسين (علیه السلام)
ص: 357
قد سكنت.. إنّه يعيش رعباً يمزّق الكيان، وخوفاً يخرس المنطيق عن الكلام، وتهديداً يلاحقه في اليقظة والمنام، ودوّامةً تُغرِقه كلّ لحظةٍ في ألف كابوس..
اسمه يقضّ عليه مضجعه، وبريق سيفه يزعزع وجوده، ولسعات لسانه تختطف لُبّه.. فهو يعيش منذ أن دخل الكوفة مرتعشاً مرتجفاً، يقرض ذيله في أقبية قصر الخبال، ملتصقاً بالجدار لائذاً بأغصان الشجرة الملعونة الّتي ما لها من قرار، لا يدري ماذا يخبّئ له البطل الهاشمي (علیه السلام) من مفاجأة، وهو يعرف شجاعة آل أبي طالب (علیهم السلام) ، ويعلم جيّداً أنّ مسلماً (علیه السلام) كفوءٌ لكلّ صناديده، يقاتلهم وحده ولا يخشى في الله لومة لائم، وقد أثبتت الأحداث ذلك، وتابع الخبيث بنفسه مجريات الحرب الأخيرة، وذاق الذلّ والهوان الّتي جرعها إياه مسلم (علیه السلام) في مناظرته معه..
يريد أن يطمئنّ أنّه قُتل! يريد أن يسكن خوفه ويهدأ روعه، ويستريح قليلاً إذا علم أنّ التهديد المُرّ الّذي كان يلاحقه قد قضى نحبه! وأنّ الشجى الّذي قد اعترضه والقذى الّذي أعمى عينه قد مضى!
روى الطبريّ عن أبي مخنف، قال: نزل الأحمري.. فقال له ابن زياد: قتلتَه؟ قال: نعم ((1)).
ص: 358
إلى هنا انتهى الكلام بين الأحمريّ وابن زياد عند الطبري، بيد أنّ ابن أعثم والخوارزمي والسيّد ابن طاووس ذكروا الحدث بعبارةٍ مفصّلة، وعند الأولين القاتل رجلٌ من الشام -- كما ذكرنا فيما سبق --، قالوا -- واللّفظ للخوارزمي -- :
ثمّ نزل الشامي وهو مذعورٌ مدهوش، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ أقتلتَه؟ قال: نعم، إلّا أنّه عرض عارضٌ فأنا به مرعوب. قال: وما الّذي عرض؟ قال: رأيتُ ساعةَ قتلته رجلاً بحذائي أسود شديد السواد كريه المنظر، عاضّاً على إصبعه، أو قال: شفته، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع مثله قطّ. فتبسّم ابن زياد وقال: دُهشتَ من شيءٍ لم تعتده قبل ذلك ((1)).
ما أكثر ما رأى وسمع ابن الأمة الفاجرة من عذاب الله الّذي يتربّص به، وما أبين الحجج الّتي سمعها وشاهدها بأُمّ عينه من النار الّتي اعرضته، وسيلان جدار القصر دماً، والمعاجز الّتي أبداها له سيّد الشهداء (علیه السلام) ورأسه المقدّس وأهل بيته الأطهار، ﴿وَما تَأْتيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إلّا كانُوا عَنْها مُعْرِضين وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور﴾.
أراد الجلف الجافي أن يهوّن الخطب، ويمحو العار، ويغطّي الحقّ بعبارةٍ باردةٍ مهلهلة بائسة، «فتبسّم» ليخفي الهزيمة والرعب، ويغطي الخواء والخيبة في داخله، وقال: دُهشتَ من شيءٍ لم تعتده قبل ذلك.. ما الّذي
ص: 359
كان لم يعتده من قبل؟! القتل؟! أوَ ليس هو الّذي واجه بطل الأبطال في الكوفة وناوشه بسيفه؟! وقد اشترك في الحرب الضروس الّتي أدار رحاها بجدارةٍ وثقة سيف الحسين مسلم بن عقيل (علیه السلام) ، وهو رجل معروف عند ابن الأمة الفاجرة، بحيث يدعوه لينتقم به من البطل الهاشمي (علیه السلام) !
في (جلاء العيون): وفي روايةٍ أُخرى: إنّه لمّا شاهد ذلك قبل أن يقتله يبست يده، فلمّا أخبر ابن زياد (لعنه الله) بذلك دعاه واستعلم منه ذلك، فتبسّم وقال: لما أردتَ أن تفعل خلاف عادتك دُهشتَ وتخيّل لك ذلك. فأرسل ابن زياد رجلاً غيره إلى أعلى القصر، فلمّا أراد قتله رأى النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد تصوّر له، فدُهِش ومات من ساعته، فأرسل ابن زياد الشامي الملعون، فقتله ((1)).
وفي هذا النصّ تصريحٌ أنّ ثلاثة تقدّموا لقتل المولى (علیه السلام) ، بيد أنّ الأوّل يبست يده، والثاني رأى النبي (صلی الله علیه و آله) فدهش وهلك، والثالث هو الشامي الملعون..
ساعد الله قلبك يا رسول الله! وأنت ترى ما يحلّ بعترتك الّذي بكيته قبل أن يُقتَل، ودمعت عينك عليه حتّى جرت دموعك على صدرك، ثمّ قلت: «إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي» ((2)).
ص: 360
يلاحَظ خمسة أنماط من التعبيرات في كيفيّة رمي المولى الغريب (علیه السلام) من أعلى القصر:
قال البلاذري: فضرب عنقه، ثمّ أتبع رأسه جسده ((1)).
وقال أبو الفرج وابن الأثير: فضرب عنقه، ثم أتبع رأسه جسده ((2)).
وقال المفيد والفتال ومسكويه: فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه ((3)).
وهذه العبارات تفيد الوجهين، والظاهر أنّه ألقى الرأس أوّلاً ثم ألقى الجثمان المقدّس.
وهي تفيد أيضاً أنّ الإلقاء كان متعمَّداً، وقد نُسب إلى فاعلٍ -- كما هو صريح عبارة ابن كثير -- : ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسهبجسده ((4)).
قال الدينوري: ضربت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثمّ أتبع
ص: 361
الرأس بالجسد ((1)).
والمسعودي: فأهوى رأسه إلى الأرض، ثمّ أتبعوا رأسه جسده ((2)).
وابن الطقطقي: فهوى رأسه، وأتبع جثّته رأسه ((3)).
ويبدو من هذه الأقوال أنّ الرأس المقدّس هوى (حسب تعبير المؤرّخ) إلى الأرض على أثر الضربة، ثم أتبع بالجسد المقدّس.
قال سبط ابن الجوزي: وألقى رأسه إلى الناس ((4)).
والظاهر من عبارته أنّ الرجس النجس ألقى رأس المولى الغريب (علیه السلام) إلى الناس، من دون التصريح بإلقاء البدن المقدّس أيضاً، وربّما ترك ذلكاعتماداً على المرتكز المتبادر من أمر ابن الأمة الفاجرة.
أفاد ابن حبان أنّ الجسد المقدّس سقط إلى الأرض أوّلاً، ثمّ ألقى الرأس المقدّس.
قال ابن حبان: فضرب رقبة مسلم بن عقيل ... على طرف الجدار،
ص: 362
فسقطت جثّته، ثمّ أتبع رأسه جسده ((1)).
وقد أوهم ابن حبان في عبارته وصاغها صياغةً خبيثة، كأنّه يريد أن يموّه جريمة رمي الجثمان المقدّس، فنسب السقوط إلى المولى (علیه السلام) بعد أن قُتل، لأنّه قُتل على طرف الجدار..
مرّ معنا سابقاً عن (المقتل) المشهور لأبي مخنف والطريحيّ في (المنتخب) أنّهما قالا أنّ المولى الغريب (علیه السلام) رُمي من أعلى القصر وهو حيّ، كما فعل ابن الأمة الفاجرة مع قيس بن مسهر الصيداوي سفير سيّد الشهداء (علیه السلام) .
يمكن أن ينساق الراوي أو المؤرّخ خلف أطماعه أو عقائده أو أيّ غرضٍ آخر أو هوىً متّبَع، فيغيّر شيئاً من الواقع أو يروي رواية تحقّق له ما يصبو إليه وتُنيله ما يروم الوصول إليه، أمّا أن يبلغ بالراوي أو المؤرّخ حدّاً يكذب كذباً فجّاً بارداً قبيحاً مفضوحاً يُزكِم الأُنوف ويقزّز النفوس وتقشعرّ منه الجلود ويقفّ له الشعر..
كذبةً مقرفة نتنة عفنة، لو كانت في غير مصيبةٍ لأضحكت كلّ حزين..
ص: 363
كذبةً يخال القارئ لها أنّ راويها إمّا أن يكون مختلّاً مخلّطاً أو ثملاً أطربته خمرة الدينار حتّى ما عاد يميّز ولا يعقل ما يكتب..
جميلٌ أن يحترم الإنسان عقله، أو يغطّي خلله بتحرّي المواقع الّتي لا تكشف خطله.. وكيف يسع من تشبّه بالعقلاء وتلوّن بلون العلم أن يفضح نفسه بنقل ما يتّهمه فيه من لا حظّ له بالعلم فضلاً عن العلماء؟!
أيقال ما رواه البلاذري في (الأخبار الطِّوال) في حقّ بطل الأبطال مسلم بن عقيل (علیه السلام) ؟ وإنّما ننقله هنا بعد الاستغفار والتنصّل منه والبراءة إلى الله من القول، وتقديم الاعتذار لساحة مولانا الحبيب والعظيم الطاهر والقويّ الصابر والشجاع الثابت والعبد الصالح سيّدنا ومولانا المكرّم المعظّم مسلم (علیه السلام) ، لنقدّم صورةً عن جنايات المؤرّخ، وتجاسره على ساحة المقدّسين، وتطاوله على أولياء الله المقرّبين:
قال البلاذري: وبعث إلى مسلم بن عقيل فجيء به، فأمر به فدفع بينشرفتين من شرف القصر، فقال له ناد: أنا مسلم بن عقيل أمير العاصين، فنادى!!! ثمّ ضرب رأسه فسقط! ((1))
ولا تحتاج هذه الفرية الفاقعة والفقاعة الزائلة إلى مناقشة، فإنّ مَن لا يعرف مسلم بن عقيل (علیه السلام) حقّ المعرفة، ومَن لا يعرف إباء الطالبيّين وشمم الهاشميّين وشجاعة سيوف الحسين (علیه السلام) ، لا يقبل هذا الكلام الممجوج والنقل المحجوج..
ص: 364
لكنّ ما رواه البلاذري تتمّةً لصور سابقة رسمها المؤرّخ البائس عن هذا المولى الغريب (علیه السلام) خلال فترة سفره من مكّة إلى الكوفة وصولاً إلى هذه السقطة التافهة..
تطيّر!! تردّد.. والتردّد سمة واضحة في كلّ مراحل هذه الحركة!! تخوّف!!
استُغفل!! اختُرق من حيث لا يعلم ولا يتوقّع ولا يتوجّس ولا يتحسّب!! صابحه الجاسوس وماساه وهو في مقرّ قيادته، والتفت القاصي والداني وعرفه إلّا هو (علیه السلام) !!
تردّد مرّةً أُخرى.. رضي بالغدر والخيانة والاغتيال.. ثم رجع وذكر!! اختفى في الخزانة!! في بيت النساء!! ارتعد وارتعشت يده، فلم يقوَ على حمل السيف!! سقط السيف من يده! استجاب لاغتيال ابن زياد.. ونسيالحديث المزعوم.. ثم ذكره فتلكّأ.. أخذ بقلبه! أخذته كبوة! خرج من الخزانة أو من بيت النساء.. فلامه أصحابه ووبّخوه!! لم يعذره عاذر منذ تلك الساعة إلى يوم الناس هذا على ترك قتل من عرفه العالمين أنّه لو قتله لقتل فاسقاً فاجراً كافراً!!
فشل في تعبئة الجماهير!! أُخذ على حين غرّة.. أخطأ في حساب الثورة.. فخرج مبكّراً قبل أن يحين موعد القطاف! خذله الناس وفوجئ..
خرج ولم يخطّط! بقي وحيداً ليس له مَن يدلّه على الطريق! خرج وهو لم يجهّز حتّى نفسه بأن يجعل له خطّاً يرجع منه إذا آب إلى داره.. فبقي
ص: 365
حائراً، لأنّه لم يجد من يدلّه على الطريق!!
طردته المرأة الصالحة عن بابها.. حرّمت عليه الجلوس وهو يتوسّل إليها أن تؤويه سواد الليلة!
خرج يقاتل وعرّض نفسه للموت، وبعد أن شتّت جمعهم وأباد عسكرهم عاد ليقبل الأمان ويمكّن من نفسه.. يمكّن من يده!!
استسلم بعد أن شارف على المنيّة! طلب العفو ممّن أرسلهم ابن زياد ليأخذوه فيقول لهما: العفو! فيقولان: لا نملك لك عفواً!!
توسّل إلى النغل الأموي أن يستبقيه، فإن استبقاه لَيكثرنّ السلام عليه.. بمعنى أنّه سيلازمه ويكون من ندمائه ويدخل عليه كلّ حين!!
ثمّ الآن.. وقد رُفع إلى أعلى القصر ليقتل، ينادي بهذا النداء.. ثمّيُقتَل!!!
ومواقف أُخرى كثيرة، ومشاهد محتشدة تكرّس هذه الصورة البائسة للوجه المشرق بنور ربّه، والشعاع البازغ من شمس سيّد الشهداء (علیه السلام) .. وقد أتينا على مناقشتها بالتفصيل في خضمّ الأبحاث والدراسات المتتالية عن هذه الفترة من حياة مولانا المعظّم مسلم بن عقيل (علیه السلام) !
حاشاه وألف حاشاه! ووالله لا نرضى أن تجلّل قداسات الرجال مهما كانوا عظماء ولا تنكر جلالتهم وسموّ مراتبهم، ونحن نعلم أنّهم استقوا من التاريخ.. لا نرضى أن نتحرّز عن مناقشة أقوال التاريخ لئلّا تكون بنا جرأة على تخطّي أقوال الرجال، ثمّ نرضى أن تمتهن كرامة الدين بقبول ما لا
ص: 366
يرضاه الله ورسوله (صلی الله علیه و آله) والمؤمنون في رجال سيّد الشهداء الحسين (علیه السلام) ..
ومناقشة التاريخ لا تعني التعدّي على أحدٍ من العلماء، مع حفظ المقام والاعتراف بالخضوع والاحترام والتعامل معهم كالتلميذ الحقير إذا ناقش الأستاذَ النحرير.. هذا في العلماء الصالحين والموالي المؤمنين من أهل السابقة والفضل والمقام السامي..
أمّا المؤرّخ المأجور والناصبيّ المثبور بسيف فضائل آل الله (علیهم السلام) وأتباعهم، فلا والله لا نقيم لقوله وزناً في اتّهام الطيّبين الأبرار، ولا كرامة! فهو ينطلق من حقده وضغينته، فيعبّر بما يريح كوامنه، ويسكّن كوانينالنيران الملتهبة في جوفه المحشوّ ببغض الطيّبين الأطهار، فيسيل في صديد أقلامهم وقيح دواتهم المشبوهة الّتي تأبى أن يحسن القارئ بها ظنّاً، كما تسمع نموذجاً من ذلك في تعبير أبي الفداء حيث يقول:
فانهزم واستتر!!! ونادى منادي عبيد الله بن زياد: مَن أتى بمسلم بن عقيل فله ديته. فأُمسك مسلم وأُحضر إليه، ولمّا حضر مسلم بين يدَي عبيد الله، شتمه وشتم الحسين وعلياً، وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته!!!! من القصر. ثمّ أُحضر هاني بن عروة، وكان ممّن أخذ البيعة للحسين، فضرب عنقه أيضاً، وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية ... ((1)).
أسمِعتَ التصوير البائس والتعبير الهابط؟!! «فانهزم»، «استتر»، «شتم
ص: 367
الحسين وعليّاً»، «ضُرب عنقه في تلك الساعة»، «رميت جيفته»!!!!! كلّها تشفٍّ وشماتة وفرح بما فعله ابن الأمة الفاجرة!
ص: 368
إكتفى جملةٌ من المؤرّخين بذكر الصَّلب إجمالاً، واقتصر على قوله: «وصلبهما» ((1))، يعني مسلماً وهانئاً (علیهما السلام) ، ومنهم من قال: «وصلبه» ((2))، يعني مسلماً (علیه السلام) .
ومنهم مَن تعرّض لذكر بعض الخصوصيّات المتعلّقة بالمكان أو بالصلب بشكل مقتضب جدّاً:
فقال ابن حبيب: وصلب عبيد الله ابن مرجانة هانئَ بن عروة المرادي بسوق الكوفة، ومسلمَ بن عقيل أيضاً ((3)).
ص: 369
وقال ابن أعثم: ثمّ أمر عبيد الله بن زياد بمسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رحمهما الله)، فصُلبا جميعاً منكسين ((1)).
المسعودي: ثمّ أمر ابن زياد بجثّة مسلم فصُلبت، وهذا أوّل قتيلٍ صُلبت جثّته من بني هاشم ((2)).
الخوارزمي: ثمّ أمر ابن زياد بمسلم وبهانئ فصُلبا منكسين ((3)).
سبط ابن الجوزي: وصلب جثّته بالكناسة، ثمّ فعل بهانئ بن عروة كذلك ... وجثّة مسلم أوّل جثّةٍ صُلبت منهم ((4))، (من بني هاشم).
ذكروا في النصوص المشار إليها موضعَين للصلب: أحدهما سوق الكوفة، والآخر الكناسة.
والكُناسة -- كما في (معجم ما استعجم) للبكري -- : بضمّ أوّله، معروفة بالكوفة، كان بنو أسد وبنو تميم يطرحون فيها كناستهم، فكتب خالد بن عبد اللّه إلى هشام يسأله أن يقطعه إيّاها، فسأل ابن سعيد عنها، فقال: ما بالكوفة مثلها. فلم يعطه إياها، واتّخذها لنفسه ((5)).
ص: 370
وهي موضع كبير مسكون في الكوفة، كان يسكنه السنّة، كما قال المقدسيّ في (أحسن التقاسيم): وبالكوفة الشيعة، إلّا الكناسة فإنّها سنّة ((1)). وفيها قتل الشهيد السعيد المظلوم زيد بن عليّ بن الحسين (علیهم السلام) .
ويبدو أنّ ثمّة سوقاً في الكناسة كما يستفاد من عبارة المسعودي، حيث يقول: «وذلك أنّ أبا حميد الطوسي دخل ذات يوم من العسكر إلى الكوفة، فلقي سابقاً الخوارزميّ في سوق الكناسة..» ((2)). وقول ابن الجوزي: «وأمر بهانئ فقتل في السوق، وسحب إلى الكناسة فصلب هناك ((3)). وكذا قول ابن الأثير: «ودخلوا الكناسة في آثارهم حتّى دخلوا السوق والمسجد» ((4)).
وعلى التقدير الأبعد يمكن الإفادة من عبارة المسعوديّ وابن الأثير أنّ السوق ينتهي بالكناسة إن لم يكن في نفس المحلّة، وبهذا يجتمع القولان؛ بأن يكون الصلب في السوق الواقع في الكناسة، وهو أبلغ في التشهير والتخويف والترويع!
قال السيّد المقرم (رحمة الله) في حديثه عن موضع المرقد المطهر وموقع الكناسة الّذي صُلب فيه الشهيد المظلوم زيد بن علي بن الحسين (علیهم السلام) :
ص: 371
ليس بالهيّن معرفة هذين الموضعين على سبيل القطع، خصوصاً موقع الكناسة، مع ما لها من الشهرة وتكرّر الذكر في صفحات التاريخ بمناسبة الحوادث الواقعة فيها، إذ لم تكن خارطة تخطِّط أرجائها، ولا بقيَت من آثارها ما يتعرّف بها الأحوال، إلّا أعلام دارسة وصور مجهولة، كما هو الشأن في آثار الأُمم البائدة والديار الخاوية، فليس في وسع المنقِّب الجزم بشيءٍ منها إلّا بالتقريب بالوقوف على الرسوم والأطلال أو الحفريات، أو الركون إلى كلمات مستطردة خلال السيَر، وحتّى الآن لم يتسنّ لنا شيءٌ من تلك القرائن سوى ما وجدناه في (فلك النجاة) للعلّامة الحجّة السيّد مهدي القزويني (قدس سره): إنّ المشهد المعروف لزيد بن علي (علیه السلام) الّذي يُزار ويُتبرَّك به محلّ صلبه وحرقه. وهذه الكلمة من سيّدنا البحّاثة يجب الاحتفاظ بها، لما هو المعهود من غزارة علمه وسعة إحاطته، وقد وثق بها وأرسلها إرسال المسلّمات أخذاً عن أوثق المصادر المتوفّرة عليه، لذلك لم تترك لنا منتدحاً عن الإذعان بها بأنّ هذا المشهد القائم في شرقي قرية ذي الكفل واقع في محلّ الكناسة!
ويشهد له أنّ الصلب وأشباهه ممّا يقصد فيه الإرهاب وتمثيل قوّة البأس وشدّة السلطان، لا يكون إلّا في المحتشدات العامّة ومختلف زرافات الناس، وهذا الموضع قريب من النخيلة، وهي العبّاسيّة في كلام ابن نما، والعبّاسيّات اليوم، ولا شكّ أنّ النخيلة كانت باب الكوفة للخارج إلى الشام والمدائن وكربلاء، ومن هنا عسكر فيها علي (علیه السلام) لمّا خرج إلى
ص: 372
صفين، وعسكر الحسن (علیه السلام) لمّا خرج إلى معاوية، وعسكر ابن زياد لمّا جهّز الجيوش لحرب الحسين (علیه السلام) ، فناسب أن يكون الصلب في الموضع العام أو بالقرب منه، على ألّا يفوت الغرض المقصود من الإرهاب وإراءة الغلبة وقوّة السلطان، وهذا الاعتبار يؤيّد ما أرسله السيّد المتتبّع ... ((1)).
وقال السيّد البراقي:
كانت أوّلاً تُعرَف بكناسة أسد، ثمّ صارت محلّةً أو سوقاً أو محطّةً تجاريّةً كبرى للكوفة، وفيها تمركزت الأشغال التجارية مع البلاد العربيّة، فكانت موضعاً للحمولة توضع فيها الأحمال وترفع منها، وكان في ناحيةٍ من نواحي الكناسة أسواق البراذين، تجري فيها المعاملات على الماشية من بغال وحمير وإبل بيعاً واكتراءاً من قبل النخّاسين، وهناك يباع الرقيق، وكان في الكناسة محلٌ للشنق، وفيه عرض جثمان زيد بن علي (علیه السلام) ، واليوم توجد بناية قائمة بين مسجد سهيل (السهلة) وقريبة منه وبين مسجد الكوفة، يؤمّها الناس وتُعرَف باسم زيد بن علي (علیه السلام) ، ويعتقدون أنّها المحلّ الّذي عُرض فيه جثمانه شنقاً، فيكون موقع الكناسة اليوم بين مسجد السهلة ومسجد الكوفة.
هذا كلام الأُستاذ الشرقيّ حول الكناسة وتعيين موقعها، ومن الغريبجدّاً صدور ذلك منه، فإنّا [والكلام للسيّد البراقي] لم نعهد اليوم ولا قبل
ص: 373
اليوم بنايةً قائمة بين مسجد السهلة والكوفة يؤمّها الناس وتُعرَف عندهم باسم زيد بن علي (علیه السلام) ، كي يعقد أحدٌ أنّها المحلّ الّذي عرض فيه جثمانه شنقاً، فيحكم الأستاذ أنّه موقع الكناسة!
وإنّما البناية الّتي توجد اليوم هناك هي مسجد زيد بن صوحان صاحب الإمام علي (علیه السلام) ، وهي الّتي يؤمّها الناس وتُعرَف عندهم بمسجد زيد بن صوحان، يؤدّون فيه من الوظائف الشرعيّة ما هو مدوَّنٌ في كتب الأدعية، ولم يزد الحموي في (المعجم) على قوله: الكُناسة -- بالضمّ -- محلّةٌ بالكوفة، عندها أوقع يوسف بن عمر الثقفي بزيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ((1))..
ثمّ نقل كلام السيّد المقرم (رحمة الله) المذكور قبل قليل.
ويمكن -- ولو على نحو الاحتمال -- أن يكون المقصود بالكناسة هنا ليس هو الموضع المعروف، وإنّما هي موضع الكناسة بالمعنى اللّغوي، أي مطامر النفايات، ولا نطيق التعليق على ذلك، ونكتفي بهذه الإشارة رغماً عنّا، لإمكان صدور ذلك من أمثال ابن الأمة الفاجرة.
أفاد ابن أعثم والخوارزميّ أنّهم صلبوا الجثّة المقدّسة منكّسة، والمتبادر من العبارة أنّهم صلبوه معلّقاً من قدميه الشريفتين وكان عنقه ويديه إلى
ص: 374
الأرض!
إنّا لله وإنّا إليه راجعون! أيبلغ الانحطاط والتردّي إلى هذا الحدّ بمخلوقاتٍ عجّت الأرض وضجّت السماء من جرائمهم وتفنّنهم بالتنكيل بأولياء الله؟!
واللهِ إنّ البيان لَعاجز، والبنان منكمش، والعيون عبرى، والقلوب حرّى، والأكباد محترقة لهذه الصورة المروّعة والتنكيل المهول والاعتداء الوقح، فماذا يقول القائل سوى أن يجري دمعه الهطول ويسلّم أمره لله، ولا حول ولا قوّة إلّا به.. وسيأتي اليوم الّذي يصلب فيه المنتقم الأعظم (عجل الله تعالی فرجه الشریف) أعداء عترته وأهل بيته والظالمين لهم، ويأخذ بثأر المظلوم الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) ، وستشرق شمسه عمّا قريب إن شاء الله، ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب﴾؟!
صرّح المسعوديّ في (المروج) وسبط ابن الجوزي في (التذكرة) أنّ جثّة المولى الغريب (علیه السلام) أوّل جثّةٍ لبني هاشم صُلبت، وهو يفيد أنّ هذه الجناية العظمى لم تحصل في أحدٍ من آل أبي طالب (علیهم السلام) قبل ذلك اليوم، وربّما كان هو أوّل مَن صلب منكّساً، هو والشيخ الشهيد بطل مذحج وناصر سفير الحسين (علیه السلام) هانيء بن عروة.. لا ندري بالضبط، لأنّنا لم نسبرالتاريخ بحثاً عن ذلك، بيد أنّنا نستفيده من تهديد النذل الهابط ابن زياد
ص: 375
حينما توعّد أن يقتله قتلةً لم يقتل بها أحدٌ في الإسلام، وأنّها ستكون شرّ قتلة.. وقد صلب من بعدها آل أبي طالب (علیهم السلام) وأنصارهم الأوفياء على جذوع النخيل، حتّى بقي بعضهم سنين على تلك الحال، كما حصل مع جدّنا وسيّدنا الشهيد المظلوم زيد بن عليّ بن الحسين (علیهم السلام) .
ربّما يستفاد من كلام ابن فندق أنّه صُلب على الأقلّ ثلاثة أيّام، إذ يقول: صلّى عليه ... بعد ثلاثة أيّام من قتله ((1)).
فيلزم أن يكون قد أُنزل من الصلب بعد ثلاث، فأُقيمت عليه الصلاة ليُدفَن، والله العالم!
ص: 376
قال الدينوري: قالوا: ولمّا رحل الحسين من زرود، تلقّاه رجلٌ من بني أسد، فسأله عن الخبر، فقال: لم أخرج من الكوفة حتّى قُتِل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتُ الصبيان يجرّون بأرجلهما. فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((1)).
وقال اليعقوبي: وجرّ برجله [مسلم (علیه السلام) ] في السوق ((2)).
وقال الشيخ المفيد: وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهانئ، ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما. فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ((3)).
ص: 377
وفي (المنتخب) للطريحي: ثمّ إنّهم أخذوا مسلماً وهانئاً يسحبونهما في الأسواق ... ((1)).
وفي (المقتل) المشهور لأبي مخنف: فبلغ ذلك مذحج، فركبوا جميعاً، وقاتلوا ابن زياد (لعنه الله) قتالاً شديداً، وكانوا يسحبون مسلماً وهانئاً في الشوارع ... ((2)).
وقال الدربندي: فبلغ ذلك مذحج شعره وذكره لهم، فركبوا عن آخرهم، واقتتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيّام بلياليها، وما كان يسحبون هانئاً ومسلماً في الأسواق، فغلبت عليهم مذحج، فأخذوهما، وغسلوهما، وكفّنوهما، وصلّوا عليهما، ودفنوهما في الجامع ((3)).
وقال بحر العلوم: سحبوهما بالحبال من أرجلهما في الأسواق طوال ذلك النهار ((4)).
وقال أسد حيدر: ثمّ أمر ابن زياد بسحبه [هانئ] في الأسواق أمام أعين عشيرته وأحلافه، تحدّياً للكرامة العربيّة!!!!! وسحقاً للقيَم ((5)).
* * * * *
ص: 378
إنّه مشهدٌ بشع، مروّع، مهول، يصدّع الفؤاد ويهدّ القلوب، ويستحقّ أن تجري له من الآماق بدل الدموع دماً.. أيُفعَل هذا بالعترة الطيّبة؟!! حقَّ لرسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تجري دموعه على مسلم (علیه السلام) حتّى تبلّ لحيته الكريمة، ويشكو إلى الله ما ستلقى عترته من بعده، كما في خبر (الأمالي) للصدوق..
أيريد ابن الأمة الفاجرة الدعيّ ابن الدعيّ أن ينكّل بالبطل الهاشمي (علیه السلام) بهذه الفعلة المستنكرة؟! إنّه ينكّل بالجثمان المقدّس حسب ظنّه، وأنّى له ذلك؟! وقد أشبعه المولى (علیه السلام) إذلالاً وتنكيلاً وتحقيراً، وعرّاه وفضحه ودمّره تدميراً، ويأبى الله إلّا أن يرفع مَن يشاء ويضع مَن يشاء، فلا رافع لمن وضع ولا واضع لمن رفع الله.. وما جرى على مسلم بن عقيل (علیه السلام) في محبّة الحسين (علیه السلام) حبيب الله كان رفعةً وتسامياً في الدرجات، فقد نالها فوزاً عظيماً خاصّاً به، وتركها فخراً لكلّ الشيعة إلى يوم القيامة.. وقد أصحر الوحش الأموي عن كوامنه مع سيّد الشهداء (علیه السلام) أيضاً يوم أمر برضّ جسد الحسين (علیه السلام) وصحبه بعد قتلهم في كربلاء!
ولا نقول إلّا ما قال سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين (علیه السلام) ، الّذي عجبت من صبره ملائكة السماء! حينما سمع خبر مقتل أخيه وابن عمّه وجرّهما بالأسواق: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»!
ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعض المشاهد والصور الّتي تشعل القلب
ص: 379
وتحرق الأكباد وتسجر اللوعة في الأعماق:
جثمانٌ مقطَّعٌ آراباً قبل أن يُقتَل، مزّقته الجراح، وسالت منه الدماء كالفوّارة من كلّ أنحائه، أذبله العطش، وغسّلته دماء النحر، مهشَّم العظام من أثر الارتطام بالأرض حين رُمي من أعلى القصر.. وهم مع ذلك يشدّون الحبال برجليه ورجلي الشيخ الكبير هاني بن عروة، ويجرّونه في السوق.. يسحلونه على الأرض.. الأرض الوعرة.. فيها التراب والرمل والحصى والشوك، الناتئة في موضع والمنخفضة في آخر، تغطّيها الأحجار أحياناً ومخلّفات المارّة والسوق أحياناً أُخرى.. وفي خشونة الأرض وقساوة التراب كفاية إذا بردت جسماً لطيفاً وبدناً منهكاً وقشّرت جلده فأبدت اللّحمَ الممزَّق..
إنّهم شدّوا الحبال برجليه! لأنّ رأسه مقطوع! وسحلوه منكّساً أيضاً.. جرّوه في السوق على مرأى ومسمع من هذه الأُمّة المنكوسة المتعوسة المتخاذلة البائسة، الّتي أخلدت إلى القاع اللزج، والتصقت بصمغ الشجرة الملعونة العفن..
ما أبشعه من منظر! ما أعظمها من مصيبة.. جثّة مقدّسة يعلوها نور العترة النبويّة، وتحيط بها هالة القدس الإيمانية، وتحفّها هيبة رجال آل أبي طالب (علیهم السلام) في سيماء الفرسان والشجعان والأبطال.. تجرّ في الأسواق..
ص: 380
فيتناثر اللحم المخدّد من أثر الاحتكاك بالأرض القاسية والتراب الخشن والحجارة وغيرها من الأشياء الحادّة، وتبقى آثار الدم السائل بهدوء وصمت خيوطاً تنسحب وراءها وترسم تفاصيل عار آل زياد وبني أُميّة وشنارها إلى أبد الآبدين.. فلعنة الله عليهم لعناً يغدو أوّله ولا يروح آخره..
ليت كان ثمّة مَن يتبع الجثمان المقدّس وهو يُسحَل على الأرض، ليلتقط نثار الجلد واللّحم المتشظّي منه ويجمعه ويدفنه..
جلّت حكمة أبي الشهداء (علیه السلام) وسيّدهم، إذ أرسل مسلماً (علیه السلام) وحده إلى الكوفة، فلم يصحب معه أحداً من أهله وعياله.. فماذا لو كانت بنت أمير المؤمنين وزوجه رقيّة وأولاده وبنتاه حميدة وعاتكة قد حضروا المشهد هذا؟!!
روى الدينوري على لسان الأسدي الّذي أخبر سيّد الشهداء (علیه السلام) بما شاهده أنّه قال: ورأيتُ الصبيان يجرّون بأرجلهما..
سلّطوا الصبيان على الجثمان؟! إمعان في التنكيل.. لابدّ أن تكون جماعة من الصبيان غير قليلة؛ لأنّهم يسحبون طودين شامخين نبا السيف عن عنقيهما، وضعف القاتل ونكل عن قتلهما في أوّل ضربة.. جثمان مسلم المهيب الضخم، لأنّه من رجال بني هاشم، وكان أشبه بني عبد المطّلب برسول الله (صلی الله علیه و آله) ، كما ورد في (التاريخ الكبير) للبخاريّ في صفته..
ص: 381
بدن مقاتلٍ بطلٍ فارس شجاع، ثقيل الوزن عظيم التقاسيم..
ولابدّ أن تكون ثمّة فاصلة بين الجثمان المقدّس وبين جماعة الصبيان بمقدار امتداد الحبل بين رجليه وبين أيديهم الآثمّة.. ويلزم أن يكون الرجال والصبيان وغيرهم يتراكضون حول الجثمان وأمامه وخلفه.. والصخب والضجيج يملأ الأرجاء، والشماتة تعلو الوجوه الكالحة الّتي جاءت تتشفّى من بطلٍ قتل صناديدهم وأدخل النائحة في بيوتهم، فلا تهدأ لهم رنّة بعد أن صبغ بدمائهم الأرض، وترك لحومهم نقوشاً مرعبة لهم ولصبيانهم على الجدران، وكدّس رؤوسهم بعضها فوق بعض في حربه الأخيرة..
لا يحدّثنا التاريخ عن الصرخات والزعقات والأراجيز وما جرى وهم يسحلون ويقشرون جلد المولى الغريب (علیه السلام) بجرّه على الأرض، وما أحدثوه من ضجّةٍ واحتفال، وما حدث في الكوفة يومها!
في زرود بلغ خبر شهادة مسلم وشدِّ الحبال برجله وجرِّه في السوق لركب سيّد الشهداء (علیه السلام) ، كما ذكر الدينوري والمفيد وغيرهما.. هكذا شاء الإمام أن يخبر بما يسمع لا بما يرى ويعلم بمقتضيات الإمامة.. «فارتجّ الموضع بالبكاء والعويل، وسالت الدموع كلّ مسيل»..
إنّه خبرٌ مفجِع.. قتل مسلم (علیه السلام) .. ويزيد اللوعة ويُذكي المصاب
ص: 382
ويحرق الفؤاد أن يقترن خبر الشهادة بخبر ربط رجلَيه بحبل وجرّه في السوق، بسحل جلده عن لحمه ببرده بالتراب، بشماتة الأعداء!
وهو أوّل شهيدٍ من آل أبي طالب بين يدَي الحسين سيّد الشهداء (علیه السلام) ، أو خبرٍ مفجع يبلغ بنات أمير المؤمنين (علیه السلام) .. أوّل يُتمٍ يدخل على ركب الحسين (علیه السلام) .. بدت مصائب كربلاء تلوح في أفق ركب المنايا.. فجيعة لا كالفجائع، ومصيبة فيها أحزان كربلاء، وقارحة فادحة كاظة فيها سمات الطف.. يُقتَل شرّ قتلة لم يُقتَل أحدٌ في الإسلام مثلها، ثمّ يجرّ بالحبال في السوق!!
أيّ هولٍ ونياحةٍ قامت في سرادق الرسالة وخيام الخدر العلويّ في الركب الحسيني؟! كيف تلقّت الخبر بنات أمير المؤمنين (علیه السلام) ، بنات مسلم ابن عقيل، أولاد مسلم بن عقيل، إخوة مسلم وآل عقيل، بقيّة الطالبيّين؟!
ساعد الله قلب أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) ، وقد استرجع -- بأبي هو وأُمّي -- وسالت دموعه كسيلان دموع جدّه المصطفى (صلی الله علیه و آله) على أخيه مسلم ابن عقيل..
عينَيَّ
سيلي بالمدامع سيلي
حُزناً
لِغربة مسلم بنِ عقيلِ
لا غَرو
إن أدميتُ جفنيَ بالبكا
وله أطلتُ نياحتي وعويلي
فمصابه
أبكى عيونَ المصطفى
طوبى لمن يبكيه خيرُ رسولِ ((1))
ص: 383
قال الدربندي: فبلغ ذلك مذحج ... فركبوا عن آخرهم، واقتتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيّام بلياليها، وما كان يسحبون هانئاً و مسلماً في الأسواق، فغلبت عليهم مذحج، فأخذوهما، وغسلوهما، وكفنوهما، وصلّوا عليهما، ودفنوهما في الجامع ((1)).
وقال السيّد بحر العلوم: سحبوهما بالحبال من أرجلهما في الأسواق طوال ذلك النهار ((2)).
تفيد عبارة الملّا الدربندي أنّ مذحج قاتلت ثلاثة أيّام بلياليها قتالاً شديداً لاستنقاذ الجثث الزواكي، وتفيد عبارة السيّد بحر العلوم أنّهم سحبوا الجثث الطواهر طيلة ذلك النهار.
والمحصَّل من عبارة الملّا الدربندي أنّ جرّ الجثث في الأسواق كان بعد الصلب، لأنّه يفيد أنّ مذحج جهّزتها ودفنتها بعد الاستنقاذ، والحال أنّ عبارة السيّد لا تفيد ذلك، بل ربما يستفاد منها أنّهم جرّوها في الأسواق طيلة ذلك النهار ثمّ صُلبت، وهو الأوفق بمجريات الأحداث، ويشهد له تعبير الطبري: «وأُمر بهانئ فسُحب إلى الكناسة فصُلب هنالك»، والله العالم.
ص: 384
توجد ثلاث طوائف من الأخبار تتحدّث عن تجهيز الجثث الطواهر الزواكي:
ومن البعيد جدّاً أن يكون القذر المتعلّق بذيل الجرو الأموي عمر بن سعد قد أقدم على انتشال الجثّة من براثن الأنذال وقد أمر اللّعين بصلبها وجرّها في السوق، سيّما إذا لاحظنا أنّ ابن زياد قد أبى أن يقبل بتنفيذ هذا البند من الوصيّة من أوّل الأمر، فقال: «أمّا جثّته فإنّا لن نشفعك فيها، إنّه ليس بأهل منّا لذلك، قد جاهدَنا وخالفَنا وجهد على هلاكنا» ((1)).. وابن سعد أحقر وأقلّ من أن يفعل شيئاً يتجاوز فيه سائسه ومولاه.
ثمّ إنّ المولى الغريب (علیه السلام) إنّما أوصاه لئلّا يمثَّل بجثّته بعد قتله، كما صرّح الدينوري في نقله لكلام المولى الغريب (علیه السلام) عن سبب ذلك، فقال: وإذا أنا قُتلتُ فاستوهِبْ من ابن زياد جثّتي؛ لئلّا يمثّل بها ((2)). وها هو قد مثّل به وصلبه وجرّه في الأسواق.
فهو على كلّ تقدير لم ينفّذ الوصيّة في هذا البند.
ورد في مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف المشهور: فحملت عليهم مذحج، ففرّقوهم وأخذوا مسلماً وهانئاً، وغسلوهما وكفّنوهما وصلّوا عليهما ودفنوهما ((3)). وقريباً منه قاله الطريحي في (المنتخب) والقمّي في (نفَس
ص: 386
المهموم) والدربنديّ في (أسرار الشهادة) والحائريّ في (معالي السبطين) ((1)).
والظاهر من عبائر الأطياب المتأخّرين أنّهم اعتمدوا نقل (المقتل) المشهور، فقوّة كلامهم بقوّة النسخة المتداولة من (مقتل) أبي مخنف، وربّما تحركت في مذحج شيءٌ من النخوة العشائريّة على زعيمهم الّذي خذلوه وأسلموه وباعوه ودينهم بدنيا الأنذال والقرود، والله العالم!
روى المتتبّع المتبحّر في المصادر العربيّة والفارسيّة خادم الحسين (علیه السلام) الشيخ الحائري في (معالي السبطين)، قال:
فقال الشعبي: فبقيَت تلك الجثّة الطاهرة على وجه الأرض من غير غُسلٍ ولا كفن، ولمّا دجى اللّيل ونامت كلُّ عين، شدّت زوجة ميثم التمّار على نفسها، وخرجت إلى الكناس، وحملت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحنظلة بن مرّة إلى دارها، ولمّا انتصف الليل ونامت كلّ عين، حملتهم إلى جنب المسجد الأعظم، ودفنتهم بدمائهم، ولم يعلم بها أحدٌ إلّا زوجة هانئ بن عروة، لأنّها كانت في جوارها (رحمة الله عليهم ورضوانه) ((2)).
ص: 387
ونحن وإن لم نقف على مصدره، لكنّنا نثق من خلال معرفتنا باطّلاعه على المصادر الفارسيّة والعربيّة في آن أنّ له مصدراً لم نعثر عليه إلى اليوم، وفي مكتبتنا عشرات المصوّرات والمطبوعات حجريّاً منذ أكثر من مئة عام لم نُوفَّق بعد لمراجعتها، فربما كان قد اعتمد عليها الشيخ الحائري ونقل عنها.
وربما كان إقدام هذه الحرّة العفيفة الشجاعة أوفق وأكثر انسجاماً مع ظروف الكوفة يومها، وتخاذلِ القوم، والرعب المسيطر على الموقف وانهزام مذحج وغير مذحج وإعلانها الطاعة، وشماتة الأعداء وتحاملهم على الطيّبين الّذين أشبعوهم قتلاً وتنكيلاً قبل أن يقتَلوا، والله العالم!
تفرّد ابن فندق -- حسب فحصنا -- بذكر مَن صلّى عليه، فقال: ... صلّى عليه عمر بن سعد بعد ثلاثة أيام من قتله ((1)).
فإن صحّ ما قاله ابن فندق -- وهو بعيد -- فباعتبار أنّ ابن سعد يعدّ نفسه من الرحم وهو الأقرب إليه، لما ذكرناه في سبب اختياره للوصيّة، ولطالما فعل الطواغيت ذلك مع أهل البيت (علیهم السلام) في الظاهر والّذي يتولّى ذلك منهم في الباطن مَن هو أولى بهم في الله!
ص: 388
روى العلّامة الحائري المازندراني في كتاب (معالي السبطين) موقف ناصر الجثمان المقدّس حنظلة بن مرّة الهمداني، وقد تحدّثنا عن نقولات خادم الحسين الحائري قبل قليل، وسوف نذكر ما رواه ونعلّق عليه لعدم وجود ما ينافيه، ونترك الإثبات والنفي للعلماء والمتخصّصين وأهل التحقيق.
قال: في بعض مؤلّفات أصحابنا، عن (قبسات) الشيخ درويش علي البغدادي: لمّا قُتل مسلم وجرى عليه ما جرى، ربطوا برجله حبلاً وجرّوه في أسواق الكوفة.
قال الشعبي: فمرّ به رجلٌ أعرابي من أهل واقصة يقال له: حنظلة بن مرّة الهمداني، وكان من شيعة عليّ بن أبي طالب، وهو راكبٌ على مطية، فقال: ويلكم يا أهل الكوفة، ما فعل هذا الرجل الّذي تفعلون به هذا
ص: 389
الفعال؟!
فقالوا: هذا خارجي، خرج على الأمير يزيد بن معاوية.
فقال: يا قوم، بالله عليكم ما يُقال له؟ وما اسمه؟
قالوا: هذا مسلم بن عقيل ابن عمّ الحسين (علیه السلام) .
فقال: ويلكم، إذا علمتم أنّه ابن عمّ الحسين فلمَ قتلتموه وسحبتموه على وجهه؟!!
ثمّ نزل عن مطيته، وردّ يده إلى سيفه وسلّه من غمده، وحمل عليهم، وجعل يقاتل وهو يقول: لا خير في الحياة بعدك يا سيّدي.
ولم يزل يقاتل حتّى قتل أربعة عشر رجلاً، فتكاثروا عليه حتّى قُتل وعجّل الله بروحه إلى الجنّة، وربطوا برجله حبلاً وسحبوه على وجهه، حتّى رُمي على كناسة الكوفة بجانب مسلم بن عقيل ((1)).
أفاد هذا النصّ عدّة فوائد:
الأُولى: أنّ الرجل الغيور كان من أهل واقصة.
الثانية: أنّه كان من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) .
الثالثة: أنّ المشهد كان غاية في البشاعة بحيث أثار هذا الغيور العابر.الرابعة: أنّ القوم غاية في الانحطاط والسقوط، وقد أقدموا على فعالهم
ص: 390
عن علمٍ وعمد، فهم يعرفونه تماماً ويعرفون علاقته وقربه من سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، وقد قرّعهم البطل الغيور بقوله: ويلكم، إذا علمتم أنّه ابن عمّ الحسين فلمَ قتلتموه وسحبتموه على وجهه؟
الخامسة: صرّح القوم بخضوعهم وخنوعهم وتبعيّتهم البغيضة للقرد الأموي وتعبيرهم المقيت عن المولى الغريب سفير الحسين (علیه السلام) بأنّه خارجي.
السادسة: يبدو من قوله: «وسحبتموه على وجهه» أنّ الجثمان كان يُسحَب مكبوباً على وجهه! أو أنّهم كانوا يقلّبونه وهم يسحبونه مرّةً على ظهره ومرّة على وجهه، أو أنّهم يسحبونه سحباً عنيفاً فتتقلّب الجثّة على جوانبها! هنيئاً لك يا أخا الحسين وابن عمّه وثقته وسفيره، لقد واسيتَ سيّد الشهداء (علیه السلام) !
السابعة: ما أعظم مواساته ودفاعه وغيرته وحميّته على رجال الحقّ وسيوف الحسين وبقية الطيّبين الأبرار؛ «لا خير في الحياة بعدك يا سيّدي»!
كان عابراً، فمرّ من السوق إلى جنان الخلد عن طريق المولى الغريب (علیه السلام) .. لقد ردّ شيئاً من غربة مسلم بن عقيل ولو بعد شهادته، وانتصر لجثّته، وأذاقهم الخوف في لحظة زهوهم وطغيانهم، وقتل منهم، ورحل إلىالله مع سيّده، وأبى إلّا أن يواسيه، فجرّوه بالحبال مع مَن لم يجد للحياة خيراً ولا طعماً ولا معنىً بعده..
ص: 391
الثامنة: أنّ القوم فعلوا فعلتهم بعد الصلب، كما يظهر من قوله: «حتّى رُمي على كناسة الكوفة بجانب مسلم».. إذ أنّهم ختموا جنايتهم بالكناسة برمي الجثث الزواكي الطواهر هناك.
التاسعة: أنّ مذحجاً لم تتقدّم بشيءٍ ولم تقاتل من أجل إنقاذ الجثث الطاهرة، وإنّما ظلّ الغوغاء السفلة يتمادون في غيّهم وجنايتهم، حتّى وصلوا إلى الموضع الأخير الّذي كانوا يقصدونه.
العاشرة: وما أدراك ما العاشرة! ولا يطاوع القلب ذكرها ولا يجرؤ المرء على بيانها، ولكن نشير إليها إشارة الخائف الوجل المرتعش المرتجف المتنصّل، ونكتفي بذكر نصّ العبارة، ولا نظنّ أنّ ثمّة حاجة إلى كثير تأمل حتّى يبلغ المعنى إلى المتلقّي سوى أن يعرف معنى (الكناسة).. «حتّى رُميَ على كناسة!!! الكوفة»..
إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ص: 392
وبعث عبيد الله برأس مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة إلى يزيد بن معاوية ((1)).
وبعث برأسه [عمارة بن صلخب] مع رأس مسلم وهانئ إلى يزيد بن معاوية، وكان رسوله بهذه الرؤوس هانئ بن أبي حية الوادعي من همدان ((2)).
ثمّ بعث عبيد الله برؤوسهما إلى يزيد، وكتب إليه بالنبأ فيهما.
وكان أنفذ الرأسين إليه مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي ((3)).
قال أبو مخنف: عن أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي قال: ثمّ إنّ
ص: 393
عبيد الله بن زياد لمّا قتل مسلماً وهانئاً، بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتاباً أطال فيه -- وكان أوّل من أطال في الكتب --، فلمّا نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اُكتب: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين -- أكرمه الله -- أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتُهما فضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ مِن أمر، فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً، والسلام ((1)).
وعزم أن يوجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية.
قال: [ثمّ] كتب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين، من عبيد الله بن زياد، الحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين -- أيّده الله -- أنّ مسلم بن عقيل الشاقّ للعصا قدم إلى الكوفة، ونزل في دار هانئ بن عروة المذحجي، وأنّي جعلتُ عليهما العيون حتّى استخرجتُهما، فأمكني الله منهما بعد حربٍ ومناقشة، فقدمتهما فضربت
ص: 394
أعناقهما، وقد بعثتُ برأسيهما مع هانئ بن [أبي] حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا يحب، فإنّهما ذو عقلٍ وفهم وصدق ((1)).
وحمل رأسه [مسلم] إلى دمشق، و[هذا] أوّل رأسٍ حُمل من رؤوسهم [رؤوس بني هاشم] إلى دمشق ((2)).
ثمّ بعث عبيد الله بن زياد برأسَي مسلم بن عقيل بن أبي طالب وهانئ بن عروة مع هانئ بن [أبي] حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية ((3)).
ولمّا قُتل مسلم وهانئ (رحمة الله عليهما)، بعث عبيدُ الله بن زياد برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد ابن معاوية، وأمر كاتبه أن يكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب الكاتب -- وهو عمرو بن نافع -- فأطال فيه، وكان أوّل مَن أطال في الكتب، فلمّا نظر فيه عبيد الله كرهه، فقال: ما هذا التطويل وما هذه الفضول؟ اُكتب: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلتُ عليهما المراصد والعيون، ودسستُ إليهما
ص: 395
الرجال، وكدتُهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير ابن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمرهما، فإنّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً، والسلام ((1)).
وأمر بكلّ مَن عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأُتي به إلى قومه، فضُربَت عنقه فيهم، وبُعث برؤوس مَن قُتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصة ((2)).
وبعث ابن زياد برأسهما إلى يزيد بن معاوية ((3)).
قال: ثمّ كتب ابن زياد إلى يزيد: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد، الحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه.. ثمّ ذكر قدوم مسلم بن عقيل وذكر هانئ ابن عروة، وكيف أخذهما وكيف قتلهما، ثم قال: وقد بعثتُ برأسيهما مع هانئ بن [أبي] حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحب، فإنّ عندهما علماً وفهماً وصدقاً وورعاً ((4)).
ص: 396
وأنفذ رأسهما إلى يزيد في صحبة هانئ بن حيوة الوادعي ((1)).
وكتب عبيد الله إلى يزيد: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، إنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة، فكدتُهما حتّى استخرجتُهما، وضربتُ أعناقهما، وقد بعثت برأسيهما ((2)).
وبعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد ((3)).
وبعث عبيد الله بن زياد برأس مسلم وهانئ إلى يزيد بن معاوية مع الزبير بن الأروح التميمي -- أحد بني مالك بن سعد -- ومع هانئ بن أبي حية الوداعي، وأخبره بأمرهما ((4)).
وبعث ابن زياد برأس مسلم بن عقيل إلى دمشق إلى يزيد، وهو أوّل رأسٍ حُمل من رؤوس بني هاشم.
وبعث برأسه ورأس هانئ بن عروة إلى يزيد، وكتب إليه: الحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه ((5)).
قال الراوي: وكتب عبيد الله بن زياد بخبر مسلم وهانئ إلى يزيد بن معاوية ((6)).
ص: 397
ثمّ بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، وكتب له كتاباً صورة ما وقع من أمرهما ((1)).
وأرسل برأسه إليه ((2)).
ثمّ إنّ ابن زياد (لعنه الله) بعث كتاباً إلى يزيد (لعنه الله)، يخبره بقصّتهما ((3)).
ثمّ إنّ ابن زياد (لعنه الله) لمّا قتل هانئاً ومسلماً، أنفذ برأسهما إلى يزيد (لعنه الله)، وكتب: الحمد لله الّذي أخذ للخليفة حقّه، وكفاه عدوّه، واعلم أيّها الخليفة أنّ مسلم بن عقيل (علیه السلام) ورد إلى هانئ بن عروة، فعرضتُ عليهما المراصيد، فضربتُ أعناقهما، وأنفذتُ إليك برأسهما ((4)).
ذكر ابن سعد في (الترجمة) والذهبي في (التاريخ) والطبري وابن أعثم وابن حبان والمفيد والطبرسي والخوارزمي وابن شهرآشوب وابن الجوزي وابن الأثير والنويري وابن نما وسبط ابن الجوزي وابن كثير، أنّ ابن الأمة الفاجرة بعث برأس مسلم وهاني إلى القرد الأموي المجدور، فيما ذكر
ص: 398
المسعودي وابن حجر مسلماً فقط.
وثمّة رأسٌ ثالث ذكره البلاذري في (الجُمل)، وهو رأس عمارة بن صلخب الأزدي، وأفاد نصّ مسكويه أنّه بعث برؤوس مَن قتل من الشيعة وأنصار المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) .
وربما اقتصر المسعودي وابن حجر على ذكر مسلم بن عقيل (علیه السلام) بالخصوص باعتباره الأصل وأنّهما في معرض الحديث عنه.
ولا يبعد قول البلاذري ومسكويه باعتبار الأغراض المتوخاة من بعث الرؤوس لدى الطغاة من التخويف والترهيب والإرعاب والتبجّح، وقد أمر الخبيث أن يقتل الشهيد السعيد عمارة بن صلخب في الأزد ((1))، زيادةً في استخفاف القوم وتخويفهم وترويعهم وتذليلهم كما لا يخفى.
ويبقى العدد الّذي ذكره مسكويه غير محدد!
وربما اقتصر البلاذري وابن شهرآشوب على ذكر الأوّل باعتباره المكلَّف الرئيسي والثاني تبع ومعين له، فاكتفيا بذكر المأمور الأصلي.
ما أقسى قلوب هؤلاء الأجلاف وأغلظ أكبادهم! يطوي الصحاري والفيافي، ويقطع الليل والنهار، ويأكل ويشرب، وينام ويسترخي، ويضحك ويلهو ويلعب.. وهو يحمل معه رؤوساً مقطوعة! رؤوساً يسطع منها النور وتعلوها المهابة والجلالة.. رأس مفصول محزوز عن البدن! ووجه وضّاء مغسل بالدماء.. محاسن مخضبة مرملة.. جباه فيها سيماء السجود لله الواحد الأحد.. عيون شابحة إلى الله أحكم الحاكمين.. كيف كانوا يسيرون بها؟! وحوش كاسرة وذئاب مسعورة! يقطعون المنازل والمسافات، ويطوون الفيافي والمفاوز، ويعلون الجبال ويهبطون الوديان، جذلانين مسرورين مبتهجين فرحين، يحملون معهم رؤوساً! رؤوساً مقطوعة ليُدخِلوا بها السرور على قلب القرد المتوحّش القابع في قصور الشام وأقبية السقيفة! وينالوا الجائزة! ألا لعنة الله على الظالمين!
ويكفي في تعريفهما ما ذكره ابن زياد في حقّهما وهو يقدّمها ليزيد، فشهد لهما أنّهما من أهل السنّة والجماعة والسمع والطاعة والنصحية، كما هو محصّل كلام الطبري وابن أعثم والشيخ المفيد والخوارزمي، ونعتهما بالعقل والعلم والورع والفهم والصدق..
ولكي يُعرَف مَن هذان الوحشان من خلال شهادة الدعيّ ابن الدعي،لابدّ أن نعرف ما وصف به الخبيث المولى العالمَ العارفَ والعبدَ
ص: 400
الصالح مسلم بن عقيل (علیه السلام) كلّما ذكره، وما وصف به سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) والطيّبين الأبرار من أنصاره وأهل بيته.. فإذا كان هؤلاء الّذين طهّرهم الله واختصّهم وانتجبهم واصطفاهم عنده بتلك الصفات، فيُعرَف حينئذٍ معنى العقل والعلم والصدق والورع الّذي نعت به جرذانه وأدعياءه..
وويلٌ لمن شهد له ابن الأمة الفاجرة عند يزيد الفاجر الزاني السكّير بأنّه من أهل السمع والطاعة والنصيحة.. النصيحة لأولاد البغايا وأعداء الله ورسوله! وويلٌ له وقد صدّق يزيد مقال ابن زياد بهما واستوصى بهما خيراً ((1)).
صرّح المسعودي وسبط ابن الجوزي أنّ رأس المولى الغريب مسلم بن عقيل (علیهما السلام) هو أوّل رأس هاشميّ يحمَل، والظاهر أنّه الأول في التاريخ؛ لإطلاق العبارة، وعدمِ تسجيل واقعةٍ من هذا القبيل قبل يوم سفير الحسين (علیه السلام) ، فيما شهد به المسعودي في إطلاق عبارته.
وقد حاز البطل الهاشميّ سابقة الفخر هذه ونال الرتبة السامية، وواسى سيّده سيّد شباب أهل الجنّة (علیه السلام) وصحبه وأهل بيته، ورافقهم في بقيّةالطريق من الشام.
ص: 401
اختصر السيّد ابن طاووس وابن كثير الكلام في الكتاب، واكتفيا بالقول أنّ ابن زياد كتب كتاباً إلى يزيد يخبره بما جرى ((1)).
وذكر الطبري وابن أعثم نصّ الكتاب، وبينهما اختلاف يسير، بيد إنّه له دلالاته، ولذا سنكتفي بذكرهما:
قال الطبري والشيخ المفيد: ... أمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتاباً أطال فيه، وكان أوّلَ من أطال في الكتب، فلمّا نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اُكتُب: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبرُ أميرَ المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرجال، وكدتُهما حتّى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدّمتهما فضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر، فإنّ عندهما علماًوصدقاً وفهماً وورعاً، والسلام ((2)).
وقال ابن أعثم: [ثمّ] كتب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية: بسم الله
ص: 402
الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين، من عبيد الله بن زياد، الحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين أيّده الله أنّ مسلم بن عقيل الشاقّ للعصا قدم إلى الكوفة، ونزل في دار هانئ بن عروة المذحجي، وأنّي جعلتُ عليهما العيون، حتّى استخرجتهما، فأمكني الله منهما بعد حربٍ ومناقشة، فقدمتهما فضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ برأسيهما مع هانئ بن [أبي] حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا يحب، فإنّهما ذو عقلٍ وفهمٍ وصدق ((1)).
وقد احتوى الكتاب -- حسب النصَّين -- على جملةٍ من المعلومات، نشير إليها باختصار شديد:
المعلومة الأُولى: التصريح بأسماء حاملي الرؤوس.
المعلومة الثانية: أنّ كاتب ابن زياد هو عمرو بن نافع، وقد أطال، وكان أوّل من أطال في الكتب، ويبدو أنّ هذه المعلومة الّتي زرقها الطبري هنا غير دقيقة، فإنّ أمير المؤمنين وسيّد الموحدين (علیه السلام) كتب كتباً طويلةمنها عهده لمالك الأشتر.
المعلومة الثالثة: أنّ الكتاب من ألفاظ ابن زياد، لأنّه يصرّح أنّه كره التطويل وأمره أن يكتب ما يمليه عليه.
المعلومة الرابعة: احتوى الكتاب على حزمة معلوماتية امتازت بتشويه
ص: 403
الحقائق، واحتشد فيها الكذب، وحشيت بالمبالغات الفجّة الّتي شاء ابن زياد أن يعظم فيها دوره ويتمطّى على يزيد ويفتل أمامه شاربه المدنس.
المعلومة الخامسة: بعث إلى يزيد بعبدين من عبيده المخلصين، اللّذَين يعتمد عليهما ويطمئنّ لقولهما وخبرتهما في الكذب والتزويق والتنميق وعرض الصورة المطلوبة له أمام سائسه.
وسنسمع في الإشارات التالية بعض كذباته المقصودة:
الكذبة الأُولى: حمد الله على شيءٍ يبغضه الله ويسخط عليه، في محاولةٍ بائسةٍ منه للتمويه والانتساب إلى الله، جلّ وعلا وتبارك سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون.
الكذبة الثانية: خطابه ليزيد الخمور والفسق والزنا بالمحرمات والفجور واللعب بمثله من إخوانه من القرود بأقدس خطاب (أمير المؤمنين)!
الكذبة الثالثة: زعمه أنّ الله أخذ ليزيد الفاجر حقّه من مسلم بنعقيل، وأيّ حقّ كان لهذا الدعي؟! وكيف أخذه الله له؟!
الكذبة الرابعة: زعمه أنّ الله كفى يزيداً مؤونة عدوّه، ولا زالت مؤونة عدوّ يزيد تلاحقه وستبقى «حتّى يبعث الله قائماً»!
الكذبة الخامسة: أنّ مسلماً (علیه السلام) لجأ إلى بيت هانئ في نصّ الطبري، في إشارة إلى ما يريد أن يروّجه المؤرّخ عن المولى الغريب (علیه السلام) ويرسمه لابن زياد من دور فاعل فيما يأتي من كلامه.. وهذا ما فرضه ابن زياد على التاريخ، فجرى قلم المؤرّخ بما أراد وسرى في الصفحات حتّى اقتنع به
ص: 404
القاصي والداني..
يلاحَظ الخبث في تعبير: «لجأ»، فيما عبّر ابن أعثم: «نزل»، ولفظ أبي مخنف في (المقتل المشهور): «ورد».
إنّ الفتى الطالبي دخل بيت هاني قاصداً غير مضطرٍّ ولا مُكرَه ولا لاجئ، بل دخل ضمن خطّته الّتي رسمها له سيّد الشهداء (علیه السلام) الّذي أوصاه أن ينزل عند أوثق أهلها، وقد بايعه في تلك الدار ثمانية عشر ألفاً!
الكذبة السادسة: رسم الخبيث لنفسه دوراً عرضه أمام يزيد، ليعلن على رؤوس الأشهاد ويسجّله له التاريخ، وكأنّه قد بادر واستقصى وكاد واحتال واستعمل أساليبه الفريدة فاستخرج مسلماً وهانياً.. ومن هنا نفهم اللّغز في تسخير قصّة معقل وما شاكلها المنسوجة على نفس هذا المنوال والطامحة لتأكيد هذا المقال..جعلت عليهما العيون؟! ودسست إليهما الرجال؟! وكأنّه يريد أن يمتطي أكتاف يزيد ويركب عنق التاريخ، ليسيّره كيف يشاء ويملي عليه ما يسجله.. أيّ عيونٍ جعلها عليهما وقد فتحا باب دار هاني لاستقبال أفواج المبايعين؟! وأيّ رجلٍ استطاع أن يخترقهما ويخدعهما؟! إنّها كذبة فجّة وقيحة تدنّس ساحة القدس الطاهرة لأصحاب الحسين وسيوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ، وقد أتينا على مناقشتها مفصّلاً تحت عنوان (قصّة معقل) وغيرها من الدراسات..
الكذبة السابعة: ساق الدعيّ قصته باقتضاب مقصود؛ «استخرجتهما
ص: 405
وأمكن الله منهما فقدّمتهما فضربت أعناقهما..»، هكذا بسهولة وبتفريع بالفاء المستعجلة، وكأنّهما لقمة سائغة لآكل متنزه.. وكأن لم تتزلزل الكوفة، ولم يخنس منكوساً في أقبية السقيفة، ولم ينجحر في ظلمات قصر الخبال، ولم يقتل رجاله وصناديده، ولم يحدث أكثر من أن يكون رجل التجأ إلى رجل واختبئا معاً واختفيا، فجعل عليهما العيون ودسّ إليهما الرجال.. دسّ خفية فالتقطهما، فقدّمهما على عجلٍ وضرب أعناقهما وبعث برأسيهما! جعل العيون ودسّ الرجال.. وكأن لم تكن كتائب القوم تُسحَق ورؤوسهم تطير بسيف البطل الهاشمي!!
وقد جاءت زيادة في نصّ ابن أعثم تنسجم أكثر مع مجريات الأحداث، حيث قال: «فأمكني الله منهما بعد حربٍ ومناقشة».
البلاذري: كتب إليه (يزيد): أنّك لم تعد ان كنت كما أُحبّ، عملتَ عمل الحازم، وصلتَ صولة الشجاع، وحققتَ ظنّي بك. وقد بلغني أنّ حسيناً توجه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح وأذك العيون، واحترس كلّ الاحتراس، فاحبس على الظنّه، وخذ بالتهمة، غير أن لا تقاتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ يومٍ بما يحدث من خبر إن شاء الله ((1)).
الدينوري: فكتب إليه يزيد: لم نعد الظنّ بك، وقد فعلت فعل الحازم
ص: 406
الجليد، وقد سألتُ رسولَيك عن الأمر، ففرشاه لي، وهما كما ذكرتَ في النصح وفضل الرأي، فاستوصِ بهما. وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد فصل من مكة متوجّهاً إلى ما قبلك، فأدرك العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، وقم أفضل القيام، غير إلّا تقاتل إلّا من قاتلك، واكتب إليّ بالخبر في كلّ يوم ((1)).
الطبري: فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أن كنت كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيتَ وكفيت وصدّقتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتُهماوناجيتهما، فوجدتُهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ وخُذ على التهمة، غير إلّا تقتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة الله ((2)).
إبن أعثم: ثمّ كتب إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد إذا كنتَ كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابض، فقد كفيت ووقيت ظنّي ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتُهما عن الّذي ذكرت، فقد وجدتهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت،
ص: 407
وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم، وسرّحتهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر واحترس، واحبس على الظنّ، واكتب إليّ في كلّ يوم بما يتجدّد لك من خير أو شرّ، والسلام ((1)).
المفيد: فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أن كنت كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيتَوكفيتَ وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة، واكتب إليّ فيما يحدث من خبر إن شاء الله ((2)).
الخوارزمي: ثمّ كتب لابن زياد: أمّا بعد، فإنّك عملتَ عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجاش، فكفيت ووفيت، وقد سألتُ رسوليك فوجدتهما كما زعمت، وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم، وسرّحتُهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد عزم على المصير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّ واقتل على التهمة، واكتب في ذلك إليّ كلّ
ص: 408
يومٍ بما يحدث من خبر ((1)).
ابن شهرآشوب: كتب: قد بلغني أنّ الحسين قد عزم إلى المسير إلى العراق، فضع المراصد، واحبس على الظنّ واقتل على التهمة حتّى تُكفى أمره ((2)).
ابن الأثير: فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له: وقد بلغني أنّ الحسينقد توجّه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التهمة وخذ على الظنة، غير أن لا تقتل إلّا من قاتلك ((3)).
ابن طاووس: فأعاد الجواب إليه يشكره فيه على فعاله وسطوته، ويعرفه أن قد بلغه توجّه الحسين (علیه السلام) إلى جهته، ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة والانتقام والحبس على الظنون والأوهام ((4)).
ابن نما: وكتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: قد بلغني أنّ حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان وابتُليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ((5)).
النويري: فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له: قد بلغني أنّ الحسين بن
ص: 409
عليّ توجّه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التهمة وخذ بالظنّة، غير إلّا تقتل إلّا من قاتلك ((1)).
الطريحي: فكتب إليه الجواب يقول: كنتَ كما أردتُ وفعلتَ ما أحببتُ وصدقتَ ظنّي فيك، وقد بلغني أنّ الحسين متوجّهٌ إلى العراق، فضع عليه المراصيد، واكتب إليّ بما يحدث من الأُمور، والسلام ((2)).أبو مخنف: قال: فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد فرح واسترّ، ثمّ كتب جوابه: أمّا بعد، فقد علمت أنّك أحبّ الناس إليّ، ولعمري لقد نصحت وأغنيت وكفيت وصلت صولة الأسد، ولقد دعوتُ رسولَيك وسالتُهما عمّا شرحت، فوجدتهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغني أنّ الحسين توجّه إلى العراق، فضع المراصد واكتب إليّ كلّ يومٍ بخبره ((3)).
احتوى الكتاب الموجَّه من القرد الأموي إلى جروه المسعور ابن زياد على مقاطع أصلية:
شكر اللعين فعلة ابن زياد من خلال وصفه ونعت فعله، فوصفه:
ص: 410
إنّه كما يحبّ وكما كان يظنّ فيه ويتوقّعه وينتظره، إذ إنّه يعرف من قبل ابن زياد وأبيه، فإنّهما منذ أن دنّسا الأرض بأقدامهما، نشئا تحت أغصان الشجرة الملعونة يرعيان في بستان القرود الأموية، حتّى نسب معاوية زياداً إلى أبيه!
وتاريخ ابن زياد البطاش المجرم الّذي يسفك الدم الحرام ولا يمتنععن ارتكاب جميع الآثام وهو يلهو ويلعب وكأنّه لم يفعل شيئاً، كما شهد به المولى العارف العالم ابن عقيل!
ولا يخفى أنّ يزيداً الخبيث إنّما شكره على قتل البطل الهاشمي وأنصاره وشيعة أمير المؤمنين، وفق ما حدّث به ابن زياد نفسه وأخبره به الرسولان.. وهو قد شوّه الأحداث وغيّر الحقائق بالشكل الذي يبدو فيه بطلاً شجاعاً وذكياً حاذقاً ماهراً، ولم ينقل له الحقيقة كما وقعت في الكوفة، ولم يفصّل ما فعله الفتى الطالبي، والحرج والمأزق الذي تورط به، والأيام الصعبة العسيرة المكفهرة الّتي أظلم نهاره عليه بظلّ مسلم بن عقيل الّذي سدّ عليه الفروج وجحره حتّى أوصد عليه أبواب القصر وبقي يتمنّى اللحظة الّتي تنقذه من هذا الوجود المهيمن على سير الأحداث والموجّه لمجرياته..
وقد عرفنا يزيد بما وصفه لنا التاريخ وما شهد به سيّد الشهداء وخامس أصحاب الكساء الحسين (علیه السلام) ، وبه نعرف من يكون رضاً له ومحبوباً لديه!
ص: 411
الحزم: ضبط الرجل أمره والحذر من فواته، وفي الحديث: أَنْ تَنْتَظِرَ فُرْصَتَكَ وتُعاجِلَ ما أَمْكَنَك، وكذا ورد في الحديث أيضاً في الحزم: الظفر بالحزم، والحزم بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار. فالحزم أن تقدم العمل للحوادث الممكنة قبل وقوعها ((1)).وهذا الوصف أبعد ما يكون عن ابن زياد، غير إنّه وصف ليزيد ما فعله، فكان وصف يزيد تكرار لما نسبه ابن زياد لنفسه، فقد زعم أنّه استقبل الأُمور مع مسلم بن عقيل استقبالاً وجعل عليه العيون ودسّ إليه الرجال، وغيرها من الفعال الّتي تفيد أنّه قد عرف بالضبط ما يدور حوله وأخذ زمام المبادرة بيده.. والحال أنّ سفير الحسين (علیه السلام) كان هو المبادر طيلة فترة وجوده في الكوفة حتّى وقع أسيراً بعد أن صرعته الجراحات الثقيلة وبلغ به العطش، بل حتّى بعد أن وقع في الأسر كان هو المهيمن على الموقف بلسانه ومواقفه وشجاعته، بحيث أخرس الطاغي وألقمه الأثلب والكثكث ملأ فمه.
وصفه بقوله: صلت صولة الشجاع.. الرابض ...
لابدّ ليزيد أن يشجّع جروه ويشدّ قلبه وأزره ويلقّنه أنّه كفوٌ لما أمر به؛ لأنّه يحتاجه فيما يستقبل من الأيام، ومضطرّ لعرضه كسلطان متسلّط
ص: 412
صاحب سطوة وبطش ليخيف به ويرعب الناس..
أيّ شجاعةٍ بدت من الدعي؟ في أيّ موقفٍ من مواقفه بين يدَي البطل الطالبيّ ثبت؟
أحين دخل النظارة وهم ينادون: جاء ابن عقيل، فانسلّ عن المنبر وترك جموع المحتشدين في المسجد يسمعون خطابه وانجحر في القصروأوصد الأبواب؟!
أم حين تفرّق عسكره في الكوفة بعد أن نودي بالشعار، فبقي يقرض ذيله ويتشبّث بالرجال حوله استيحاشاً؟!
أم حين انفضّ الجمع وولّوا الدبر ليلة أحاطوا بالقصر، فأبى أن يخرج إلّا أن تنزل شعل نيران المشاعل وتمسح ما تحت التخاتج؟!
أم حين أراد أن يصلّي بالناس وقد أحاط به الحرس والشرطة وجعل الحرس الخاص حوله وكلّف أمير شرطته أن يبقى واقفاً مراقباً؟!
لم يظهر في المسجد للناس إلّا بعد أن كان يطمئنّ من تأمين الحماية الكافية، فيخرج والسيوف تلمع بين يديه وتحيطه من كلّ حدب كالحلقة.. وهو مع ذلك يتلدّد يميناً وشمالاً؟!
لم يسجّل له أيّ مواجهةٍ مع البطل الطالبيّ قبل أن يقع في الأسر.. وبعد الأسر كان يرتجف رغم سطوة السلطان، ولم يمثل بين يدَي سفير الحسين إلّا بعد أن توثق من وثاق الأسد الهصور وأنّه قد كُتِف، ومع ذلك فقد أدخل إلى المجلس والجلاوزة تحيط به.. خوفاً وفرقاً من سطوة سليل
ص: 413
إبراهيم الخليل!
لقد شهد التاريخ والنسب والحسب والسيرة الذاتية كلّ صور البطولة والشجاعة لمسلم بن عقيل (علیه السلام) ، ولازالت ذكريات بسالته وشجاعته وسطوته ترنّ في أسماع الزمن وتتجاوب بها جدارن المسجد الأعظم وقصرالإمارة.. كما قد شهد التاريخ بجبن ابن الأمة الفاجرة رغم بطشه إذا كان معه أحد، وقد أتينا على تفصيل ذلك في دراساتٍ سابقة.
وصفه بأنّه رابط الجأش، والجَأْش: القلب، والنفْس، والجَنان. يقال: فلان رابط الجَأْش: أي ثابت القلب، لا يرتاع ولا ينزعج للعظائم والشّدائد ((1)). والقلب وهو رواعة إذا اضطرب عند الفزع، يقال: فلانٌ رابط الْجَأْشِ: أي ربط نفسه عن الفرار لشجاعته ((2)).
والكلام هنا تماماً كالكلام في وصفه بالشجاعة، وأيّ قلبٍ كان لابن زياد وأيّ ثبات ورباطة جأش وهو يتفرقع كالشعيرة على حديدةٍ محماة، ولا يهدأ له روع مع كلّ ما يحيط به من جند وشرطة وغوغاء؟! وقد سلبه مسلم بن عقيل قراره وأفرغ قلبه وجعله خاوياً مضطرباً، وهو وحده لا ناصر له ولا معين!
لقد كانت صورة مسلم بن عقيل وشجاعته وصولته تجيش في أعماق
ص: 414
ابن زياد الرعب والخوف، فكان يجيّش لها الذئاب الّتي تحوطه لتمزّق أوصاله، أمّا هو نفسه فقد التصق بجدران القصر العالي الأسوار المنيع المحصّن بالأبراج كأنّه القلعة المنيعة.. وقد ملأ الكوفة خيلاً ورجالاً، وحشّدالغوغاء وشيوخ العشائر والعرفاء، ومسلم وحده يدير الميدان كما يحلو لسيفه، ويستحثّ ملك الموت ومالك خازن النيران ويوجّههما حيث يشاء!
أجل، لابن زياد قدم راسخ وجأش رابط في الإقدام على حرمات الله وارتكاب كلّ ما حرّمه الله، إرضاءاً لعبدة الشيطان واتباعاً لمردة عفاريت السقيفة والمجرمين بحقّ البشريّة طول الزمان.
وهكذا قِس بقيّة ما وصف به القرد المجدور جروه المسعور في باقي الكتاب..
أفادت جملة النصوص الواردة فيما ذكره القرد المجدور يزيد حول الرسولين ورأيه فيهما عدّة نقاط:
المفروض أنّهما رسولان لقرد هند ويحملان معهما كنزاً ثميناً وبشرى لابن آكلة الأكباد، فلابدّ أن يستقبلهما ويستلم منهما الكتاب والرؤوس.
بيد إنّه عبّر عن ذلك بالدعوة، أو إنّه خصّهما بدعوة وأقام لهما مأدبة
ص: 415
وخلى بهما لتكون لهما ميزة وزلفة خاصة، ويُشعِرهما وغيرهما أنّهما مقرّبان، كما تفيد لفظ «وناجيتهما»، والإقبال عليهما بالسؤال منهما والاهتمام بشأنهما.
إنّهما شرحا له ما ذكره ابن زياد وفرشاه له وأطالا فيما اختصره الكتاب، وقد شهد يزيد أنّهما تحدّثا تماماً كما ذكر ابن زياد، فهما رسولان من عنده ومكلَّفان من قِبله أن يرسمان للقرد المجدور الصورة الّتي يريدها هو وفق مشتهياته، فهما لم يحدّثاه بما جرى كما جرى وإنّما كما أراد ابن زياد أن يخبر به ويرسمه.
لقد شهد ابن زياد لهذين العلجين بالنصيحة والإخلاص والرسوخ في مذهبهما، فلمّا خالطا القرد المخمور واستروح منهما قيأه شهد لهما بجميع ما شهد لهما به جروه، وفي هذا كفاية لمعرفتهما والاطلاع على مدى انصهارهما في الولاء لأولاد البغايا.
أمر يزيد لكل واحدٍ منهما بعشرة آلاف، كما في نصّ ابن أعثم والخوارزمي، واستوصى بهما ابن زياد! فأيّ بشرى أدخلاها على قلب هذا القرد المنحط، وأيّ شيءٍ وجد فيهما وعرفه في خلالهما وخصالهما وخلوصهما ونصيحتهما، بحيث نالا عنده الحظوة وتقرّبا إليه بهذه الخطوة؟
ص: 416
أشار القرد الأبقع في ذيل كتابه إلى خبر مهم بلغه، وهو توجّه سيّد شباب أهل الجنّة إلى العراق! والحال أنّ سيّد الشهداء (علیه السلام) توجّه إلى العراقفي الثامن من ذي الحجّة، وهو يوم النداء بالشعار، فكان خروجه من مكّة بعد أن استتبّ الوضع وأعلنت الكوفة إذعانها وخنوعها وخضوعها الكامل للسلطة، وقد استبق الأحداث باتخاذ كلّ التدابير لملاحقة سيّد الشهداء ومحاصرته واستئصال آل محمّد وذرية الطاهرة البتول فاطمة الزهراء (علیها السلام) ، وهو اليوم الّذي كان يسعى إليه الثائرون لقتلى بدر وأُحد والأحزاب ويتمنّاه جرذان السقيفة ورؤوسها ويخطّط له ذراري القرود والوزغ.. ليتسنّى لهم ترويح جمرة الانتقام الّتي لا تخمد في قلوبهم الوغرة على النبيّ وأمير المؤمنين علي (علیه السلام) ..
فقد حاصره الرجس النجس في مدينة جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله) ومسقط رأسه حتّى خرج منها تحت جُنح اللّيل البهيم، وأمر أن تؤخذ منه البيعة وإلّا فهو ينتظر على عجل رأسه مع جواب الكتاب.. ثمّ حاصره في مكّة حرم الله الآمن، ودسّ شياطينه ليُقتَل ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.. فخرج الإمام الغريب المظلوم مشرَّداً مطارَداً، متوجّهاً إلى الأرض الموعودة ميمِّماً كربلاء، وإن كانت وجهته المعلَنة الكوفة الّتي وعدته النصرة والوفاء.. بيد إنّه سمع في الطريق -- بغضّ النظر عن علم الإمامة -- بنبأ شهادة مسلم (علیه السلام) ومَن معه، وارتداد الناس هناك وفقدان الناصر، وأن ليس له فيها سيف ولا
ص: 417
كسر سيف، وأنّ الصحراء قد نظمت خيلاً ورجالاً، وأُطبق على الكوفة ومداخلها ومخارجها إطباقاً لا يسمح أن يتسلّل إليها أحدٌ إلّا إذا فُتّش، ومعذلك استمرّ في المسير..
* * * * *
قد أصدر ابن آكلة الأكباد حزمةً من الأوامر لجروه المتوحّش في ذيل الكتاب تخصّ مستقبل الأحداث المترقبة القريبة:
الأمر الأوّل: وضع المناظر والمسالح، ووضع الإرصاد على الطرق.
الأمر الثاني: إذكاء العيون.
الأمر الثالث: الاحتراس كلّ الاحتراس.
الأمر الرابع: الحبس على الظنّة.
الأمر الخامس: الأخذ بالتهمة والقتل على التهمة حتّى يكفى أمر سيّد الشهداء (علیه السلام) .
الأمر السادس: أن لا يقاتل مَن لا يقاتله.
الأمر السابع: أن يكتب إليه في كلّ يوم بما يحدث من خبر ويتجدّد من خير أو شرّ. ولا ندري ما إذا كان البريد يصله كلّ يوم أو خلال أيام قليلة جدّاً بحيث يصدق عليه أنّه يكون مطّلعاً على كلّ ما يحدث ويتجدّد..
هذه الأوامر الصارمة تكشف عن أجواء الرعب الّتي خيّمت على المنطقة الممتدة في الصحراء الّتي يتحرّك فيها الركب الحسيني الفاتح، وتنبئ عن الارتجاج والزلزال الهائل الّذي ضرب الكوفة وضواحيها ومخارجها
ص: 418
وموالجها، فالعيون حادّة محدقة تحصي الأنفاس في جميع الأرجاء، وتمتدّ إلى أقصى الخصوصيّات، وتخترق حريم العشائر والقبائل والدور والبيوت والقوافل، والحركة مرصودة ولو كانت دبيباً في رمال المفاوز والصحاري والقفار، والمسالح والمناظر والمراصد مزروعة في كلّ اتجاه، والربايا تجعل الطرق تحت الإشراف المباشر لملاحقات العساكر.. العساكر الّتي كانت تجوب الصحراء تبحث عن الصيد السماويّ الأعظم، المتعطّشة للولوغ في الدماء الزاكية، المتألبة على انتهاك حرم الله وحرم رسوله.. وقد أعدّت مخالبها وأنيابها لتقطيع أوصال العترة الطاهرة، واشتدّ ولعها وتجيّش توحشها لاستخراج العلقة من جوف سيّد الشهداء (علیه السلام) ..
وقد أُطلقت الوحوش الكاسرة على كلّ ما هبّ ودبّ في الكوفة، لتكون مجرد التهمة كافية لاستباحة الحريم، والظنّة موجبةً لسفك الدم..
لقد التهبت شوارع الكوفة وأزقتها، وانتشرت النار إلى أطرافها وأكنافها والمنازل والطرق المؤدية إليها.. واستسلم الناس فيها للطاغية حينما استخفّهم فأطاعوه.. فازدحمت المناهج والسكك بالرجال، يتكالبون على التقرّب إلى ابن الأمة الفاجرة، فارتفع الضجيج وتعالى الصخب، وانبثت الضوضاء تلفّ الأجواء، وتداخلت أصوات قعقعة السلاح وصهيل الخيل ودبك حوافرها وسنابكها وأزيز شحذ السيوف وبري الرماح وقدح النبال، وزعقات الرجال يخبطون الأرض ويثيرون رمال الفيافي والصحراء يستعدّون لارتكاب الجريمة العظمى..
ص: 419
فأغضبت
اللهَ في قتله
وأرضَت
بذلك شيطانها
عشيّةَ
أنهضها بغيُها
فجاءته
تركبُ طغيانها
بجمع من
الأرض سدّ الفروج
وغطّى
النجود وغيطانها ((1))
وأمّا أمره أن لا يقاتل مَن لا يقاتله -- كما ورد في بعض المصادر --، فلئلّا يتورّط في حربٍ جانبيّة ويتشاغل بصراعاتٍ تفرّق عسكره وتبدّد قوّته وتُضعِف جانبه في الحرب الّتي يسعى لها حفيد أبي سفيان، فلا يحقّق له ما يروم من قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) .
ذكر الشيخ ابن نما الكتاب محتوياً على تهديدٍ غليظ، قال: وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان وابتُليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ((2)).
ربما كان هذا في ذيل تلك المقدّمة والأوامر الصادرة من ابن آكلة الأكباد، ليذكّره بماضيه ويحسسه بمزايا الوضع الّذي هو يعيشه الآن، ويجعل له حافزاً إضافياً في قتاله مع سيّد الشهداء (علیه السلام) .. فالقضيّة لا تتوقّف بعدئذٍ عند أحقاد ابن زياد وحوافزه الخاصّة ومنطلقاته وعقائده الأصلية..وإنّما تحولت إلى وجود أو عدم؛ أن يكون أو لا يكون.. سلطنة وتفرعن
ص: 420
وإمارة وحظوة وعود خاص يتميّز به من فروع الشجرة الملعونة وحشر مع قرودها المتدلية من أغصانها في الجحيم، أو عبودية ورقّية وطرد من حظيرة القرود!!
ومن هنا يمكن أن تلوح أحقاد يزيد واستعجاله في قتل سيّد الشهداء (علیه السلام) وتربصه لهذا ليوم الثأر، وقوّة نهمه لشرب الدماء الزواكي والتشفّي واستنهاض المشايخ الذين أطاح رؤوسهم أمير المؤمنين في بدر..
ص: 421
ص: 422
قال ابن أعثم: فلمّا ورد الكتاب والرأسان جميعاً إلى يزيد بن معاوية، قرأ الكتاب، وأمر بالرأسَين فنُصِبا على باب مدينة دمشق ((1)).
وقال ابن شهرآشوب: فنصب الرأسين في دربٍ من دمشق ((2)).
وقال ابن نما: فلمّا بلغه الكتاب مع الرأسين فرح فرحاً شديداً، وأمر أن يُصلَبا على باب دمشق ((3)).
لقد فرح الطاغية القرد المجدور، وأمر بنصب الرأسين المقدّسين على باب دمشق، كما نصب رأس سيّد الشهداء (علیه السلام) وأصحابه الأبرار الأوفياء، وما أشوق مسلم بن عقيل لرؤية وجه الحسين! وقد التقيا..
ص: 423
فعن بعض المقاتل أنّ رأس مسلم كان معلَّقاً على باب دمشق إلى ورود الرؤوس وأهل البيت إلى الشام، فلمّا وصلوا في الباب انحنى رأس الحسين (علیه السلام) ، وكذلك رأس مسلم انحنى، وتعانقا، وجرت الدموع على خدّيهما.. ((1)).
إنّ بقاء الرؤوس المقدّسة كلّ هذه المُدَد الطويلة حيّة كأنّها بعد لم تُفصَل عن أبدانها حتّى يميّزها الناظر فيعرف الرأس وينسبه إلى صاحبه، لَمِن المعاجز الّتي لا يُلتفَت إليها غالباً.. الرأس محزوز، قطيعٌ مفصولٌ عن البدن، معرَّضٌ للهواء والشمس وعوامل التأثير الأُخرى الّتي تؤثّر في البشرة الحيّة الّتي يسري فيها الدم وهي لا تزال على حالها.. إنّها لمن كرامة الله ومعاجز الأولياء المقرّبين.
بيد أنّنا نقرأ الخبر غالباً ونمرّ عليه مروراً سريعاً، كما يذكره المؤرّخ ويمرّ بسرعة على عادته في هذه المواضع.. وربما علّل ذلك بتعليلٍ من عند نفسه، فيغفل القارئ عن النظر في غير ما يعلّله المؤرّخ باعتباره قد وفّر له سابقة يقرأ الخبر من خلالها.. كما فعل الطبريّ وابن حجر حينما رويا جناية خالد بن الوليد مع رأس الشهيد مالك بن نويرة.قال ابن حجر: أنّ مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلمّا قُتل أمر
ص: 424
خالد برأسه فنصب أثفية لقدر، فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شؤون رأسه ((1)).
وفي لفظ الطبري: فإنّ القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشره حرّها أن يبلغ منه ذلك ((2)).
فجاء مَن روى عنه ونقله مع التعليل البارد، ولم يسأل نفسه أن لو كان الشعر جبلاً لاحترق بأول شرارة نار تصل إليه في لحظات، فكيف بشعر رأسٍ واحد؟! فهو مهما كان كثيراً وكثيفاً فإنّه لا يبقى هذه المدّة بتاتاً في الحالة العادية..
لم لا يقال: إنّها كرامة من الله لهذا الرجل المطيع لله في وليّه والمقتفي أثر وصيّه، وإعلاءاً لشأنه وتنويهاً بحفظ الله له من شماتة الأعداء وتشفيهم، ودحضاً للقوم وكسراً لحجّتهم التافهة؟!!
وكذا هو رأس مولانا المظلوم ورؤوس الأطياب الأطهار، وقد نقلوا رأس المولى الغريب (علیه السلام) من الكوفة إلى الشام ونُصِب هناك وهو لا زال مسلماً، يراه الناس فيعرفونه بوجهه الوضاء المضرَّج بالدماء حيّاً مشرقاً يشعّ على الكون بأنواره..
ص: 425
ص: 426
إنّ ما مرّ من دراسة وبحث احتوى على نصوصٍ تكرّر توظيفها أحياناً بحكم الحاجة إليها في مواضع متعدّدة، أو لحاظاتٍ شتّى متعدّدة.
وثمّة نصوص أخرى استفدنا منها مرّةً واحدة بحكم الحاجة إليها.
وسنذكر هنا النصوص الأكثر استخداماً، لتكون في متناول القارئ الكريم، فربما قرأها وفهم منها غير ما فهمنا، أو تلقّف ما فاتنا وكان بالإمكان الاستفادة منه في بحثنا فلم نثبته، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ربما فاتنا في موضع من مواضع البحث أن نُرجِع إلى المصدر، فإنّه سيجده هنا، إن شاء الله تعالى.
ومسلم بن عقيل، وهو الّذي بعثه الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهما السلام) من مكّة يبايع له الناس، فنزل بالكوفة على هانئ بن عروة المرادي، فأخذ عبيد
ص: 427
الله بن زياد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة فقتلهما جميعاً وصلبهما، فلذلك قول الشاعر:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموتُ لونَه
ونضحَ
دمٍ قد سأل كلَّ مسيلِ ((1))
وجاء اللّيل، فهرب مسلم حتّى دخل على امرأةٍ من كِندة يقال لها: طوعة، فاستجار بها، وعلم بذلك محمّد بن الأشعث بن قيس، فأخبر به عبيد الله بن زياد، فبعث إلى مسلم فجيء به، فأنّبه وبكّته وأمر بقتله.
فقال: دعني أُوصي. قال: نعم.
فنظر إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: إنّ لي إليك حاجة، وبيني وبينك رحم.
فقال عبيد الله: أُنظر في حاجة ابن عمّك. فقام إليه فقال: يا هذا، إنّه ليس هاهنا رجلٌ من قريش غيرك، وهذا الحسين بن عليّ قد أظلك، فأرسِلْ إليه رسولاً فلْينصرف، فإنّ القوم قد غرّوه وخدعوه وكذبوه، وأنّه إن قُتِل لم يكن لبني هاشم بعده نظام، وعلَيّ دَينٌ أخذتُه منذ قدمت الكوفة فاقضِه عنّي،
ص: 428
واطلُب جثّتي من ابن زياد فوارها.
فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ فأخبره بما قال، فقال: قل له: أمّا مالك فهو لك لا نمنعك منه، وأمّا حسينٌ فإن تركنا لم نرده، وأمّا جثّته فإذا قتلناه لم نُبالِ ما صُنع به. ثمّ أمر به فقُتِل، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في ذلك:
إن كنت
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيل
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
أصابهما
أمر الإمام فأصبحا
أحاديثَ
مَن يهوى بكلّ سبيلِ
ترى
بطلاً قد هشّم السيفُ رأسه
وآخر
يهوى من طمار قتيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحج بقتيلِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ
يعني بأسماء ابن خارجة الفزاري، كان عبيد الله بن زياد بعثه وعمرو بن الحجاج الزبيدي إلى هانئ بن عروة، فأعطياه العهود والمواثيق، فأقبل معهما حتّى دخل على عبيد الله بن زياد فقتله.
قال: وقضى عمر بن سعد دَين مسلم بن عقيل، وأخذ جثّته فكفّنه ودفنه، وأرسل رجلاً إلى الحسين فحمله على ناقةٍ وأعطاه نفقة وأمره أن يبلغه ما قال مسلم بن عقيل، فلقيه على أربع مراحل فأخبره، وبعث عبيد الله برأس مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة إلى يزيد بن معاوية.
ص: 429
وبلغ الحسينُ قتلَ مسلم وهانئ، فقال له ابنه عليّ الأكبر: يا أبه، إرجع، فإنّهم أهل (كدر) وغدر وقلّة وفائهم، ولا يفون لك بشيء. فقالت بنو عقيل لحسين: ليس هذا بحين رجوع. وحرّضوه على المضي.
فقال حسين لأصحابه: قد ترَون ما يأتينا، وما أرى القوم إلّا سيخذلوننا، فمن أحبّ أن يرجع فليرجع. فانصرف عنه [الّذين] صاروا إليه في طريقه، وبقي في أصحابه الذين خرجوا معه من مكة ونفير قليل [من] من صحبه في الطريق ((1)).
وصلب عبيد الله ابن مرجانة هاني بن عروة المرادي بسوق الكوفة، ومسلم بن عقيل أيضاً ... ((2)).
قال: وأرسل جماعة إلى مسلم بن عقيل، فخرج عليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتّى أُخرج وأُسر.
فلمّا أسر بعث الرجال، فقال: اسقوني ماء.
قال: ومعه رجلٌ من بني أبي معيط ورجلٌ من بني سليم يقال له: شهر بن حوشب، فقال له شهر بن حوشب: لا أسقيك إلّا من البئر. فقال المعيطي: واللهِ لا نسقيه إلّا من الفرات.
ص: 430
قال: فأمر غلاماً له، فأتاه بإبريق من ماء وقدح قوارير ومنديل.
قال: فسقاه، فتمضمض مسلم فخرج الدم، فما زال يمسح الدم ولا يسيغ شيئاً منه حتّى قال: أخّروه عنّي.
قال: فلمّا أصبح دعا به عبيد الله بن زياد وهو قصير، فقدمه لتضرب عنقه، فقال: دعني حتّى أُوصي. فقال: أوص.
فنظر مسلم في وجوه الناس، فقال لعمرو بن سعيد: ما أرى هاهنا من قريش غيرك، فادنُ منّي حتّى أُكلّمك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت قريش؟ إنّ الحسينَ ومَن معه وهم تسعون بين رجلٍ وامرأة في الطريق، فارددهم واكتُبْ إليهم بما أصابني.
قال: فضرب عنقه، وألقاه عمرو لعبيد الله وقال: أتدري ما قال؟ فقال عبيد الله: اُكتم على ابن عمّك.
فقال عمرو: هو أعظم من ذلك. فقال ابن زياد: فأيّ شيءٍ هو؟
قال: أخبَرني أنّ الحسين ومَن معه قد أقبل، وهم تسعون إنساناً بين رجلٍ وامرأة.
فقال: أما واللهِ إذ دللت عليه لا يقاتلهم أحدٌ غيرك ((1)).
(وأُخذ مسلم) فأُتي به ابن زياد، وقد آمنه (محمّد) ابن الأشعث فلم ينفّذ أمانه، فلمّا وقف مسلم بين يديه نظر إلى جلسائه فقال لعمر بن سعد بن أبي وقاص: إنّ بيني وبينك قرابة أنت تعلمها، فقم معي حتّى أُوصي إليك.
ص: 431
فامتنع!! فقال ابن زياد: قم إلى ابن عمّك.
فقام (إليه) فقال (له مسلم): إنّ علَيّ بالكوفة (دَيناً) سبعمائة درهم (أخذتُه) مذ قدمتها فاقضها عنّي، وانظر (إذا ما قُتلتُ) جثّتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه.
فأخبر عمر بن سعد ابنَ زيادٍ بما قال له! فقال: أمّا مالك فهو لك تصنع فيه ما شئت، وأمّا حسينٌ فإنّه إن لم يردنا لم نرده، وأما جثّته فإنّا لا نشفعك (فيها) لأنّه قد جهد أن يهلكنا، ثم قال: وما نصنع بجثّته بعد قتلنا إياه.
وقال الهيثم بن عدي: حدّثني ابن عياش، عن مجالد، عن الشعبي قال: أُدخل مسلم بن عقيل (رحمه الله تعالى) على ابن زياد وقد ضُرِب على فمه، فقال: يا ابن عقيل، أتيتَ لتشتيت الكلمة؟ فقال: ما لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر كتبوا أنّ أباك سفك دماءهم وانتهك أعراضهم، فجئنا لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فقال: وما أنت وذاك؟ وجرى بينهما كلام، فقتله.
وقال هشام ابن الكلبي: قال أبو مخنف في إسناده: قال ابن زياد لابن عقيل: أردتَ أن تشتّت أمر الناس بعد اتفاقه، وتفرّق ألفتهم بعد اجتماعهما (كذا). وجرى بينهما كلام حتّى قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. فقال له مسلم: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه من سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة.
ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه، فأتبعوا رأسه جسده.
فقال (مسلم): يا ابن الأشعث، فوالله لولا أمانك ما استسلمت.
فكان الّذي تولّى ذلك منه بكير بن حمران الأحمري، أشرف به على موضع الحذّائين، وهو يسبّح ويدعو على من غرّه وخذله، فضرب عنقه ثمّ أتبع رأسه
ص: 432
جسده.
وطلب ابن الأشعث إلى ابن زياد في هانئ بن عروة، فأبى أن يشفعه، فأمر به فأُخرج من محبسه إلى السوق وهو مكشوف الرأس يقول: وا مذحجاه ولا مذحج (لي) اليوم!! فضرب عنقه مولىً لعبيد الله بن زياد تركيّ يقال له: رشيد. (و) هذا يوم الخارز بالموصل قتله عبد الرحمان بن الحصين المرادي، وفي يوم الخارز قتل (أيضاً) عبيد الله بن زياد.
وقال عبد الرحمان (في ذلك اليوم):
إنّي قتلتُ راشد
التركيا
وليته أبيض
مشرفيّا
أرضي بذاك الله والنبيّا
وقال عبد الله بن الزبير (الأسدي)، ويقال (بل قاله): الفرزدق بن غالب:
إن كنت لا تدرين بالموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى
بطلٍ قد هشَّمَ السيفُ وجهَه
وآخر
يهوي من طمار قتيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموتُ لونَه
ونضح
دمٍ قد سال كلّ مسيلِ
أصابهما
أمرُ الإله فأصبحا
أحاديث
يهوي بكلّ سبيلِ
وقال الأخطل بن زياد:
ولم يكُ
عن يوم ابن عروة غائباً
كما لم
يغب عن ليلة ابن عقيلِ
أخو
الحرب صرّاها فليس بناكل
جبار
ولا وجب الفؤاد ثقيلِ
وقال أبو الأسود الدؤلي:
أقول
وذاك من جزع ووجد
أزال
الله ملك بني زيادِ
هم
جدؤوا الأنوف وكنّ شمّا
بقتلهم
الكريم أخا مرادِ
قتيل
السوق يا لك من قتيلٍ
به نضح
من احمر كالجسادِ
ص: 433
وأهل مكارم بعدوا وكانوا
ذوي كرم
وروساً في البلادِ
قالوا: وخرج عمارة بن صلحب الأزدي (كذا)، وكان ممّن أراد نصرة مسلم، فأخذه أصحاب ابن زياد، فأتوه به، فأمر به فضُربت عنقه في الأزد، وبعث برأسه مع رأس مسلم وهانئ (بن عروة) إلى يزيد بن معاوية، وكان رسوله بهذه الرؤوس هانئ بن أبي حية الوادعي من همدان.
ووجّه محمّد بن الأشعث إلى الحسين من الحيرة بخبر ابن عقيل وسأله الانصراف، فلم يلتفت إلى قوله وأبى إلّا القدوم إلى العراق، وقد كان مسلم كتب إليه يُعلِمه كثرة من بايعه من الناس وإظهار أهل الكوفة السرور بمقدمه ويسأله تعجيل القدوم.
قالوا: ولمّا كتب ابن زياد إلى يزيد بقتل مسلم وبعثته إليه برأسه ورأس هانئ ابن عروة ورأس ابن صلحب وما فعل بهم، كتب إليه (يزيد): إنّك لم تعد ان كنت كما أحبّ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع وحققت ظنّي بك، وقد بلغني أنّ حسيناً توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالخ وأذك العيون واحترس كلّ الاحتراس، فاحبس على الظنّه وخذ بالتهمة، غير أن لا تقاتل إلّا من قاتلك، واكتب إليّ في كلّ يومٍ بما يحدث من خير إن شاء الله. وقال عبيدة بن عمرو البدّي (في غدر) محمّد بن الأشعث:
وقتلت
وافد آل أحمد غيلة
وسلبتَ
أسيافاً له ودروعا ((1))
* * * * *
وكان الحسين قدّم مسلم بن عقيل بين يديه، فنزل على هانئ بن عروة المرادي، وجعل يبايع أهل الكوفة، فبعث ابن زياد إلى هانئ فقال: ائتني
ص: 434
بمسلم. فقال: ما لي به علم. قال: فاحلف بالطلاق والعتاق. قال: إنّكم يا بني زياد لا ترضون إلّا بهذه الأيمان الخبيثة!! فأمر مكانه فضرب رأسه ثمّ رمى به إلى الناس.
وبعث إلى مسلم بن عقيل فجيء به، فأمر به فدفع بين شرفتين من شرف القصر، فقال له: ناد: أنا مسلم ابن عقيل أمير العاصين، فنادى!!! ثمّ ضرب رأسه فسقط!!
وأقبل الحسين حتّى نزل نهر كربلا، وقد بلغه خبر الكوفة. وقال القائل (كذا):
(و)إن كنت لا
تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
تري رجلاً قد
جدّع السيف أنفه
ونضح دمٍ قد سال
كلّ مسيلِ
أصابهما أمر
الإله فأصبحا
أحاديث من يهوي
بكلّ سبيلِ
قال خلف: وسمعت من يزيد في هذا الشعر:
أيركب أسماء الهمالج آمنّا
وقد طلبته مذحج بقتيلِ ((1))
* * * * *
حدّثني حفص بن عمر، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة قال: جرى بين ابن عقيل وابن زياد كلام، فقال له (ابن زياد): ايهٍ يا ابن حلية. فقال له (ابن)
ص: 435
عقيل: حلية خير من سميّة وأعف ((1)).
* * * * *
ولجأ (مسلم) إلى دارٍ من دور كندة، فجاء رجلٌ إلى محمّد بن الأشعث وهو جالس عند ابن زياد فأخبره بذلك، فقال (ابن الأشعث) لابن زياد: إنّه قال لي: إنّ مسلماً في دار فلان. فقال: ائتوني به.
فدخل (ابن الأشعث) عليه وهو عند امرأة قد أوقدت ناراً فهي تغسل عنه الدم، فقالوا له: إنطلق إلى الأمير. فقال: عفواً. قالوا: ما نملك ذلك. فانطلق معهم، فلمّا رآه أمر به فكُتِف، وقال: أجئتَ يا ابن حلية لتنزع سلطاني؟ وأمر به فضربت عنقه.
قال: وحلية أُمّ مسلم بن عقيل، وهي أُمّ ولد ((2)).
فأقبلوا حتّى أتوا الدار الّتي فيها مسلم بن عقيل، ففتحوها، فقاتلهم، فرمى، فكسر فوه، وأُخذ، فأُتي ببغلةٍ فركبها، وصاروا به إلى ابن زياد، فلمّا أُدخل عليه وقد اكتنفه الجلاوزة قالوا له: سلّم على الأمير. قال: إن كان الأمير يريد قتلي فما أنتفع بسلام عليه، وإن كان لم يرد فسيكثر عليه سلامي.
قال ابن زياد: كأنّك ترجو البقاء. فقال له مسلم: فإن كنتَ مزمعاً على قتلي، فدعني أُوص إلى بعض من هاهنا من قومي. قال له: أوصِ بما شئت.
فنظر إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال له: أُخلُ معي في طرف هذا البيت
ص: 436
حتّى أُوصي إليك، فليس في القوم أقرب إليّ ولا أولى بي منك. فتنحّى معه ناحية، فقال له: أتقبل وصيّتي؟ قال: نعم. قال مسلم: إنّ علَيّ هاهنا ديناً مقدار ألف درهم فاقض عنّي، وإذا أنا قتِلتُ فاستوهب من ابن زياد جثّتي لئلّا يمثّل بها، وابعث إلى الحسين بن علي رسولاً قاصداً من قبلك، يُعلِمه حالي وما صرتُ إليه من غدر هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم شيعته، وأخبره بما كان من نكثهم بعد أن بايعني منهم ثمانية عشر ألف رجل، لينصرف إلى حرم الله فيقيم به ولا يغتر بأهل الكوفة. وقد كان مسلم كتب إلى الحسين أن يقدم ولا يلبث، فقال له عمر بن سعد: لك على ذلك كلّه، وأنا به زعيم.
فانصرف إلى ابن زياد، فأخبره بكلّ ما أوصى به إليه مسلم، فقال له ابن زياد: قد أسأتَ في إفشائك ما أسرّه إليك، وقد قيل: (إنّه لا يخونك إلّا الأمين، وربما ائتمنك الخائن).
وأمر ابن زياد بمسلم فرقى به إلى ظهر القصر، فأشرف به على الناس وهم على باب القصر ممّا يلي الرحبة، حتّى إذا رأوه ضربت عنقه هناك، فسقط رأسه إلى الرحبة، ثم أتبع الرأس بالجسد، وكان الذي تولّى ضرب عنقه أحمر بن بكير. وفي ذلك يقول عبد الرحمان بن الزبير الأسدي:
فإن كنت لا
تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ قد
هشّم السيف أنفه
وآخر يهوي من
طمار قتيلِ
أصابهما ريب
الزمان فأصبحا
أحاديث من يسعى
بكلّ سبيلِ
ص: 437
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ قد سال
كلّ مسيلِثمّ بعث عبيد الله برؤوسهما إلى يزيد، وكتب إليه بالنبأ فيهما، فكتب إليه يزيد: لم نعد الظنّ بك، وقد فعلتَ فعل الحازم الجليد، وقد سألتُ رسوليك عن الأمر ففرشاه لي، وهما كما ذكرتَ في النصح وفضل الرأي، فاستوصِ بهما. وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد فصل من مكة متوجهاً إلى ما قبلك، فأدرك العيون عليه، وضع الأرصاد على الطرق، وقم أفضل القيام، غير إلّا تقاتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إلي بالخبر في كلّ يوم.
وكان أنفذ الرأسَين إليه مع هانئ بن أبي حية الهمداني، والزبير بن الأروج التميمي ((1)).
* * * * *
قالوا: ولمّا رحل الحسين من زرود، تلقّاه رجلٌ من بني أسد، فسأله عن الخبر، فقال: لم أخرج من الكوفة حتّى قُتِل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما. فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، عند الله نحتسب أنفسنا. فقال له: أُنشدك الله يا ابن رسول الله في نفسك وأنفس أهل بيتك هؤلاء الّذين نراهم معك، إنصرف إلى موضعك ودع المسير إلى الكوفة، فوالله ما لك بها ناصر. فقال بنو عقيل -- وكانوا معه -- : ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجة، ولسنا براجعين حتّى نموت. فقال الحسين: فما خير في العيش بعد هؤلاء. وسار، فلمّا وافى زبالة وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث وعمر بن سعد بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه من أمره وخذلان أهل الكوفة إياه
ص: 438
بعد أن بايعوه، وقد كان مسلم سأل محمّد بن الأشعث ذلك، فلمّا قرأ الكتاب استيقن بصحّة الخبر، وأفظعه مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ثمّ أخبره الرسولبقتل قيس بن مسهر رسوله الّذي وجّهه من بطن الرمة، وقد كان صحبه قومٌ من منازل الطريق، فلمّا سمعوا خبر مسلم وقد كانوا ظنوا أنّه يقدم على أنصار وعضد تفرقوا عنه، ولم يبق معه إلّا خاصته ((1)).
فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجرّ برجله في السوق، وقتل هانئ بن عروة لنزول مسلم منزله وإعانته إياه ((2)).
وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له، فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل وضرب بكير إياه، فقال: بُعداً له. فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه! إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت.
وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث ومسلم ابن عمرو وكثير بن شهاب.
(قال أبو مخنف): فحدّثني قدامة بن سعد أنّ مسلم بن عقيل حين انتهى إلى باب القصر فإذا قلّة باردة موضوعة على الباب، فقال ابن عقيل: اسقوني من
ص: 439
هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها، لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. قال له ابن عقيل: ويحك! مَن أنت؟ قال:أنا ابن مَن عرف الحقّ إذا أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك، أنت يا ابن باهلة أَولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثمّ جلس متسانداً إلى حائط.
(قال أبو مخنف): فحدّثني قدامة بن سعد أنّ عمرو بن حريث بعث غلاماً له يُدعى سليمان، فجاءه بماءٍ في قلّة فسقاه.
(قال أبو مخنف): وحدّثني سعيد بن مدرك بن عمارة أنّ عمارة بن عقبة بعث غلاماً له يُدعى قيساً، فجاءه بقلّة عليها منديل ومعه قدح، فصبّ فيه ماء ثمّ سقاه، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً، فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيّتاه فيه، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربتُه.
وأُدخل مسلم على ابن زياد، فلم يسلِّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟ فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فلَعمري ليكثرنّ سلامي عليه. فقال له ابن زياد: لَعمري لَتقتلن. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أُوص إلى بعض قومي. فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهو سرّ. فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك. فقام معه، فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد، فقال له: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه منذ قدمتُ الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي، وانظر جثّتي فاستوهبها من ابن زياد
ص: 440
فوارها، وابعث إلى حسين مَن يردّه، فإنّي قد كتبتُ إليه أُعلمه أنّ الناس معه ولاأراه إلّا مقبلاً. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنّه ذكر كذا وكذا. قال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمَن الخائن، أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحبَبت، وأمّا حسينٌ فإنّه إن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثّته فإنّا لن نشفعك فيها، إنّه ليس بأهلٍ منّا لذلك، قد جاهدَنا وخالفَنا وجهد على هلاكنا. وزعموا أنّه قال: أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها. ثمّ إنّ ابن زياد قال: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض؟ قال: كلّا، لستُ أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ أو لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق وأنّك قلتَ بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله. قال: فمَن أهلُه يا ابن زياد؟! قال: أمير المؤمنين يزيد. فقال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً. قال: واللهِ ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين. قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، ولا أحد من
ص: 441
الناس أحقّ بها منك. وأقبل ابن سميّة يشتمه ويشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه.
وزعم أهل العلم أنّ عبيد الله أمر له بماء، فسقي بخزفة، ثمّ قال له: إنّه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلّا كراهة أن تحرم بالشرب فيها ثمّ نقتلك، ولذلك سقيناك في هذا.
ثمّ قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثمّ اتبعوا جسده رأسه. فقال: يا ابن الأشعث، أما واللهِ لولا أنّك آمنتني ما استسلمت، قم بسيفك دوني، فقد أخفرت ذمتك. ثمّ قال: يا ابن زياد، أما والله لو كانت بيني وبينك قرابة ما قتلتني. ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فقال: اصعد فكن أنت الّذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله ورسله، وهو يقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وأذلّونا. وأشرف به على موضع الجزّارين اليوم، فضُربت عنقه وأتبع جسده رأسه ((1)).
* * * * *
(قال أبو مخنف): حدّثني الصقعب بن زهير، عن عوف بن أبي جحيفة قال: نزل الأحمري بكير بن حمران الّذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيتَه لأقتله قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا. فقلت له: اُدنُ منّي، الحمد لله الّذي أقادني منك. فضربتُه ضربةً لم تُغنِ شيئاً، فقال: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاءً من دمك أيّها العبد؟ فقال
ص: 442
ابن زياد: وفخراً عند الموت؟ قال: ثمّ ضربتُه الثانية فقتلتُه ((1)).
* * * * *
قال: وقام محمّد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد، فكلّمه في هانئ بن عروة وقال: إنّك قد عرفتَ منزلة هانئ بن عروة في المصر وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأُنشدك الله لما وهبته لي، فإنّي أكره عداوة قومه، هم أعزّ أهل المصر وعدد أهل اليمن.
قال: فوعده أن يفعل، فلمّا كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان بدا له فيه وأبى أن يفي له بما قال. قال: فأمر بهانئ بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل، فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ((2)).
* * * * *
فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادي، ويقال: قاله الفرزدق:
إن كنت
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجهه
وآخر
يهوى من طمار قتيلِ
أصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
من يسرى بكلّ سبيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
ص: 443
فتىً هو
أحيى من فتاة حييّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِأيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحجٌ بذحولِ
تطيف
حواليه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائل ومسولِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ ((1))
* * * * *
(قال أبو مخنف): عن أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي قال: ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد لمّا قتل مسلماً وهانئاً، بعث برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الاروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتاباً أطال فيه، وكان أوّل مَن أطال في الكتب، فلمّا نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اُكتب: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ مسلم ابن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلتُ عليهما العيون ودسستُ إليهما الرجال، وكدتهما حتّى استخرجتُهما وأمكن الله منهما، فقدّمتُهما فضرب أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الاروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ من أمر، فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً
ص: 444
وورعاً، والسلام.فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أن كنتَ كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم وصلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيتَ وكفيتَ وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتُهما وناجيتهما، فوجدتُهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً. وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ وخُذ على التهمة، غير إلّا تقتل إلّا مَن قاتلك، واكتب إليّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة الله ((1)).
* * * * *
فأعطاه عبد الرحمان الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأُصعد إلى أعلى القصر، فضُربت عنقه وألقى جثّته إلى الناس، وأمر بهانئ فسُحِب إلى الكناسة فصُلب هنالك.
وقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنت لا تدرين
ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
أصابهما أمر
الامام فأصبحا
أحاديث مَن يسعى
بكلّ سبيلِ
أيركب أسماء
الهماليج آمناً
وقد طلبته مذحجٌ
بذحول ((2))
ص: 445
* * * * *
فجاء رجلٌ إلى محمّد بن الأشعث وهو جالسٌ إلى ابن زياد، فسارّه، فقال له: إنّ مسلماً في دار فلان، فقال ابن زياد: ما قال لك؟ قال: قال: إنّ مسلماً في دار فلان. قال ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني به. فدخلا عليه وهو عند امرأةٍ قد أوقدت له النار فهو يغسل عنه الدماء، فقالا له: انطلق، الأمير يدعوك. فقال: اعقدا لي عقداً. فقالا: ما نملك ذاك. فانطلق معهما حتّى أتاه، فأمر به فكُتِف، ثمّ قال: هيهٍ هيه يا ابن خلية. قال الحسين في حديثه: يا ابن كذا، جئتَ لتنزع سلطاني؟ ثمّ أمر به فضُربَت عنقه ((1)).
قال: ثمّ دنا منه ابن الأشعث حتّى وقف قبالته وقال: ويلك يا ابن عقيل! لا تقتل نفسك، أنت آمنٌ ودمك في عنقي. فقال له مسلم: أتظنّ يا ابن الأشعث أنّي أُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال! لا والله لا كان ذلك أبداً. ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع موضعه فوقف وقال: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي. قال: فلم يجسر أحدٌ أن يسقيه الماء ولا قرب منه. فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجلٍ واحد هذا الجزع، احملوا عليه بأجمعكم حملةً واحدة. قال: فحملوا عليه وحمل عليهم، فقصده من أهل الكوفة رجلٌ يقال له بكير بن حمران الأحمري، فاختلفا بضربتين، فضربه بكير ضربةً على شفته العليا، وضربه مسلم بن عقيل ضربةً فسقط إلى الأرض قتيلاً، قال: فطُعِن من ورائه طعنةً فسقط إلى الأرض،
ص: 446
فأُخذ أسيراً، ثمّ أُخذ فرسه وسلاحه.
وتقدّم رجلٌ من بني سليمان يقال له: عبيد الله بن العباس، فأخذ عمامته، فجعل يقول: اسقوني شربةً من الماء! فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: واللهِ لا تذوق الماء يا ابن عقيل أو تذوق الموت! فقال له مسلم بن عقيل: ويلك يا هذا! ما أجفاك وأفظّك وأغلظك! أشهد عليك أنّك إن كنتَ من قريش فإنّك مصلق، وإن كنتَ من غير قريش فإنّك مدّع إلى غير أبيك، مَن أنت يا عدوّ الله؟ فقال: أنا مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي! فقال له مسلم بن عقيل: أنت أَولى بالخلود والحميم، إذ آثرتَ طاعة بني سفيان على طاعة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ثمّ قال مسلم بن عقيل (رحمة الله) : ويحكم يا أهل الكوفة! اسقوني شربةً من ماء! فأتاه غلامٌ لعمرو بن حريث الباهلي بقلّة فيها ماء وقدح فيها، فناوله القلّة، فكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم، وسقطت ثنيّتاه في القدح، فامتنع مسلم بن عقيل (رحمة الله) من شرب الماء. قال: وأُتي به حتّى أُدخل على عبيد الله بن زياد ((1)).
* * * * *
ذكر دخول مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد وما كان من كلامه وكيف قُتل.
قال: فأُدخل مسلم بن عقيل على عبيد الله بن زياد، فقال له الحرسي: سلّم على الأمير! فقال له مسلم: اُسكت لا أُمّ لك! مالك وللكلام؟ واللهِ ليس هو لي بأمير فأُسلّم عليه! وأُخرى فما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي؟! فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي. فقال له عبيد الله بن زياد: لا عليك، سلّمتَ
ص: 447
أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قتل شرٌّ منك مَن كان خيراً منّي. فقال له ابن زياد: يا شاقّ يا عاقّ! خرجتَ على إمامك وشققتَ عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد! واللهِ ما كان [معاوية] خليفةً بإجماع الأُمة، بل تغلّب على وصيّ النبي بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، [و] كذلك ابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّك ألقحتها أنتَ وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته، فوالله ما خالفتُ ولا كفرتُ ولابدّلت! وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد. فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة؟ فقال مسلم بن عقيل: أحقّ واللهِ بشرب الخمر منّي مَن يقتل النفس الحرام وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنّه لم يسمع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً أحالك الله دونه وجعله لأهله. فقال مسلم بن عقيل: ومَن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد ومعاوية. فقال مسلم بن عقيل: الحمد لله، كفى بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد (لعنه الله): أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً؟ فقال مسلم بن عقيل: لا والله ما هو الظنّ، ولكنّه اليقين. فقال ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك! فقال مسلم: أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة، والله لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرتُ على شربةٍ من ماءٍ لطال عليك أن تراني في هذا القصر، ولكن إن كنتَ عزمتَ على قتلي ولابدّ لك من ذلك فأقم إليّ رجلاً من قريش أُوصي إليه بما أريد. فوثب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص فقال: أوصِ إليّ بما تريد يا ابن عقيل! فقال: أُوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنّ التقوى فيها الدرك لكلّ خير، وقد علمتَ ما بيني وبينك من القرابة، ولي إليك
ص: 448
حاجة وقد يجب عليك لقرابتي أن تقضي حاجتي. قال: فقال ابن زياد: لا يجب يا ابن عمر أن تقضي حاجة ابن عمّك وإن كان مسرفاً على نفسه، فإنّه مقتولٌ لا محالة. فقال عمر بن سعد: قل ما أحببتَ يا ابن عقيل! فقال مسلم (رحمة الله) : حاجتي إليك أن تشتري فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم، فتبيعه وتقضي عنّي سبعمائة درهم استدنتها في مصركم، وأن تستوهب جثّتي إذا قتلني هذا وتواريني في التراب، وأن تكتب إلى الحسين بن علي أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي. قال: فالتفت عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد فقال: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا. فقال ابن زياد: أمّا ما ذكرت يا ابن عقيل من أمر دَينك فإنّما هو مالك يقضى به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت، وأمّا جسدك إذا نحن قتلناك فالخيار في ذلك لنا، ولسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك، وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه، ولكنّي أُريد أن تخبرني يا ابن عقيل بماذا أتيتَ إلى هذا البلد؟ شتّتَّ أمرهم وفرّقتَ كلمتهم ورميتَ بعضهم على بعض! فقال مسلم بن عقيل: لستُ لذلك أتيت هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضى، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولا تزال الخلافة لنا، فإنّا قُهِرنا عليها، لأنّكم أوّل من خرج على إمام هدىً، وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصبا، ونازع أهله بالظلم والعدوان، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله (تبارك وتعالى): ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
قال: فجعل ابن زياد يشتم عليّاً والحسن والحسين (رضي الله عنهم)، فقال له
ص: 449
مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم، فاقضِ ما أنت قاض، فنحن أهل بيتٍ موكل بنا البلاء. فقال عبيد الله بن زياد: الحقوا به إلى أعلى القصر فاضربوا عنقه وألحقوا رأسه جسده. فقال مسلم (رحمة الله) : أما والله يا ابن زياد! لو كنتَ من قريشٍ أو كان بيني وبينك رحمٌ أو قرابة لما قتلتني، ولكنّك ابن أبيك. قال: فأدخله ابن زياد القصر، ثمّ دعا رجلاً من أهل الشام قد كان مسلم بن عقيل ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خُذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك.
قال: فأُصعد مسلم بن عقيل (رحمة الله) إلى أعلى القصر، وهو في ذلك يسبّح الله تعالى ويستغفره وهو يقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. فلم يزل كذلك حتّى أتى به إلى أعلى القصر، وتقدّم ذلك الشامي فضرب عنقه (رحمة الله) . ثمّ نزل الشامي إلى عبيد الله بن زياد وهو مدهوش، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ أقتلتَه؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! إلّا إنّه عرض لي عارضٌ فأنا له فزعٌ مرعوب. فقال: ما الّذي عرض لك؟ قال: رأيتُ ساعة قتلته رجلاً حذاي أسود كثير السواد كريه المنظر وهو عاض على إصبعيه -- أو قال: شفتيه --، ففزعت منه فزعاً لم أفزع قطّ مثله. قال: فتبسم [ابن] زياد وقال له: لعلّك دهشت، وهذه عادةٌ لم تعتدها قبل ذلك ((1)).
* * * * *
قال: ثمّ أمر عبيد الله بن زياد بمسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رحمهما الله)، فصُلبا جميعاً منكسين، وعزم أن يوجه برأسَيهما إلى يزيد بن معاوية، فأنشأ رجلٌ من بني أسد يقول:
ص: 450
إذا كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد فلّق السيفُ رأسَه
وآخر
يهوى من جدار قتيلِ
أصابهما
أمر الإله فأصبحا
أحاديث
مَن يسعى بكلّ سبيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموتُ لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
فتىً كان
أحيى من فتاةٍ حيّيةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونوا
بغايا أُرضيت بقليلِ
ذكر كتاب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية.
قال: ثمّ كتب ابن زياد إلى يزيد بن معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين، من عبيد الله بن زياد، الحمد الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين أيّده الله أنّ مسلم بن عقيل الشاقّ للعصا قدم إلى الكوفة ونزل في دار هانئ بن عروة المذحجي، وأنّي جعلتُ عليهما العيون حتّى استخرجتهما، فأمكني الله منهما بعد حربٍ ومناقشة، فقدمتُهما فضرب أعناقهما، وقد بعثت برأسيهما مع هانئ بن [أبي] حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا تحب، فإنّهما ذو عقلٍ وفهم وصدق. قال: فلمّا ورد الكتاب والرأسان جميعاً إلى يزيد بن معاوية، قرأ الكتاب، وأمر
ص: 451
بالرأسين فنُصِبا على باب مدينة دمشق، ثمّ كتب إلى ابن زياد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد إذا كنت كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابض، فقد كفيتَ ووقيت ظنّي ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيك فسألتهما عن الّذي ذكرت، فقد وجدتُهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت، وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً، وقد بلغني أنّ الحسين بن علي (رضي الله عنهما) قد عزم على المسير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر واحترس واحبس على الظنّ، واكتب إليّ في كلّ يومٍ بما يتجدّد لك من خيرٍ أو شرّ، والسلام ((1)).
* * * * *
ابتداء أخبار الحسين بن علي (علیهما السلام) .
قال: وبلغ الحسينَ بن عليّ بأنّ مسلم بن عقيل قد قُتل (رحمة الله) ، وذلك أنّه قدم عليه رجلٌ من أهل الكوفة، فقال له الحسين: من أين أقبلت؟ فقال: من الكوفة، وما خرجتُ منها حتّى نظرت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المذحجي (رحمهما الله) قتيلَين مصلوبين منكسين في سوق القصابين، وقد وجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية. قال: فاستعبر الحسين باكياً، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ثم إنّه عزم على المسير إلى العراق، فدخل عليه عمر بن عبد الرحمان [بن الحارث] بن هشام المخزومي، فقال: يا ابن بنت رسول الله! إنّي أتيتُ إليك بحاجةٍ أريد أن أذكرها لك، فأنا غير غاش لك فيها، فهل لك أن تسمعها؟ فقال الحسين: هات، فوالله ما أنت عندي بمسيء الرأي، فقُل ما أحببت. فقال: قد بلغني أنّك تريد العراق، وإنّي مشفق عليك من ذلك، أنّك
ص: 452
ترد إلى قوم فيهم الأمراء ومعهم بيوت الأموال، ولا آمن عليك أن يقاتلك من أنت أحبّ إليه من أبيه وأُمّه ميلاً إلى الدنيا والدرهم، فاتّقِ اللهَ ولا تخرج من هذا الحرم. فقال له الحسين: جزاك الله خيراً يا ابن عم! فقد علمتُ أنّك أمرت بنصح، ومهما يقضي الله من أمرٍ فهو كائن، أخذتُ برأيك أم تركته. قال: فانصرف عنه عمر بن عبد الرحمان وهو يقول:
رُبّ
مستنصحٍ سيعصي ويؤذى
ونصيح
بالغيب يلفي نصيحا ((1))
وأُتي به ابن زياد، فقدّمه ليضرب عنقه، فقال له: دعني حتّى أوصي. فقال له:
أوص. فنظر في وجوه الناس، فقال لعمر بن سعد: ما أرى قريشاً هنا غيرك، فادنُ منّي حتّى أكلّمك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت قريش؟ إنّ حسيناً ومَن معه -- وهم تسعون إنساناً ما بين رجل وامرأة -- في الطريق، فارددهم واكتب لهم بما أصابني. ثمّ ضُرب عنقه، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ قال: اكتم على ابن عمّك! قال: هو أعظم مِن ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي: إنّ حسيناً أقبل [ومن معه] وهم تسعون إنساناً ما بين رجل وامرأة، فارددهم واكتب إليه بما أصابني. فقال له ابن زياد: أما واللّه إذ دللتَ عليه لا يقاتله أحدٌ غيرك ((2)).
ص: 453
فأمكنهم من نفسه، وحملوه على بغلةٍ وأتوا به ابن زياد، وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه الأمان سيفَه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمةٍ يهجو فيها ابن الأشعث:
وتركتَ عمَّك أن
تقاتل دونه
فشلاً، ولولا
أنت كان منيعا
وقتلتَ وافدَ آل
بيت محمّدٍ
وسلبتَ أسيافاً
له ودروعا
مقتل هانئ بن عروة:
فلمّا صار مسلم الى باب القصر نظر الى قلّة مبردة، فاستسقاهم منها، فمنعهم مسلم بن عمرو الباهلي -- وهو أبو قتيبة بن مسلم -- أن يسقوه، فوجّه عمرو بن حريث فأتاه بماء في قدح، فلمّا رفعه الى فيه امتلأ القدح دماً، فصبّه وملأه له الثانية، فما رفعه الى فيه سقطت ثناياه فيه وامتلأ دماً، فقال: الحمد لله، لو كان من الرزق المقسوم لَشربتُه. ثم أُدخل إلى ابن زياد، فلمّا انقضى كلامه ومسلم يغلظ له في الجواب، أمر به فأُصعد إلى أعلى القصر، ثمّ دعا الأحمري الّذي ضربه مسلم، فقال: كن أنت الّذي تضرب عنقه، لتأخذ بثأرك من ضربته.
فأصعدوه الى أعلى القصر، فضرب بكير الأحمري عنقه، فأهوى رأسه إلى الأرض، ثمّ أتبعوا رأسه جسده. ثمّ أمر بهانئ بن عروة فأُخرج الى السوق، فضرب عنقه صبراً، وهو يصيح: يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذٍ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا إجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحداً؛ فشلاً وخذلاناً، فقال الشاعر وهو يرثي هانئ بن عروة ومسلم بن عقيل ويذكر ما نالهما:إذا كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
ص: 454
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجهه
وآخر
يهوي في طمار قتيلِ
أصابهما
أمرُ الأمير فأصبحا
أحاديثَ
مَن يسعى بكلّ سبيلِ
ترَى
جسداً قد غيّر الموتُ لونه
ونضْحَ
دمٍ قد سال كلّ مسيلِ
أيترك
أسماء المهاليج آمناً
وقد
طلبته مَذحج بذحُولِ
فتىً هو
أحيى من فتاةٍ حَييَّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتَين صقيلِ
ثمّ دعا ابن زياد ببكير بن حمران الّذي ضرب عنق مسلم، فقال: أقتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبّر ويسبّح الله ويهلّل ويستغفر الله، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا ثمّ خذلونا وقتلونا. فقلت: الحمد لله الّذي أقادني منك، وضربتُه ضربةً لم تعمل شيئاً، فقال لي: أوَ ما يكفيك وفي خدشٍ منّي وفاء بدمك أيّها العبد؟ قال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت؟ قال: وضربتُه الثانية فقتلته، ثمّ أتبعنا رأسه جسده.
وكان ظهور مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستّين، وهو اليوم الّذي ارتحل فيه الحسين من مكّة إلى الكوفة، وقيل: يوم الأربعاء يوم عرفة لتسع ماضين من ذي الحجّة سنة ستّين.
ثمّ أمر ابن زياد بجثة مسلم فصُلبت، وحُمل رأسه إلى دمشق، وهذا أوّل قتيلٍ
ص: 455
صُلبت جثّته من بني هاشم، وأوّل رأسٍ حُمل من رؤوسهم إلى دمشق ((1)).
فجعل مسلم يحاربهم عن نفسه حتّى كلّ ومل، فآمنوه، فأخذوه وأدخلوه على عبيد الله، فأُصعِد القصر وهو يقرأ ويسبّح ويكبّر ويقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غزونا وكذبونا ثمّ خذلونا حتّى دفعنا إلى ما دفعنا إليه. ثمّ أمر عبيد الله بضرب رقبة مسلم بن عقيل، فضرب رقبة مسلم بن عقيل بكير بن حمران الأحمري على طرف الجدار، فسقطت جثّته ثم أتبع رأسه جسده.
ثمّ أمر عبيد الله بإخراج هانئ بن عروة إلى السوق، وأمر بضرب رقبته في السوق.
ثمّ بعث عبيد الله بن زياد برأسَي مسلم بن عقيل بن أبي طالب وهاني بن عروة مع هانئ بن أبي حية الوداعي والزبير بن الاروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، فلمّا بلغ الحسين بن علي الخبر بمصاب الناس بمسلم بن عقيل خرج بنفسه يريد الكوفة ((2)).
ثمّ أقبل على ابن الأشعث، فقال: إنّي والله أظنّك ستعجز عن أماني. وسأله أن يبعث رسولاً إلى الحسين بن علي يعلمه الخبر ويسأله الرجوع، فقال له ابن الأشعث: والله لأفعلن.
ص: 456
قال أبو مخنف: فحدّثني قدامة بن سعد: إنّ مسلم بن عقيل حين انتُهي به إلى القصر رأى قلّة مبردة موضوعة على الباب، فقال: إسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمر وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها؟ فوالله لا تذوق منها قطرةً واحدة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له مسلم بن عقيل: ويلك ولأُمك الثكل، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أَولى بالحميم والخلود في نار جهنّم. ثمّ جلس وتساند إلى الحائط.
قال أبو مخنف: فحدّثني أبو قدامة بن سعدان عمرو بن حريث بعث غلاماً له يدعى سليماً، فأتاه بماء في قلّة فسقاه.
قال: وحدّثني مدرك بن عمارة أنّ عمارة بن عقبة بعث غلاماً يدعى نسيماً، فأتاه بماء في قلّة عليها منديل وقدح معه، فصبّ فيه الماء ثمّ سقاه، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً، فأخذ لا يشرب من كثرة الدم، فلمّا ملأ القدح ثانية ذهب يشرب فسقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم لَشربتُه.
قال: ثمّ أُدخل على عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فلم يسلّم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فلَيكثرن سلامي عليه. فقال له عبيد الله (لعنه الله): لَتُقتَلُن. قال: أكذلك؟ قال: نعم. قال: دعني إذاً أُوصي إلى بعض القوم. قال: أوصِ إلى مَن أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قربة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي، وهي سرّ. فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمّك. فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد (لعنه الله)، فقال له ابن عقيل:
ص: 457
إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه مذ قدمتها تقضيه عنّي حتّى يأتيك من غلّتي بالمدينة، وجثّتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك. قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنّه لا يخون الأمين ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا. قال: أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأمّا حسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه، واما جثّته فإنّا لا نشفعك فيها فإنّه ليس لذلك منّا بأهل وقد خالفنا وحرص على هلاكنا. ثمّ قال ابن زياد لمسلم: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لم تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغيلة لمن هو أحقّ به منك. ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه. ثمّ قال: ادعوا الّذي ضربه ابن عقيل على رأسه وعاتقه بالسيف. فجاءه، فقال: اصعد وكن أنت الّذي تضرب عنقه. وهو بكير بن حمران الأحمري (لعنه الله).
فصعدوا به وهو يستغفر الله ويصلّي على النبيّ محمّد (صلی الله علیه و آله) وعلى أنبيائه ورسله وملائكته، وهو يقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غرّونا وكادونا وخذلونا. ثمّ أشرفوا به على موضع الحذّائين، فضرب عنقه ثم اتبع رأسه جسده، صلّى الله عليه ورحمه ((1)).
* * * * *
وقال المدائني: عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد قال: فقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
ص: 458
إذا كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيف وجهه
وآخر
يهوى من طمار قتيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
أصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
مَن يسعى بكلّ سبيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحج بذحولِ
تطيف
حواليه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائلٍ ومسولِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ ((1))
* * * * *
قال أبو مخنف في حديثه خاصة عن رجاله: إنّ عبيد الله بن زياد وجّه الحرّ ابن يزيد ليأخذ الطريق على الحسين (علیه السلام) ، فلمّا صار في بعض الطريق لقيه أعرابيّان من بني أسد، فسألهما عن الخبر، فقالا له: يا ابن رسول الله، إنّ قلوب الناس معك وسيوفهم عليك، فارجع. وأخبراه بقتل ابن عقيل وأصحابه، فاسترجع الحسين (علیه السلام) ، فقال له بنو عقيل: لا نرجع والله أبداً أو
ص: 459
ندرك ثأرنا أو نقتل بأجمعنا. فقال لمن كان لحق به من الأعراب: مَن كان منكم يريد الانصراف عنّا فهو في حلٍّ من بيعتنا. فانصرفوا عنه وبقي في أهل بيته ونفر من أصحابه ((1)).
وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأُذِن له، فدخل على ابن زياد فأخبره خبر ابن عقيل وضرب بكر إيّاه وما كان من أمانه له، فقال له عبيد الله: وما أنتَ والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه! إنّما أرسلناك لتأتينا به. فسكت ابن الأشعث، وأنتُهي بابن عقيلٍ إلى باب القصر، وقد اشتدّ به العطش، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس ينتظرون الإذن، فيهم عمارة بن عقبة ابن أبي معيط وعمرو بن حريث ومسلم بن عمرو وكثير بن شهاب، وإذا قلّة باردة موضوعة على الباب، فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم ابن عمرو: أتراها؟ ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرةً أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل (رضی الله عنه) : ويلك، مَن أنت؟ قال: أنا مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششته، وأطاعه إذ خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له مسلم بن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك! أنت يا ابن باهلة أَولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثمّ جلس فتساند إلى حائط. وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فجاءه بقلّة عليها منديل وقدح، فصبّ فيه ماء، فقال له: اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً مِنفِيه فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرّة ومرّتين، فلمّا ذهب في الثالثة
ص: 460
ليشرب سقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربتُه.
وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي لَيكثرنّ سلامي عليه. فقال له ابن زياد: لَعمري لتقتلن. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أُوص إلى بعض قومي. قال: افعل. فنظر مسلم إلى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهي سرّ. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: إنّ علَيّ دَيناً بالكوفة استدنتُه منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي، وإذا قُتلتُ فاستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه، فإنّي قد كتبتُ إليه أُعلمه أنّ الناس معه ولا أراه إلّا مقبلاً. فقال عمر لابن زياد: أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟ إنّه ذكر كذا وكذا. فقال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن! أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأمّا حسين فإن هو لم يردنا لم نرده. ثم قال ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وهم جميع، فشتّت بينهم وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناه لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. فقالله ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لم تعمل فيهم بذاك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! أمَ والله إنّ الله
ص: 461
لَيعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلت بغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي، وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرم الله قتلها، ويسفك الدم الحرام على الغصب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك الله له أهلاً. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟! فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. قال له مسلم: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة. فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلاً (عليهم الصلاة والسلام)، وأخذ مسلم لا يكلّمه.
ثمّ قال ابن زياد: إصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم أتبعوه جسده. فقال مسلم بن عقيل (رحمة الله عليه): لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني. فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعي بكر بن حمران الأحمري، فقال له: اصعد فلتكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسوله ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وخذلونا. وأشرفوا به على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه وأتبع (جسده رأسه) ((1)).* * * * *
وفي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رحمة الله عليهما) يقول عبد الله بن
ص: 462
الزبير الأسدي:
إن كنت
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيف وجهه
وآخر
يهوي من طمار قتيلِ
أصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
من يسري بكلّ سبيلِ
تري
جسداً قد غيّر الموتُ وجهه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
فتىً هو
أحيا من فتاةٍ حييّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحجٌ بذحولِ
تطيف
حواليه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائل ومسولِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ
ولمّا قُتل مسلم وهانئ (رحمة الله عليهما) بعث عبيد الله بن زياد برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه أن يكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب الكاتب -- وهوعمرو بن نافع -- فأطال، وكان أوّل مَن أطال في الكتب، فلمّا نظر فيه عبيد الله تكرهه وقال: ما هذا التطويل وما هذه الفصول؟ اُكتُب: أمّا بعد، فالحمد لله
ص: 463
الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أميرَ المؤمنين أنّ مسلم ابن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتّى استخرجتُهما، وأمكن الله منهما، فقدّمتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما مع هانئ بن أبي حية والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فلْيسألهما أمير المؤمنين عما أحبّ من أمرهما، فإنّ عندهما علماً وصدقاً وورعاً، والسلام. فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أن كنت كما أحبّ، عملتَ عمل الحازم وصلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيتَ وكفيتَ وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسوليك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً، وإنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّة واقتُل على التهمة، واكتب إليّ فيما يحدث من خبرٍ إن شاء الله ((1)).
* * * * *
وروى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان، قالا: لمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين (علیه السلام) في الطريق لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل بنا نياقنا مسرعين حتّى لحقنا بزرود، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجلٍ من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين (علیه السلام) ، فوقف الحسين كأنّه يريده، ثمّ تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: إذهب بنا إلىهذا لنسأله، فإنّ عنده خبر الكوفة. فمضينا حتّى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك. فقال: وعليكم السلام. قلنا: ممّن الرجل؟ قال: أسدي.
ص: 464
قلت: ونحن أسديّان، فمن أنت؟ قال: أنا بكر ابن فلان. وانتسبنا له، ثمّ قلنا له: أخبِرنا عن الناس وراءك. قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتّى قُتِل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتُهما يُجرّان بأرجلهما في السوق. فأقبلنا حتّى لحقنا الحسين (صلوات الله عليه)، فسايرناه حتّى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه حين نزل، فسلّمنا عليه فردّ علينا السلام، فقلنا له: رحمك الله، إنّ عندنا خبراً، إن شئتَ حدّثناك علانيةً وإن شئتَ سرّاً. فنظر إلينا وإلى أصحابه، ثمّ قال: ما دون هؤلاء ستر. فقلنا له: رأيتَ الراكبَ الّذي استقبلتَه عشيّ أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته. فقلنا: قد واللهِ استبرأنا لك خبرَه وكفيناك مسألته، وهو امرؤٌ منّا ذو رأيٍ وصدقٍ وعقل، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتِل مسلم وهانئ، ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما. فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما. يكرّر ذلك مراراً، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفتَ من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة، بل نتخوّف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: ما ترون؟ فقد قُتل مسلم. فقالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (علیه السلام) وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلمنّا أنّه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خار الله لك. فقال: رحمكما الله. فقال له أصحابه: إنّك واللهِ ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فسكت، ثم انتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا ثمّ ارتحلوا. فسار حتّى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر عبد الله بن يقطر، فأخرج إلى الناس كتاباًفقرأه عليهم ((1)).
ص: 465
فلمّا دخل به على ابن زياد قال: -- إنّى آمنته. قال: -- وما أنت والأمان؟ كأنما أرسلناك لتؤمنه! إنّما أرسلناك لتأتينا به. فسكت، وانتهى بمسلم إليه، فقال: -- إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّتَّ بينهم وتحمل بعضهم على بعض. قال: -- كلّا! لستُ لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد: -- قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. قال: -- أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة، لا أحد من الناس أحقّ بها منك. وأخذ ابن زياد يشتمه ويشتم حسيناً وعلياً، وأمسك مسلم لا يكلّمه، ثمّ قال: -- اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثمّ أتبعوا جسده رأسه. فصعد وهو يقول: -- اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وخذلونا. وأشرف به على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه وأتبع جسده رأسه ((1)).
* * * * *
وأمر بكلّ مَن عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأتى به إلى قومه، فضُربت عنقُه فيهم، وبُعث برؤوس مَن قُتل منهم إلى يزيد، وكتب بالقصّة، ولحق رسول مسلمالّذي أشخصه محمّد بن الأشعث الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر وبلَّغه الرسالة، فقال له الحسين: كلّ ما حمّ نازل، وعند الله
ص: 466
نحتسب أنفسنا وفساد أُمّتنا ((1)).
وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، ودخل على عبيد الله فأخبره خبره وما كان من أمانه، فقال ابن زياد: ما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه، وإنّما أرسلناك لتأتينا به! فسكت ابن الأشعث، وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال مسلم، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة، فقال الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟ قال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي لَيكثرنّ سلامي عليه. فقال ابن زياد: لعمري لتُقتلنّ قتلةً لم يقتلها أحدٌ من الناس في الإسلام. فقال له مسلم: أنت أحقّ مَن أحدث في الإسلام، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة. وأخذ ابن زياد (لعنة الله عليه) يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه. ثم قال ابن زياد: إصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه ثم أتبعوه جسده. فقال مسلم: لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني. فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابنُ عقيل رأسه بالسيف؟ فدعي بكر بن حمران الأحمري، فقال له: إصعد فكن أنت الّذي تضرب عنقه. فصعد، وجعل مسلم يكبّر الله ويستغفره ويصلّي على النبيّ وآله، ويقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. وضُربت عنقه واتبع جسده رأسه، وأمر بهانئ بن عروة فأُخرج إلى السوق وضربت عنقه، وهو يقول: إلىالله المعاد، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك.
وفي قتلهما يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
ص: 467
إن كنت لا تدرين
ما الموت فانظري
إلى هاني في
السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ قد
هشّم السيف وجهه
وآخر يهوي من
طمار قتيلِ
في أبيات.. وبعث ابن زياد (لعنه الله) برأسيهما إلى يزيد بن معاوية (لعنه الله) ((1)).
ضربه بكير على شفته العليا، وضربه مسلم فبلغت الضربة جوفه فأسقطه قتيلاً، وطُعن من ورائه فسقط إلى الأرض، فأُخذ أسيراً، ثمّ أُخذ فرسه وسلاحه.
وتقدّم رجلٌ من بني سليم يقال له: عبيد الله بن العبّاس، فأخذ عمامته، فجعل يقول: اسقوني شربةً من الماء. فقال له مسلم بن عمرو بن عمرو الباهلي: لا والله لا تذوق الماء يا ابن عقيل حتّى تذوق الموت. فقال له مسلم: ويلك، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك، أشهد عليك إن كنتَ من قريشٍ فإنّك ملصق، وإن كنت من غير قريش فأنت دعي، من أنت يا عدوّ الله؟ قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح الإمام إن غششتَه، وأطاع إذ خالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له مسلم: لأُمّك الهبل يا ابن باهلة، أنت أولى بالجحيم والخلود في نار الجحيم، إذ آثرتَ طاعة آل أبي سفيان على طاعة آل محمّد.ثمّ قال: ويحكم يا أهل الكوفة! اسقوني شربة من ماء. فأتاه غلامٌ لعمرو
ص: 468
ابن حريث المخزومي بقلّةٍ فيها ماء وقدح من قوارير، فصبّ القلّة في القدح وناوله، فأخذ مسلم القدح بيده، فكلّما أراد أن يشرب امتلأ القدح دماً، فلم يقدر أن يشرب من كثرة الدم، وسقطت ثنيّتاه في القدح، فامتنع من شرب ذلك الماء.
ثمّ أُتي به فأُدخل على ابن زياد فأُوقف، ولم يسلّم عليه، فقال له الحرسي: سلِّم على الأمير. فقال مسلم: أسكت لا أُمّ لك، مالك والكلام، ما هو لي بأميرٍ فأُسلّم عليه، وأُخرى ما ينفعني سلامي وهو يريد قتلي؟ فإن استبقاني فسيكثر. فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمتَ أو لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال مسلم: إن قتلتَني فلقد قتل مَن هو شرٌّ منك من هو خيراً منّي.
ثمّ قال له: إنّ القوم قد آمنوني. فقال محمّد بن الأشعث: أنّي قد آمنتُه. فقال ابن زياد: وما أنت وذاك؟ كأنّي إنّما أرسلتك لتؤمنه!
ثمّ قال لمسلم: يا شاقّ، يا عاقّ! خرجتَ على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال: كذبتَ يا ابن زياد! إنّما شقّ عصا المسلمين معاويةُ وابنه يزيد، وإنّما ألقح الفتنة أنت وابوك زياد ابن عبيد بن علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته، فوالله ما خلعتُ وما غيّرت، وإنّما أنا في طاعة الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله، فهو أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد.
فقال له ابن زياد: يا فاسق، ألم تكن تشرب الخمر بالمدينة؟ فقال مسلم: الله يعلم أنّي ما شربتها قطّ، وأحقّ منّي بشرب الخمر مَن يقتل النفس الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ، وهو في ذلك يلهو ويعلب كأنّه لم يصنعشيئاً.
فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله.
ص: 469
فقال مسلم: ومَن أهله يا ابن مرجانة؟ فقال له: يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً؟ فقال: لا والله ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين. فقال ابن زياد له: قتلني الله إن لم أقتلك شرّ قتلة. فقال له مسلم: أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الفعلة لأحدٍ غيرك أولى منك، واللهِ لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة ماء لطال عليك أن تراني في هذا القصر، ولكن إن كنتَ قد عزمتَ على قتلي فأقم لي رجلاً من قريش حتّى أُوصي إليه بما أريد.
ثمّ نظر مسلم إلى عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال له: إنّ بيني وبينك قرابة، فاسمع منّي. فامتنع، فقال له ابن زياد: ما يمنعك من الاستماع لابن عمّك؟ فقام عمر إليه، فقال له مسلم: أُوصيك بتقوى الله، فإنّ التقوى درك كلّ خير، ولي إليك حاجة. فقال عمر: قل ما أحببت. فقال: حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عنّي سبعمائة درهم استدنتُها في مصركم هذا، وأن تستوهب جثّتي إن قتلني هذا الفاسق فتواريني في التراب، وأن تكتب للحسين أن لا يقدم فينزل به ما نزل بي. فقال عمر بن سعد: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا. فقال ابن زياد: يا ابن عقيل! أمّا ما ذكرتَ من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دينك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جسدك فإنّا إذا قتلناك فالخيار لنا ولسنا نبالي ما صنع الله بجثّتك، وأمّا الحسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه.
وفي روايةٍ أنّه قال: وأمّا الحسين فلا ولا كرامة، ولكن أُريد أن تخبرني يا ابنعقيل لماذا أتيتَ أهل هذا البلد وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، فأردتَ أن تفرّق عليهم أمرهم وتحمل بعضهم على بعض؟ فقال له مسلم: ليس لذلك أتيت،
ص: 470
ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وأنّ معاوية حكم فيهم ظلماً بغير رضىً منهم، وغلبهم على ثغورهم الّتي أفاء الله بها عليهم، وأنّ عاملهم يتجبّر ويعمل أعمال كسرى وقيصر، فأتينا لنأمر بالعدل، وندعو إلى الحكم بكتاب الله إذ كنّا أهله، ولم تزل الخلافة لنا وإن قهرنا عليها، رضيتم بذلك أم كرهتم، لأنّكم أول مَن خرج على إمام هدىً وشقّ عصا المسلمين، ولا نعلم لنا ولكم مثلاً إلّا قول الله تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
قال: فجعل ابن زياد يشتمه ويشتم علياً والحسن والحسين، فقال مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتم والسبّ، فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله، فنحن أهل بيتٍ موكل بنا البلاء. فقال ابن زياد: إصعدوا به إلى أعلى القصر واضربوا عنقه واتبعوا رأسه جسده. فقال مسلم: أمَ والله يا ابن زياد! لو كنتَ من قريشٍ أو كان بيني وبينك رحمٌ لما قتلتني، ولكنّك ابن أبيك.
فازداد ابن زياد غضباً، ودعا برجلٍ من أهل الشام قد كان مسلم ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خُذ مسلماً إليك وأصعِده إلى أعلى القصر واضرب أنت عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك.
قال: فأصعد مسلم إلى أعلى القصر، وهو يسبّح الله ويستغفره ويقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. حتّى أُتي به إلى أعلى القصر، فتقدّم ذلك الشامي وضرب عنقه، ثمّ نزل الشامي وهو مذعورٌ مدهوش، فقال له ابن زياد: ماشأنك؟ أقتلتَه؟ قال: نعم، إلّا إنّه عرض عارضٌ فأنا به مرعوب. قال: وما الّذي عرض؟ قال: رأيتُ ساعة قتلته رجلاً بحذائي أسود شديد السواد كريه المنظر، عاضّاً على إصبعه -- أو قال: شفته --، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع مثله قطّ.
ص: 471
فتبسّم ابن زياد وقال: دهشت من شيءٍ لم تعتده قبل ذلك ((1)).
* * * * *
ثمّ أمر ابن زياد بمسلم وبهاني فصُلبا منكّسين ...
قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي في تاريخه: ولمّا صلب مسلم بن عقيل وهاني ابن عروة، قال فيهما عبد الله بن الزبير الأسدي:
إذا كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانىءٍ بالسوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجهَه
وآخر
يهوي من طمار قتيلِ
تري
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
فتىً كان
أحيى من فتاةٍ حييّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِ
وأشجع من
ليث بخفان مصحر
وأجرء من
ضار بغاية غيلِ
أصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
من يسري بكلّ سبيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناًوقد
طلبته مذحجٌ بذحولِ
تطوف
حواليه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائل ومسولِ
ص: 472
فإن
أنتمُ لم تثأروا لأخيكم
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ
قال: ثمّ كتب ابن زياد إلى يزيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد، الحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤونة عدوّه.. ثمّ ذكر قدوم مسلم بن عقيل وذكر هاني بن عروة، وكيف أخذهما وكيف قتلهما، ثمّ قال: وقد بعثتُ برأسيهما مع هاني بن حية الوداعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل الطاعة والسنّة والجماعة، فليسألهما أمير المؤمنين عمّا أحبّ، فإنّ عندهما علماً وفهماً وصدقاً وورعاً.
فلمّا ورد الكتاب والرأسان جميعاً، نصبهما على باب دمشق، ثمّ كتب لابن زياد: أمّا بعد، فإنّك عملتَ عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجاش، فكفيت ووفيت، وقد سألتُ رسوليك فوجدتهما كما زعمت، وقد أمرتُ لكلّ واحدٍ منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك، فاستوصِ بهما خيراً، وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد عزم على المصير إلى العراق، فضع المراصد والمناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّ واقتل على التهمة، واكتب في ذلك إليّ كلّ يوم بما يحدث من خبر.
قال: وبلغ الحسينَ أنّ مسلم بن عقيل قد قُتل، وذلك إنّه قدم عليه رجلٌ من أهل الكوفة، فسأله عن مسلم، فقال: والله يا ابن رسول الله ما خرجتُ من الكوفة حتّى نظرتُ إلى مسلم بن عقيل وهاني بن عروة المذحجي قتيلَين جميعاً، مصلوبين منكسين في سوق القصابين، وقد وجّه برأسيهما إلى يزيد. فاستعبر الحسين باكياً، ثمّ قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وعزم على المسير إلى
ص: 473
العراق ((1)).
ثمّ أقبل بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأُذِن له، فدخل على عبيد الله، فأخبره خبر ابن عقيل وذكر ما كان من أمانه له، فقال له عبيد الله: وما أنت والأمان؟ كأنما أرسلناك لتأتينا به! فسكت ابن الأشعث.
وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر، وقد اشتدّ به العطش، فقال: اسقوني من هذا الماء. وتساند إلى حايط، وبعث عمرو بن حريث غلاماً فجاءه بقلّة عليها منديل وقدح، فصبّ فيه ماءً فقال له: اشرب، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه فلا يقدر أن يشرب، ففعل ذلك مرّةً أو مرّتين، فلمّا ذهب في الثالثة ليشربه سقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم شربته.
وخرج رسول ابن زياد وأمر بإدخاله، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرس: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي لَيكثرنّ سلامي عليه. فقال له ابن زياد: لَعمري لتقتلن. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: دعني أُوصى إلى بعض قومي. قال: افعل. فنظر مسلم إلى جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة وقد يجب عليك نجح حاجتي، وهو سرّ. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال عبيد الله: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ قال: فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال: إنّ علَيّ دَيناً استدنتُه مذ وقت قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي، وإذا قُتِلتُ فاستوهِب
ص: 474
جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه، فإنّي قد كنتُ أعلمتُه أنّ الناس ليسوا إلّا معه ولا أراه إلّا مقبلاً. فقال عمر لابن زياد: أتدري أيّها الأمير ما قال؟ إنّه ذكر كذا وكذا. فقال ابن زياد: لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمَن الخائن، أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها، وأمّا الحسين فهو إن لم يردنا لم نرده، اصعدوا به فوق القصر واضروا عنقه، ثمّ أتبعوا جسده، أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعي بكر بن حمران الأحمري، فقال له: اصعد، فلتكن أنت الّذي تضرب عنقه.
فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وخذلونا. فأشرفوا به على موضع الحراس اليوم فضُرب عنقه واتبع جسده رأسه ((1)).
* * * * *
ووقع الخبر عند الحسين بقتل مسلم بن عقيل وهاني، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما. يردّد ذلك مراراً، فقيل له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفتَ من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوّف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل وقال: ما ترون؟ فقد قُتل مسلم بن عقيل! قالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق ((2)).
ص: 475
قتله راشد بن صرد بن عتبة، وقيل: قتله ابن حمران الأحمري، قُتل بالكوفة على سطح قصر الإمارة، قبره بمقبرة الكوفة، صلّى عليه عمر بن سعد بعد ثلاثة أيّام من قتله ((1)).
فقال ابن الأشعث: لا تقتل نفسك وأنت في ذمّتي. قال: أُؤسر وبي طاقة؟! لا والله لا يكون ذلك أبداً. وحمل عليه فهرب منه، فقال مسلم: اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي. فحملوا عليه من كلّ جانب، فضربه بكير بن حمران الأحمري على شفته العليا، وضربه مسلم في جوفه فقتله، وطُعن من خلفه فسقط من فرسه فأُسر، فقال مسلم: اسقوني شربةً من ماء. فأتاه غلام عمرو بن حريث بشربة زجاج، وكانت تملى دماً وسقطت فيه ثنيّته.
فأُتي به إلى ابن زياد فتجاوبا، وكان ابن زياد يسبّ حسيناً وعليّاً (علیه السلام) ، فقال مسلم: فاقضِ ما أنت قاضٍ يا عدوّ الله. فقال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر واضربوا عنقه. وكان مسلم يدعو الله ويقول: اللّهمّ احكُم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا. فقتله وهو على موضع الحذّائين، ثمّ أمر بقتل هاني بن عروة في محلّة يباع فيها الغنم، ثمّ أمر بصلبه منكوساً.
وأنشد أسدي:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموتُ فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
ص: 476
وأنفذ رأسهما إلى يزيد في صحبة هاني بن حياة الوادعي، فنصب الرأسين في دربٍ من دمشق، وكتب: قد بلغني أنّ الحسين قد عزم إلى المسير إلى العراق، فضع المراصد، واحبس على الظنّ واقتل على التهمة حتّى تُكفى أمره ((1)).
ولمّا جيء بمسلم إلى عبيد الله بن زياد، أخبره عبد الرحمان أنّه قد أمنه، فقال: ما أنت والأمان؟ إنّما بعثناك لتجيء به لا لتؤمنه. فأمر به، فأُصعِد إلى أعلى القصر، فضُربت عنقه، وألقى جثّته إلى الناس، وأمر بهانئ فقُتل في السوق، وسُحب إلى الكناسة فصُلب هناك.
وقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ
في السوق وابن عقيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموتُ لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
أصابهما
أمر الإمام فأصبحا
أحاديثَ
مَن يسعى بكلّ سبيلِ ((2))
وأمّا مسلم، فإنّ محمداً قدم به القصر، ودخل محمّد على عبيد الله فأخبره الخبر وأمانه له، فقال له عبيد الله: ما أنت والأمان؟ ما أرسلناك لتؤمنه، إنّما أرسلناك
ص: 477
لتأتينا به! فسكت محمّد.
ولمّا جلس مسلم على باب القصر رأى جرة فيها ماء بارد، فقال: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها؟ والله لا تذوق منها قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل: مَن أنت؟ قال: أنا مَن عرف الحقّ إذ تركتَه، ونصح الأُمّة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد، فصبّ له في قدح، فأخذ ليشرب فامتلأ القدح دماً، ففعل ذلك ثلاثاً، فقال: لو كان من الرزق المقسوم شربتُه.
وأُدخل على ابن زياد، فلم يسلّم عليه بالإمارة، فقال له الحرسي: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرنّ تسليمي عليه. فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن. فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوص إلى بعض قومي. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد: إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرّ. فلم يمكّنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمّك. فقام معه، فقال: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنته [منذ قدمت الكوفة] سبعمائة درهم فاقضها عنّي، وانظر جثّتي فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه. فقال عمر لابن زياد: إنّه قال كذا وكذا، فقال ابن زياد: لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمَن الخائن، أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا الحسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثّته فإنّا لن نشفعك فيها. وقيل: إنّه قال: أمّا جثّته فإنّا إذا قتلناه لا نبالي ما صُنع بها.
ص: 478
ثمّ قال لمسلم: يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم وتفرّق كلمتهم. فقال: كلّا، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب والسنّة. فقال: وما أنت وذاك يا فاسق؟! ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة؟ قال: أنا أشرب الخمر؟!! واللهِ إنّ اللهَ يعلم أنّك تعلم أنّك غير صادق، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّ أحقّ الناس بشرب الخمر منّي مَن بلغ في دماء المسلمين، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها على الغضب والعداوة، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحقّ بها منك. فشتمه ابن زياد وشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، فلم يكلّمه مسلم.
ثمّ أمر به فأُصعد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده، فقال مسلم لابن الأشعث: واللهِ لولا أمانك ما استسلمت، قم بسيفك دوني، قد أخفرت ذمتك.
فأصعد مسلم فوق القصر وهو يستغفر ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدائين، فضربت عنقه، وكان الّذي قتله بكير بن حمران الّذي ضربه مسلم، ثمّ أتبع رأسه جسده.
فلمّا نزل بكير قال له زياد: ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يسبّح الله ويستغفر، فلمّا قتلتُه قلت له: اُدنُ منّي، الحمد لله الّذي أمكن منك وأقادني منك، فضربتُه ضربةً لم تغنِ شيئاً، فقال: أما تري في خدش تخدشنيه
ص: 479
وفاء من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: وفخراً عند الموت! قال: ثمّ ضربته الثانية فقتلته ((1)).
* * * * *
فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتل هانئ ومسلم، وقيل: قاله الفرزدق. (الزبير: بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة):
فإن كنتِ لا
تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ قد
هشّم السيف وجهه
وآخر يهوى من
طمار قتيلِ
وهي أبيات.
وبعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له: وقد بلغني أنّ الحسين قد توجّه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التهمة وخذ على الظنة، غير أن لا تقتل إلّا من قاتلك ((2)).
* * * * *
وأتاه خبر قتل مسلم بن عقيل بالثعلبيّة، فقال له بعض أصحابه: ننشدك الله إلّا رجعتَ من مكانك، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة، بل نتخوّف عليك أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل وقالوا: والله لا نبرح حتّى يدرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم. فقال الحسين: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فقال له بعض أصحابه: إنّك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة
ص: 480
لكان الناس إليك أسرع.
* * *
فلمّا أتى الحسين خبر قتل أخيه من الرضاعة ومسلم بن عقيل، أعلمَ الناسَ ذلك، وقال: قد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ أن ينصرف فلْينصرف، ليس عليه منّا ذمام. فتفرّقوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الّذين جاؤوا معه من مكة، وإنّما فعل ذلك لأنّه علم أنّ الأعراب ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فأراد أن يعلموا على مَ يقدمون عليه ((1)).
فجاء به إلى عبيد الله بن زياد، فأمر به، فأُصعد إلى أعلى القصر، فضربت عنقه، وألقى جثّته إلى الناس ((2)).
فلمّا دخل قصر الإمارة وأصبح، جمع الناس وقال، وأرعد وأبرق، وقتل وفتك، وسفك وانتهك، وعمله وما اعتمده مشهور في تحيّله، حتّى ظفر بمسلم بن عقيل وقتله ((3)).
ص: 481
فآمنه ابن الاشعث وجاء به إلى ابن زياد، فأمر به فأُصعِد الى أعلى القصر، فضُربت عنقه وألقى رأسه الى الناس، وصُلبت جثّته بالكناسة، ثمّ فعل بهاني ابن عروة كذلك، فقال الشاعر:
فإن كنتِ
لا تدرين بالموت فانظري
إلى هانئٍ
بالسوق وابن عقيلِ
أصابهما
ريب المنون فأصبحا
أحاديث
من يسعى بكلّ سبيلِ
وقال آخر في ممالاة ابن الاشعث على مسلم بن عقيل:
وتركتَ
عمّك لم تقاتل دونه
فشلاً،
ولو لا أنت كان منيعا
وقتلتَ
وافد حزب آل محمّد
وسلبت
أسيافاً له ودروعا
وكان ابن الأشعث قد سلبه قبل أن يأتي به ابن زياد، وكان قتل مسلم لثمانٍ مضين من ذي الحجّة بعد رحيل الحسين من مكة بيوم، وقيل: يوم رحيله ولم يعلم الحسين بما جرى في الكوفة.
وبعث ابن زياد برأس مسلم بن عقيل إلى دمشق الى يزيد، وهو أوّل رأسٍ حُمل من رؤوس بني هاشم، وجثّة مسلم أوّل جثّةٍ صُلبت منهم ((1)).
فنادوا إليه أنّه لا يكذب ولا يغر، فلم يلتفت إلى ذلك، وتكاثروا عليه بعد أن
ص: 482
أُثخن بالجراح، فطعنه رجلٌ من خلفه، فخرّ إلى الأرض، فأُخِذ أسيراً.فلمّا أُدخل على عبيد الله لم يسلّم عليه، فقال له الحرس: سلِّم على الأمير. فقال له: أُسكت، ويحك، واللهِ ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمتَ أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم: إن قتلتني فلقد قتل مَن هو شرٌّ منك من هو خيرٌ منّي، وبعد فإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولوم الغلبة، لا أحد أولى بها منك.
فقال ابن زياد: يا عاقّ يا شاقّ، خرجتَ على إمامك وشققتَ عصا المسلمين وألحقت الفتنة. فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد! إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألحقها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته.
فقال ابن زياد: منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال له مسلم: ومَن يا ابن مرجانة؟ فقال: أهله يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد: أتظنّ أنّ لك في الأمر شيئاً؟ فقال له مسلم: والله ما هو الظنّ، ولكنّه اليقين. فقال ابن زياد: أخبِرني يا مسلم بماذا أتيتَ هذا البلد وأمرهم ملتئم، فشتّتَّ أمرهم بينهم وفرّقت كلمتهم؟ فقال مسلم: ما لهذا أتيت، ولكنّكم أظهر تم المنكر ودفنتم المعروف، وتآمر تم على الناس بغير رضىً منهم، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك.
فجعل زياد يشتمه ويشتم عليّاً والحسن والحسين (علیهم السلام) . فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة، فاقضِ ما أنت قاض يا عدوّ الله. فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به إلى أعلى القصر فيقتله، فصعد به وهو يسبّح الله تعالى ويستغفره ويصلّي على النبيّ (صلی الله علیه و آله) ، فضرب عنقه، فنزل مذعوراً، فقال له ابن
ص: 483
زياد: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، رأيتُ ساعة قتله رجلاً أسود سيّء الوجه حذا منّي، عاضاً على إصبعه -- أو قال: على شفته --، ففزعتُ منه فزعاً لم أفزعه قطّ. فقال له ابن زياد (لعنه الله): لعلّك دُهشت ((1)).
* * * * *
وفي قتل مسلم وهاني يقول عبد الله بن زبير الأسدي، ويقال: إنّها للفرزدق، وقال بعضهم: إنّها لسليمان الحنفي:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجهَه
وآخر
يهوى من طمار قتيلِ
أصابهما
فرخ البغيّ فأصبحا
أحاديث
من يسرى بكلّ سبيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
فتىً كان
أحيى من فتاة حييّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحجٌ بذحولِ
تطوف
حفافيه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائل ومسولِ
ص: 484
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكم
فكونا
بغايا أرغمت ببعولِقال الراوي: وكتب عبيد الله بن زياد بخبر مسلم وهاني إلى يزيد بن معاوية، فأعاد الجواب إليه يشكره فيه على فعاله وسطوته، ويعرّفه أن قد بلغه توجّه الحسين (علیه السلام) إلى جهته، ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة والانتقام والحبس على الظنون والأوهام ((1)).
فانهزم واستتر، ونادى منادي عبيد الله بن زياد: مَن أتى بمسلم بن عقيل فله ديته. فأُمسك مسلم وأُحضر إليه، ولمّا حضر مسلم بين يدَي عبيد الله، شتمه وشتم الحسين وعلياً، وضرب عنقه في تلك الساعة، ورميت جيفته!!!!! مِن القصر، ثمّ أُحضر هاني بن عروة، وكان ممّن أخذ البيعة للحسين، فضرب عنقه أيضاً، وبعث برأسيهما إلى يزيد بن معاوية ... ((2)).
قال: وجاء محمّد بمسلم إلى القصر، فأجلسه على بابه ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه، فقال له: ما أنت والأمان؟ ما أرسلناك لتؤمنه، إنّما أرسلناك لتأتينا به!
قال: ولمّا جلس مسلم على باب القصر رأى جرّةً فيها ماء بارد، فقال: اسقوني
ص: 485
من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها! واللَّه لا تذوق منها قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له ابن عقيل: مَن أنت؟ قال:أنا من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح الأُمّة وإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأفظَّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي! قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصبّ له في قدح، فأخذ يشرب فامتلأ القدح دماً، فعل ذلك ثلاثاً، ثمّ قال: لو كان من الرزق المقسوم لشربتُه.
وأُدخل على ابن زياد فلم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلِّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريده فليكثرنّ تسليمي عليه. فقال ابن زياد: لعمري لتقتلنّ. قال: فدعني أُوصى إلى بعض قومي. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبي وقّاص: إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرّ. فلم يمكّنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمّك. فقام معه، فقال: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه أنفقته سبعمائة درهم فاقضِها عنّي، وانظر جثّتي فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين فاردده. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما سارّني؟ فقال: أكثرتم على ابن عمّك. فقال: الأمر أكبر من هذا. قال: اكتم على ابن عمّك: قال: الأمر أكبر من هذا. وأخبره بما قال، فقال ابن زياد: لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن، أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا لم نكفّّ عنه، وأمّا جشّته فإنّا لا نشفّعك فيها. وقيل: إنّه قال: وأمّا جثّته فإذا قتلناه لا نبالى ما صنع بها.
ثمّ قال: يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتيت
ص: 486
بينهم وتفريق كلمتهم. قال: كلّا، ولكنّ أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمربالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. فقال: وما أنت وذاك؟
ثمّ كانت بينهما مقاولة، قال له ابن زياد في آخرتها: قتلني اللَّه إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. فقال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة لأحدٍ من الناس أحقّ بها منك! فشتمه ابن زياد وشتم حسيناً وعليّاً وعقيلاً، ولم يكلّمه مسلم.
ثمّ أمر به، فأصعد فوق القصر وهو يستغفر اللَّه تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين فضربت عنقه، وكان الّذي قتله بكير بن حمران، ثمّ أتبع رأسه جسده ((1)).
* * * * *
وبعث عبيد اللَّه بن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره، ويقول له: قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ توجّه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التّهمة وخذ بالظَّنّة، غير إلّا تقتل إلّا من قاتلك ((2)).
فأعطاه محمّد بن الأشعث الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله فأمر به، فأُصعد إلى أعلى القصر فضرب عنقه وألقى جثّته إلى الناس، وأمر بهانئ فسحب إلى الكناسة فصلب هناك، فقال شاعرهم:
ص: 487
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِأصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
من يسعى بكلّ سبيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طلبته مذحجٌ بقتيلِ ((1))
فأعطاه ابن الأشعث أماناً فسلّم نفسه، فجاء به إلى عبيد الله، فضرب عنقه وألقاه إلى الناس، وقتل هانئاً، فقال الشاعر:
فإن كنتِ لا
تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
أصابهما أمر
الأمير فأصبحا
أحاديث من يسعى
بكلّ سبيلِ
أيركب أسماء
الهماليج آمناً
وقد طلبته مذحجٌ
بقتيلِ
يعني: أسماء بن خارجة ((2)).
* * * * *
وجاء اللّيل، فهرب مسلم، فاستجار بامرأةٍ من كندة، ثمّ جيء به إلى عبيد
ص: 488
الله، فقتله، فقال: دعني أوصي. قال: نعم. فقال لعمر بن سعد: يا هذا! إنّ لي إليك حاجة، وليس هنا قرشيّ غيرك، وهذا الحسين قد أظلّك، فأرسِلْ إليهلينصرف، فإنّ القوم قد غروه وكذبوه، وعلَيّ دَين فاقضه عنّي، ووارِ جثّتي. ففعل ذلك، وبعث رجلاً على ناقةٍ إلى الحسين، فلقيه على أربع مراحل، فقال له ابنه عليّ الأكبر: اِرجع يا أبه، فإنّهم أهل العراق وغدرهم وقلّة وفائهم. فقالت بنو عقيل: ليس بحين رجوع. وحرّضوه، فقال حسين لأصحابه: قد ترَون ما أتانا، وما أرى القوم إلّا سيخذلوننا، فمن أحبّ أن يرجع فليرجع. فانصرف عنه قوم ((1)).
قالوا: ولمّا انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر، إذا على بابه جماعة من الأُمراء من أبناء الصحابة ممّن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذَن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضّب بالدماء في وجهه وثيابه وهو مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلّة من ماءٍ بارد هنالك، فأراد أن يتناولها ليشرب منها، فقال له رجلٌ من أُولئك: والله لا تشرب منها حتّى تشرب من الحميم. فقال له: ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم منّي. ثمّ جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط مولىً له إلى داره، فجاء بقلّة عليها منديل ومعه قدح، فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب، فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرّتين أو ثلاثاً، فلمّا شرب سقطت ثناياه مع الماء، فقال: الحمد لله، لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء.
ص: 489
ثمّ أُدخل على ابن زياد، فلمّا وقف بين يدَيه لم يسلّم عليه، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟! فقال: لا! إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه،وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيراً. فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض؟ قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ فقال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق وأنّك قلتَ بغير علم، وأنت أحقّ بذلك منّي، فإنّي لستُ كما ذكرت، وإنّ أولى بها منّي مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، ويقتل النفس الّتي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظنّ، وهو يلهو ويلعب كأنّه لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونك ودونه ولم يرك أهله. قال: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد. قال: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً؟ قال: لا والله ما هو بالظنّ، ولكنّه اليقين. قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. قال: أما أنّك أحقّ مَن أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم. وأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسيناً وعلياً، ومسلم ساكت لا يكلّمه. رواه ابن جرير عن أبي مخنف وغيره من رواة الشيعة.
ثمّ قال له ابن زياد: إنّي قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أُوصي إلى بعض قومي. قال: أوص. فنظر في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي
ص: 490
وقاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرّ، فقممعي إلى ناحية القصر حتّى أقولها لك. فأبى أن يقوم معه حتّى أذن له ابن زياد، فقام فتنحّى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إنّ علَيّ دَيناً في الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عنّي، واستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإنّي كنت قد كتبت إليه أنّ الناس معه، ولا أراه إلّا مقبلاً. فقام عمر فعرض على ابن زياد ما قال له، فأجاز ذلك له كلّه، وقال: أمّا الحسين فإن لم يردنا لا نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه.
ثمّ أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل فأُصعِد إلى أعلا القصر، وهو يكبّر ويهلّل ويسبّح ويستغفر ويصلّي على ملائكة الله، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وخذلونا. ثمّ ضرب عنقه رجلٌ يقال له بكير بن حمران، ثمّ أُلقي رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.
ثمّ أمر بهانئ بن عروة المذحجي فضربت عنقه بسوق الغنم، وصُلب بمكان من الكوفة يقال له الكناسة، فقال رجل شاعرٌ في ذلك قصيدة:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
أصابهما
أمر الإمام فأصبحا
أحاديث
مَن يغشى بكلّ سبيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيف وجهه
وآخر
يهوي في طماره قتيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
ص: 491
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ
فكونوا
بغيا أُرضيَت بقليلِ
ثمّ إنّ ابن زياد قتل معهما أناساً آخرين، ثمّ بعث برؤوسهما إلى يزيد بن معاويةإلى الشام، وكتب له كتاباً صورة ما وقع من أمرهما ((1)).
* * * * *
ولمّا انتهى مسلم إلى باب القصر وأراد شرب الماء، قال له مسلم بن عمرو الباهلي: أتراها ما أبردها؟ واللهِ لا تذوقها أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل: ويحك، من أنت؟ قال: أنا مَن عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له مسلم: لأُمّك الويل! ما أجفاك وأفظّك وأغلظك يا ابن ناهلة!! أنت والله أولى بالحميم ونار الجحيم ((2)).
فأقبلوا به أسيراً حتّى دخل على عبيد الله، فلم يسلّم عليه، فقال له بعض الحرس: سلّم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي لَيكثرنّ سلامي عليه. وقيل: إنّه قال: اُسكت، ويحك، ما هو لي بأمير. فقال عبيد الله: لا عليك، سلّمتَ أم لم تسلّم فإنّك مقتول. قال: إن تقتلني فلقد قتل مَن هو شرٌّ منك مَن هو خير منّي، فإنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة، لا أحد أولى بها منك.
ص: 492
فقال ابن زياد: يا عاقّ يا شاقّ، خرجتَ على إمامك وشققتَ عصا المسلمين وألقحتَ الفتنة. فقال مسلم: كذبت يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين أنت وأبوك زياد عبد بني علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة علىأيدي شرّ البريّة. فقال ابن زياد: منّتك نفسك أمراً حال الله دونه وجعله لأهله. فقال مسلم: ومن أهله يا ابن مرجانة؟ قال: يزيد بن معاوية. فقال مسلم: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال ابن زياد: أتظنّ أنّ لك شيئاً من الأمر؟ قال: والله ما هو الظنّ، وإنّما هو اليقين. فقال ابن زياد: ما كان في قيان المدينة ما يشغلك عن السعي في فساد أُمّة محمّد؟ أتيتَهم وكلمتهم واحدة ففرقتهم. فقال: ما للفساد أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وأنّ معاوية ظلمهم وحمل فيئهم إليه، فجئتُ لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأقوم بالقسط وأدعو إلى حكم الكتاب، وإن كنتَ لابدّ قاتلي دعني أُوصي. فنظر إلى عمر بن سعد، فقال: لي إليك حاجة، وبيني وبينك رحم. قال عبيد الله: انظر إلى حاجة ابن عمّك. فتنحيا بحيث لا يراهما أحد، فقال: إنّ علَيّ دَيناً مذ دخلت الكوفة فاقضه عنّي، واطلب جثّتي من ابن زياد ووارها، وابعث إلى الحسين مَن يرده ويحذره من أهل الكوفة، فإنّي لا أراه إلّا مقبلاً. فأخبر عمر بن سعد لعبيد الله بن زياد ما قال، فقال: ماله له لا نمنعه أن يصنع به ما شاء، وأمّا الحسين إن تركنا لم نرده، وأمّا جثّته فإذا قتلناه لا نبالي ما صُنع بها.
وأمر بقتله، فاغلظ له مسلم في الكلام والسبّ، فأُصعِد على القصر فضرب عنقه بكير بن حمران الأحمري، ألقى جسده إلى الناس، وأمر بهاني بن عروة فسُحب إلى الكناسة، فقُتل وصُلب هناك، وقيل: ضرب عنقه في السوق غلامٌ لعبيد الله اسمه رشيد.
ورُويت هذه الأبيات عن عبد الله بن الزبير الأسدي:
ص: 493
إذا كنتِ
لا تدرين بالموت فانظري
إلى هاني
بالسوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجههوآخر
يهوى من طمار قتيلِ
أصابهما
أمر الأمير فأصبحا
أحاديث
مَن يسعى بكلّ سبيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد طلبته
مذحجٌ بذحولِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضخ دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
تطيف
حفافيه مراد وكلّهم
على رقبة
من سائل ومسولِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقتيلِ
وبعث عبيد الله بن زياد برأس مسلم وهاني إلى يزيد بن معاوية مع الزبير بن الاروح التميمي أحد بني مالك بن سعد ومع هاني بن أبي حية الوداعي، وأخبره بأمرهما ((1)).
* * * * *
وكتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: قد بلغني أنّ حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان، وابتليت
ص: 494
به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ((1)).
فأعطاه محمّد بن الأشعث الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأُصعِد إلى أعلى القصر، فضرب عنقه وألقى جثّته إلى الناس، وأمر بهانئ فسُحب إلى الكناسة فصُلب هناك، فقال شاعرهم في ذلك:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
الأبيات ((2)).
فلمّا أصبح [ابن زياد ليلة دخوله الكوفة] جمع الناس، فصال وجال، وقال فطال، وأرعد وأبرق، مسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة، ثم إنّه تحيّل عليهم حتّى ظفر بمسلم بن عقيل! فمسكه وقتله ((3)).
وكان مسلم بن عقيل لمّا قدم ليقتل بين يدي عبيد الله بن زياد، وقد أُثخن
ص: 495
جراحاً، نظر هل يرى أحداً من قريش؟ فرأى عمر بن سعد، فقال: اُدنُ منّي. فدنا منه عمر، فقال: أنت أقرب الناس إليّ في السبب، فإن أردتَ أن تفوز بشرفالدارين فابعث إلى حسين ليرجع من الطريق، فإنّي تركتُه ومَن معه وهم تسعون إنساناً على الخروج من مكة، وإنّهم الآن في الطريق، واكتب إليه بما أصابني. فلمّا انصرف عنه عمر بن سعد قال لابن زياد: أتدري ما قال لي مسلم؟ قال: اُكتُم على ابن عمّك. قال: الأمر أعظم من ذلك. قال: اُكتُم على ابن عمّك. فلمّا أكثر على ابن زياد فيها قال له مسلم، قال له: قل. قال: أخبَرني أنّ حسيناً خرج في أهله وقرابته ومَن اتبعه من الناس إلى الكوفة. قال له ابن زياد: أما إذ أخبرتَني فوالله لا خرج لقتاله غيرك، أما والله لو أسرّ إليّ كما أسرّ إليك لرددتهم، ويحك ما حفظتَ وصيّة ابن عمّك حين رآك لها أهلاً ((1)).
فأوثقوه وأخذوه إلى ابن زياد، فنظر مسلم إلى برادة هناك فيها ماء، وكان له يومان ما شرب الماء، فقال لِمَن يليها: اسقِني ماءً والجزاء على الله تعالى وعلى رسوله. فرفع إليه البرادة، فلمّا تناولها منه ردّها إليه وقال: خذها، لا حاجة لي فيها.
ثمّ أدخلوه إلى ابن زياد، فقال له القوم: سلِّم على الأمير. فقال: السلام على مَن اتّبع الهُدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى. فضحك ابن زياد, فقال له بعض الحجبة: أما ترى الأمير يضحك في وجهك، فلِمَ لا تسلّم عليه بالإمارة؟ فقال مسلم: واللهِ ما لي أميرٌ غير الحسين بن عليّ (علیه السلام) ، وإنّما يُسلّم
ص: 496
عليه بالإمارة مَن يخاف منه الموت.
ولله درّ مَن قال من الرجال:إصبرْ
لكلّ مصيبةٍ وتجلَّد
واعلمْ
بأنّ المرء غير مخلَّد
وإذا
ذكرتَ مصيبةً تشجى بها
فاذكر
مصيبة آل بيت محمّد
واصبر
كما صبر الكرام فإنّها
نوب
تنوب اليوم تكشف في غد
ثمّ إنّ ابن زيادٍ قال له: سواء عليك سلّمتَ أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال: إذا كان لابدّ من قتلي فلي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: أُريد رجلاً قرشيّاً أُوصيه. فنهض عمر بن سعد (لعنه الله)، فقال له: ما وصيّتك؟ فقال له: إدنُ منّي. فدنى منه. فقال له: أوّل وصيّتي: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ علياً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في اُمّته، وثانياً: تأخذ درعي تبيعه وتقضي عنّي سبعمائة درهم استقرضتها منذ دخلت إلى مصركم هذا، [و]ثالثاً: أن تكتب إلى سيّدي الحسين يرجع ولا يأتي إلى بلدكم فيصيبه ما أصابني، فقد بلغني أنّه توجّه بأهله وأولاده إلى الكوفة. فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نشهدها، وأمّا ما ذكرتَ من بيع الدرع وقضاء الدَّين فذلك إلينا إن شئنا قضيناه وإن شئنا لم نقض، وأمّا ما ذكرتَ من أمر الحسين فلابدّ أن يقدم علينا ونذيقه الموت غصّةً بعد غصّة. ثمّ إنّ ابن زياد سمع بذلك، فقال: قبّحك الله من مستودع سرّاً، وحيث أنّك أفشيت سرّه فلا يخرج إلى حرب الحسين غيرك.
ثمّ أمر بمُسلم أن يُصعَد به إلى أعلى القصر ويُرمى منه منكساً على رأسه، فعند ذلك بكى مسلم على فراق الحسين (علیه السلام) , وقال:
جزى الله عنّا قومنا شرّ ما جزى
شرار الموالي بل أعقّ وأظلمُ
ص: 497
همُ منعونا حقَّنا وتظاهروا
علينا ورامونا نذلّ ونرغمُ
وغاروا علينا يسفكون دماءنا
فحسبهمُ الله العظيم المعظمُ
ونحن بنو المختار لا شيء مثلنا
نبيّ صدوق مكرم ومكرمُ
قال: ثمّ اُلقي من أعلى القصر وعجّل الله بروحه إلى الجنّة.ثمّ إنّهم أخذوا مسلماً وهانئاً يسحبونهما في الأسواق، فبلغ خبرهما إلى مذحج، فركبوا خيولهم وقاتلوا القوم, وأخذوهما ودفنوهما، رحمة الله عليهما، وعذّب قاتليهما بالعذاب الشديد يوم الوعيد.
ولله درّ من قال من الرجال:
فإن كنتِ لا
تدرين بالموت فانظري
إلى هانئٍ في
السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ قد
هشّم السيف وجهه
وآخر يهوي من
طمار قتيلِ
أصابهما أمر
الأمير فأصبحا
أحاديث من يسري
بكلّ سبيلِ
ترى جسداً قد
غيّر الموت لونه
ونضيح دم قد سال
كلّ مسيلِ
فتىً كان أحيى
من فتاةٍ حييّة
وأقطع من ذي
شفرتين صقيلِ
وأشج من ليث
ببطن مسبل
وأجرأ من ليث
بغابة غيلِ
ثمّ إنّ ابن زياد (لعنه الله) بعث كتاباً إلى يزيد (لعنه الله) يخبره بقصّتهما،
ص: 498
فكتب إليه الجواب يقول: كنتَ كما أردتُ وفعلتَ ما أحببتُ وصدقتَ ظنّي فيك، وقد بلغني أنّ الحسين متوجّهٌ إلى العراق، فضع عليه المراصيد واكتبإليّ بما يحدث من الأُمور، والسلام ((1)).
رجعنا إلى كلام المفيد (رحمة الله) ، قال: وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، واستأذن فأذن له، فدخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره خبر ابن عقيل وضرب بكر إياه وما كان من أمانه له، فقال له عبيد الله: وما أنت والأمان؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه، إنّما أرسلناك لتأتينا به! فسكت ابن الأشعث.
وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر، وقد اشتدّ به العطش، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث ومسلم بن عمرو وكثير بن شهاب، وإذا قلّة باردة موضوعة على الباب، فقال مسلم: اسقوني من هذا الماء! فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها؟ لا والله لا تذوق منها قطرةً أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم. فقال له ابن عقيل: ويحك، مَن أنت؟ فقال: أنا الّذي عرف الحقّ إذا أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششتَه، وأطاعه إذ خالفتَه، أنا مسلم بن عمرو الباهلي. فقال له ابن عقيل: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وأقطعك وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثمّ جلس فتساند إلى حائط، وبعث عمرو ابن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء، فقال له: اشرب. فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ولا يقدر أن يشرب، ففعل
ص: 499
ذلك مرّتين، فلمّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم لَشربتُه.وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه، فلمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرنّ سلامي عليه. فقال له ابن زياد: لعمري لتُقتلنّ. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي. قال: افعل. فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله بن زياد، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نُجحَ حاجتي، وهي سرّ. فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيد الله بن زياد: لمَ تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟ فقام معه، فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنتُه منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عنّي، وإذا قتِلتُ فاستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين (علیه السلام) مَن يردّه، فإنّي قد كتبتُ إليه اُعلمُه أنّ الناس معه ولا أراه إلّا مقبلاً. فقال عمر لابن زياد: أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟ إنّه ذكر كذا وكذا. فقال ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن، أمّا ماله فهو له ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحب، وأمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها، وأمّا حسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده.
ثمّ قال ابن زياد: إيهٍ ابن عقيل، أتيتَ الناس وهم جمعٌ فشتّتَّ بينهم وفرّقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض. قال: كلّا، لستُ لذلك أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى الكتاب. فقال له ابن زياد: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لمَ لم تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال
ص: 500
مسلم: أنا أشرب الخمر؟ أما واللهِ إنّ الله لَيعلم أنّك غير صادق، وأنّك قد قلتَبغير علم، وأنّي لستُ كما ذكرت، وأنّك أحقّ بشرب الخمر منّي، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها ويسفك الدم الّذي حرّم الله على الغصب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك منّتك ما حال اللهُ دونه ولم يرك الله له أهلاً. فقال مسلم: فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله؟ فقال ابن زياد: أمير المؤمنين يزيد. فقال مسلم: الحمد لله على كلّ حال، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. فقال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام من الناس. فقال له مسلم: أما أنّك أحقّ من أحدث في الإسلام ما لم يكن، وأنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة، لا أحد أولى بها منك.
فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلاً، وأخذ مسلم لا يكلّمه. ثمّ قال ابن زياد: إصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه ثم أتبعوه جسده. فقال مسلم (رحمة الله) : والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني. فقال ابن زياد: أين هذا الّذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف؟ فدعا بكر بن حمران الأحمري، فقال له: اصعد، فليكن أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به، وهو يكبّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله (صلی الله علیه و آله) ، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وخذلونا. وأشرفوا به على موضع الحذّائين اليوم، فضرب عنقه وأتبع رأسه جثّته.
وقال السيّد: ولما قتل مسلمُ منهم جماعة، نادى إليه محمّد بن الأشعث: يا مسلم لك الأمان. فقال مسلم: وأيّ أمانٍ للغدرة الفجرة؟ ثم أقبل يقاتلهم، ويرتجز بأبيات حمران بن مالك الخثعمي يوم القرن: أقسمتُ لا أُقتَل إلّا حرّا.. إلى آخر الأبيات، فنادى إليه أنّك لا تكذَب ولا تغر، فلم يلتفت إلى ذلك،
ص: 501
وتكاثروا عليه بعد أن أُثخن بالجراح، فطعنه رجلٌ من خلفه فخرّ إلى الأرض، فأُخِذ أسيراً.
فلمّا دخل على عبيد الله لم يسلّم عليه، فقال له الحرسي: سلِّم على الأمير. فقال له: اسكت يا ويحك، والله ما هو لي بأمير. فقال ابن زياد: لا عليك، سلّمتَ أم لم تسلّم فإنّك مقتول. فقال له مسلم: إن قتلتني فلقد قتل من هو شرٌّ منك مَن هو خيرٌ منّي. ثمّ قال ابن زياد: يا عاقّ ويا شاقّ، خرجتَ على إمامك وشققتَ عصا المسلمين وألقحت الفتنة. فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدَي شرّ بريّته.
ثمّ قال السيّد بعدما ذكر بعض ما مر: فضرب عنقه، ونزل مذعوراً، فقال له ابن زياد: ما شأنك؟ فقال: أيّها الأمير، رأيت ساعة قتلته رجلاً أسود سيّء الوجه حذائي، عاضاً على إصبعه -- أو قال: شفتيه --، ففزعت فزعاً لم أفزعه قطّ! فقال ابن زياد: لعلّك دهشت.
وقال المسعودي: دعا ابن زياد بكير بن حمران الّذي قتل مسلماً، فقال: أقتلتَه؟ قال: نعم. قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه؟ قال: كان يكبّر ويسبّح ويهلّل ويستغفر الله، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا ثمّ خذلونا وقتلونا، فقلت له: الحمد لله الّذي أقادني منك، وضربته ضربةً لم تعمل شيئاً، فقال لي: أوَ ما يكفيك في خدشٍ منّي وفاء بدمك أيّها العبد؟ قال ابن زياد: وفخراً عند الموت؟! قال: وضربته الثانية فقتلتُه ((1)).
ص: 502
* * * * *
وفي مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رحمهما الله) يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
فإن كنتِ
لا تدرين ما الموت فانظري
إلى
هانئٍ في السوق وابن عقيلِ
إلى بطلٍ
قد هشّم السيفُ وجهه
وآخر
يهوي من طمار قتيلِ
أصابهما
أمر اللّعين فأصبحا
أحاديث
من يسري بكلّ سبيلِ
ترى
جسداً قد غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ
قد سال كلّ مسيلِ
فتىً كان
أحيا من فتاةٍ حييّةٍ
وأقطع من
ذي شفرتين صقيلِ
أيركب
أسماء الهماليج آمناً
وقد
طالبته مذحجٌ بذحولِ
تطيف
حواليه مراد وكلّهم
على
رقبةٍ من سائلٍ ومسولِ
فإن
أنتمُ لم تثأروا بأخيكمُ
فكونوا
بغايا أُرضيَت بقليلِ
ولمّا قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (رحمة الله عليهما)، بعث ابن زيادٍ برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن
ص: 503
معاوية، وأمر كاتبه أن يكتب إلى يزيد بما كان من أمر مسلم وهانئ، فكتب الكاتب وهو عمرو بن نافع فأطال فيه، وكان أوّل من أطال في الكتب، فلمّا نظر فيه عبيد الله كرهه وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اُكتب: أمّا بعد، فالحمد لله الّذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه وكفاه مؤونة عدوّه، أُخبر أمير المؤمنين أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأنّي جعلتُ عليهما المراصد والعيون ودسست إليهما الرجال، وكدتُهما حتّى أخرجتُهما وأمكن الله منهما، فقدّمتهما وضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة، فليسألهما أمير المؤمنين عما أحبّ من أمرهما، فإنّ عندهما علماً وورعاً وصدقاً، والسلام. فكتب إليه يزيد: أمّا بعد، فإنّك لم تعد أن كنتَ كما أُحبّ، عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، وقد أغنيتَ وكفيت، وصدقت ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوتُ رسوليك وسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً، وإنّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح واحترس، واحبس على الظنّة واقتل على التهمة، واكتب إليّ في كلّ يومٍ ما يحدث من خبر إن شاء الله.
وقال ابن نما: كتب يزيد إلى ابن زياد: قد بلغني أنّ حسيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان وبلدك من بين البلدان، وابتُليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعبد العبيد ((1)).
ص: 504
وفي روايةٍ أُخرى: إنّه لما شاهد ذلك قبل أن يقتله يبست يده، فلمّا أخبر ابن زياد (لعنه الله) بذلك دعاه واستعلم منه ذلك، فتبسّم وقال: لمّا أردتَ أن تفعل خلاف عادتك دهشت وتخيّل لك ذلك، فأرسل ابن زياد رجلاً غيره إلى أعلى القصر، فلمّا أراد قتله رأى النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد تصوّر له، فدهش ومات من ساعته، فأرسل ابن زياد الشامي الملعون فقتله ((1)).
فأوثقوه وآتوه إلى ابن زياد، فقيل له: سلّم على الأمير. فقال مسلم: والله ما لي أمير غير الحسين (علیه السلام) . ثمّ أنشد:
إصبر
لكلّ مصيبةٍ وتجلَّد
واعلم بأنّ المرء غير مخلَّد
وإذا
ذكرتَ مصيبةً تشجى لها
فاذكر مصيبة آل بيت محمّد
واصبر
كما صبر الكرام فإنّها
نوَب تنوب اليوم تكشف في غد
فقال ابن زياد: يا مسلم، سواء عليك سلّمت أو لم تسلّم أنّك مقتولٌ لا محالة.
قال مسلم: أريد رجلاً قرشياً أوصيه. فقام عمر بن سعد إليه وقال له: ما وصيّتك؟ فقال له: أوّل وصيّتي: فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ عليّاً وليّ الله ووصيّ رسوله وخليفته في أُمّته، والثانية: تبيع درعي وتقضي عنّي سبعمائة درهم استقرضتها، والثالثة: أن تكتب إلى سيّدي الحسين يرجع ولا يأتي إلى بلدكم. فقال ابن سعد: أما ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نشهد بها، وأما بيع الدرع وقضاء الدَّين إن شئنا قضيناه وإلّا لا، وأما من
ص: 505
أمر الحسين فلابدّ أن يقدم إلينا ونذيقه الموت.
ثمّ أمر ابن زياد أن يصعد بمسلم إلى أعلى القصر ويرمى منه، فبكى مسلم على فراق الحسين (رضي الله عنهما) وجعل يقول:
جزى
الله عنّا شرّ ما قد جزى
شرار
الموالي بل أعقّ وأظلما
همُ
منعونا حقَّنا وتظاهروا
علينا
وراموا أن نذلّ ونرغما
وغاروا
علينا يسفكون دماءنا
فحسبهم
الله العظيم المعظّما
ونحن
بنو المختار لا شيء مثلنا
وفينا
نبي مكرم ومكرما
ثمّ ألقوه من أعلى القصر، وعجّل الله بروحه إلى الجنّة.
ثمّ أخذوا مسلماً وهانياً فألقوهما في الأسواق، فبلغ خبر مسلم وهانئ إلى قبائل مذحج، فقاتلوا القوم، فغسلوهما ودفنوهما (رحمهما الله) ((1)).
وأخذوه أسيراً إلى ابن زياد، فلمّا أتوا به إلى قصر الإمارة نظر إلى برادة فيها ماء، وكان له يومان ما شرب الماء، لأنّه كان نهاره يجاهد وليله ساجداً، فقال للساقي: يا شيخ، اسقني شربةً من ماء، فإن عشتُ كافيتُك، وإن متّ كان المكافي رسول الله. فدفع إليه برادة، فلمّا أخذها ووضعها في فيه سقطت أضراسه في الإناء، فردّها مسلم وقال: لا حاجة لي بالماء.
ثمّ أدخلوه على ابن زياد (لعنه الله)، فلمّا نظر مسلم إلى تجبّره قال: السلام على مَن اتّبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى. فتبسّم ابن زياد (لعنه الله)، فقال بعض حجّابه: يا مسلم، أما ترى الأمير ضاحكاً عليك،
ص: 506
لو قلت: السلام عليك أيّها الأمير. فقال مسلم: واللهِ ما علمت أنّ لي أميراً غير الحسين (علیه السلام) ، وإنّما يسلِّم عليه بالإمارة مَن يخاف منه. فقال ابن زياد (لعنه الله): سواء عليك سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول في هذا اليوم.
فقال مسلم: إذا كان لابدّ من قتلي فإنّي أريد رجلاً قرشيّاً أوصيه بوصيّة. فقام إليه ابن سعد، فقال (علیه السلام) : أوّل وصيّتي: شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ علياً وليّ الله، والثانية: أن تكتبوا إلى سيّدي الحسين (علیه السلام) أن يرجع عنكم، فقد بلغني أنّه خرج بنسائه وأولاده وأخاف أن يصيبه ما أصابني. فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من الشهادة فكلّنا نقرّ بها، وأمّا ما ذكرتَ من بيع درعك وقضاء دينك فنحن أولى، إن شئنا قضينا وإن شئنا لمن نقضه، وأمّا الحسين (علیه السلام) فلابدّ أن يقدم علينا ونذيقه الموت غصّةً بعد غصّة. ثمّ التفت إلى ابن زياد (لعنه الله) وأخبره بما أوصاه، فقال ابن زياد (لعنه الله): قبّحك الله من مستودع سرّاً، واللهِ لو أنّه باح إليّ سرّه لكتمتُ عليه وقضيت حاجته، ولكن من حيث أفشيت سرّه فلا يخرج إلى حرب الحسين (علیه السلام) غيرك.
ثمّ أمر ابن زيادٍ أن يصعد بمسلم إلى أعلى القصر وينكّسه على أمّ رأسه، فلمّا صعد به قال مسلم (علیه السلام) : دعني أُصلّي ركعتين وافعَل ما بدا لك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل. ثم بكى مسلم (علیه السلام) وأنشأ يقول:
جزى الله عنّا قومنا شرّ ما جزى
شرار الموالي بل أعقّ وأظلما
همُ منعونا حقّنا وتظاهروا
علينا وراموا أن نذلّ ونرغما
أغاروا علينا يسفكون دمائنا
ولم يرقبوا فينا ذماماً ولا دماً
فنحن بنو المختار لا خلق مثلنا
نبيّ أبت أركانه أن تهدّما
فأقسم لولا جيشكم آل مذحج
وفرسانها والحرّ كان المقدّما
ص: 507
قال: فنادى ابن زياد (لعنه الله): يا ويلك، ألقِه. فرموه على أُمّ رأسه فقضى نحبه.
ثمّ أمر بهاني بن عروة فأخرجوه وضُربت عنقه، فبلغ ذلك مذحج، فركبوا جميعاً وقاتلوا ابن زياد قتالاً شديداً، وكانوا يسحبون مسلماً وهانياً في الشوارع، فحملت عليهم مذحج ففرّقوهم، وأخذوا مسلماً وهانياً وغسلوهما وكفنوهما وصلّوا عليهما ودفنوهما.
وذكر عبد الله بن الزبير أنّ الفرزدق رثاهما بقوله:
إذا كنتِ لا
تدرين بالموت فانظري
إلى هاني بالسوق
وابن عقيلِ
إلى بطلٍ قد
هشّم السيف وجهه
وآخر يهوي من
جدار قتيلِ
أصابهما أمر
اللعين فأصبحا
أحاديث من يسري
بكلّ قبيلِ
ترى جسداً قد
غيّر الموت لونه
ونضح دمٍ قد سال
أيّ مسيلِ
فتىً كان أحيا
من فتاةٍ حييّة
وأقطع من ذي
شفرتين صقيلِ
تطوف حواليه
مراد وكلّهم
على رفقةٍ من
سائل ومسولِ
أيركب أسماء
الهماليج آمنّاًوقد طالبته مذحج
بقتيلِ
ص: 508
فإن
أنتم لم تطلبوا بأخيكم
فكونوا بغايا
أُرضيت بقليلِ
قال: فبلغ ذلك مذحج، فقالوا: والله إنّ إسماء بن خارجة أجلّ عندنا من صاحبنا، ولو كنّا طالبين بدمه لأخذناه من ابن الأشعث، ولكنّ ذلك من أمر السلطان.
ثم إنّ ابن زياد لمّا قتل هانياً ومسلماً أنفذ برأسيهما إلى يزيد، وكتب: الحمد لله الّذي أخذ للخليفة حقّه وكفاه عدوّه، واعلم أيّها الخليفة أنّ مسلم بن عقيل ورد إلى هاني بن عروة، فعرضت عليهما المراصد، فضربتُ أعناقهما وأنفذت إليك برأسيهما. قال: فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد فرح واسترّ، ثم كتب جوابه: أمّا بعد، فقد علمت أنّك أحبّ الناس إليّ، ولعمري لقد نصحت وأغنيت وكفيت، وصلت صولة الأسد، ولقد دعوتُ رسوليك وسألتُهما عمّا شرحت، فوجدتهما كما ذكرت، فاستوصِ بهما خيراً، وقد بلغني أنّ الحسين توجّه إلى العراق، فضع المراصد واكتب إليّ كلّ يوم بخبره.
قال أبو مخنف: وكان محمّد بن الأشعث قد أخذ سيف مسلم (علیه السلام) ودرعه، فأنشد عبد الله في ذلك:
أتركتَ مسلم لا تقاتل دونه
حذر
المنيّة أن تكون صريعا
وقتلتَ
وافد آل بيت محمّدٍ
وسلبتَ
أسيافاً له ودروعا
لو كنت
من أسد عرفت مكانه
ورجوت
أحمد في المعاد شفيعا ((1))
ص: 509
قال أبو مخنف: ثمّ أقبل محمّد بن الأشعث بمسلم إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له، فأخبر عبيد الله بخبر مسلم وضرب بكير إياه، فقال: بُعداً له. فأخبره بأمانه، فقال: ما أرسلناك لتؤمنه، إنّما أرسلناك لتأتي به. فسكت.
وانتهى مسلم إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر أُناسٌ ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمرو بن حريث ومسلم بن عمرو الباهلي وكثير بن شهاب، فاستسقى مسلم وقد رأى قلّةً موضوعة على الباب، فقال مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرةً حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم! فقال له: ويحك، مَن أنت؟ قال: أنا ابن من عرف الحقّ إذ أنكرتَه، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته، أنا مسلم ابن عمرو الباهلي. فقال: لأمّك الثكل! ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي. ثمّ تساند وجلس إلى الحائط، فبعث عمرو بن حريث مولاه سليمان فجاءه بقلّة، وبعث عمارة غلامه قيساً فجاءه بقلّة عليها منديل، فصبّ له ماء بقدح، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه، حتّى إذا كانت الثالثة سقطت ثنيّتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان من الرزق المقسوم لي لَشربتُه.
ثمّ أُدخل مسلم، فلم يسلّم بالإمرة على عبيد الله، فاعترضه الحرسيّ بذلك، فقال عبيد الله: دَعه فإنّه مقتول. فقال له مسلم: أكذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أُوصي إلى بعض قومي. فنظر إلى جلساء عبيد الله، فإذا عمر بن سعد فيهم، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك نجح حاجتي، وهو سرّ. فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله: لا تمتنع أن
ص: 510
تنظر في حاجة ابن عمّك. فقام معه وجلس بحيث ينظر إليه ابن زياد، فقال: إنّ علَيّ بالكوفة دَيناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمأة درهم، فاقضها عنّي ببيع لامتي، واستوهِب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين (علیه السلام) مَن يردّه، فإنّي كتبتُ إليه أعلمه أنّ الناس معه ولا أراه إلّا مقبلاً. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنّه قال كذا وكذا. فقال ابن زياد: ما خانك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن، أمّا ماله فهو لك فاصنع به ما شئت، وأما جثّته فلن نبالي إذا قتلناه ما يصنع بها، أو قال: فلن نشفعك فيها، فإنّه ليس بأهلٍ منّا لذلك، قد جاهدنا وجهد على هلاكنا، وأمّا حسينٌ فإن لم يردنا لم نرده وإن أرادنا فلن نكفّ عنه.
ثمّ قال: إيهٍ يا ابن عقيل، أتيتَ الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّتهم وتحمل بعضهم على بعض؟ قال: كلّا، ما أتيتُ لذلك، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق، أولم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟ قال: أنا أشرب الخمر؟! واللهِ إنّ الله يعلم أنّك غير صادق، وأنّك قلتَ بغير علم، وأنّي لست كما ذكرت، وإنّ أحقّ بشرب الخمر منّي مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً، فيقتل النفس الّتي حرّم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظنّ، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً. فقال ابن زياد: يا فاسق، إنّ نفسك تمنّيك ما حال الله دونه ولم يرك أهله. قال: فمن أهله يا ابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد. قال: الحمد لله، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم. قال: كأنّك تظنّ أنّ لكم في الأمر شيئاً؟ قال: ما هو الظنّ، ولكنّه اليقين. قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في
ص: 511
الإسلام! قال: أما أنّك أحقّ من أحدث في الإسلام حدثاً لم يكن منه، أما أنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة، وخبث السريرة ولؤم الغلبة لأحدٍ أحقّ بها منك.
فأخذ ابن زيادٍ يشتمه ويشتم عليّاً وحسيناً وعقيلاً، وأخذ مسلم بالسكوت والإعراض عنه، فقال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر، وادعوا بكير بن حمران الأحمريّ الّذي ضربه مسلم. فصعدوا به، وأحضر بكير فأمره أن يضرب عنقه ويتبع برأسه جسده من أعلى القصر، فصاح مسلم بمحمّد بن الأشعث: قم بسيفك دوني، فقد أخفرت ذمتك، أما والله لولا أمانك ما استسلمت. فأعرض محمّد، وجعل مسلم يسبّح الله ويقدّسه ويكبّره ويستغفره ويصلّي على أنبياء الله وملائكته، ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قومٍ غرّونا وكذبونا وأذلّونا. فأشرف به من على القصر، فضربت عنقه واتبع جسده رأسه، ونزل بكير، فقال له ابن زياد: وما كان يقول؟ قال: إنّه كان يسبّح ويستغفر، فلمّا أدنيتُه قلت: الحمد لله الّذي أقادني منك. وضربته ضربةً لم تغنِ شيئاً، فقال لي: أما ترى في خدشٍ تخدشنيه وفاء من دمك أيّها العبد؟ فقال ابن زياد: أوَ فخراً عند الموت؟ ثمّ قال: إيه، قال: وضربته الثانية فقتلته.
ثمّ أمر ابن زياد فقتل هاني وجملة من المحبوسين، وجُرّت جثّتا مسلم وهاني بحبلين في الأسواق.
وقُتل مسلم في اليوم الثامن من ذي الحجّة يوم خروج الحسين (علیه السلام) من مكّة.
قال أبو مخنف: وحدّث عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديَّين، قالا: لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همة إلّا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بزرود، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجلٍ من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى
ص: 512
الحسين، قالا: فوقف الحسين كأنّه يريده، ثمّ تركه ومضى، فقال أحدنا لصاحبه: إمضِ بنا إليه لنسأله عن خبر الكوفة. فانتهينا إليه وسلّمنا وانتسبنا، فإذا هو بكير بن المثعبة الأسدي، فاستخبرناه عن الكوفة، فقال: ما خرجتُ حتّى رأيت مسلماً وهانياً قتيلين يجران بأرجلهما في السوق. ففارقناه ولحقنا بالحسين، فسلّمنا عليه وسايرناه حتّى نزل الثعلبيّة ممسياً، فدخلنا عليه وقلنا له: يرحمك الله، إنّ عندنا خبراً إن شئتَ حدّثناك به علانيةً وإن شئتَ سرّاً. فنظر إلى أصحابه وقال: ما دون هؤلاء سرّ. فقلنا: أرأيتَ الراكب الّذي استقبلك عشاء أمس؟ قال: نعم، وقد أردتُ مسألته. فقلنا: قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤٌ من أسد منّا ذو رأيٍ وصدقٍ وفضلٍ وعقل، وإنّه حدّثنا بكيت وكيت. فاسترجع وقال: رحمة الله عليهما. وكرّرها مراراً، فقلنا: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر، بل نتخوّف أن يكونوا عليك. فاعترضته بنو عقيل بأنّنا لا نترك ثأرنا، فالتفت إلينا الحسين وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. فعلمنّا أنّه عزم على المسير، فقلنا له: خار الله لك. فدعا لنا، فقال له أصحابه: إنّك والله ما أنت مثل مسلم، ولو قدمتَ الكوفة كان الناس إليك أسرع.
قال أهل السيَر: ولمّا ورد الحسين زبالة أخرج كتاباً لأصحابه فقرأه عليهم، وفيه: أمّا بعد، فقد أتانا خبرٌ فظيع، إنّه قتل مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام. فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالاً إلّا صفوته.
وروى بعض المؤرّخين: أنّ الحسين لمّا قام من مجلسه بالثعلبيّة، توجّه نحو النساء وانعطف على ابنةٍ لمسلم صغيرة، فجعل يمسح على رأسها، فكأنّها أحسّت، فقالت: ما فعل أبي؟ فقال: يا بُنيّة، أنا أبوكِ. ودمعت عينه، فبكت
ص: 513
البنت وبكت النساء لذلك ((1)).
* * * * *
قال أهل السيَر: ثم إنّ ابن زياد بعث برأسي مسلم وهاني إلى يزيد مع هاني بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، واستوهبت الناس الجثث، فدفنوها عند القصر حيث تزار اليوم، وقبراهما كلّ على حِدة.
وإنّي لَأستحسن كثيراً قول السيّد الباقر بن السيّد محمد الهندي فيه:
سقتك
دماً يا ابن عمّ الحسين
مدامعُ
شيعتك السافحة
ولا
برحت هاطلات الدموع
تحيّيك
غاديةً رائحة
لأنك لم
تُروَ من شربةٍ
ثناياك
فيها غدت طائحة
رموك من
القصر إذ أوثقوك
فهل
سلمت فيك من جارحة
تُجرّ
بأسواقهم في الحبال
ألستَ
أميرهم البارحة
أتقضي
ولم تبكك الباكيات
أما لك
في المصر من نائحة
لئن
تقضِ نحباً فكم في زرود
عليك
العشيّة من صائحة
ولي في ذلك:
نزفت
دموعي ثمّ أسلمني الجوى
لقارعةٍ
ما كان فيها بمسلمِ
أجيل
وجوه الفكر كيف تخاذلت
بنو مضر
الحمراء عن نصر مسلمِ
أما كان
في الأرباع شخصٌ بمؤمنٍ
وما كان
في الأحياء حيٌّ بمسلمِ ((2))
ص: 514
ثمّ أُدخل على ابن زياد، وقد اجتمع الناس حول دار الإمارة، فمنهم من يقول بأنّ مسلماً مقتول لا محالة، ومنهم من يقول بأنّه يساق إلى الشام، ومنهم من يقول بأنّه يحبس حتّى يأتي الخبر من يزيد في أمره، فبينما هم كذلك إذا بجثّته الشريفة قد أُلقيت من أعلى القصر بلا رأس، ثمّ أتبع برأسه الشريف ((1)).
* * * * *
ثمّ إنّهم أخذوا مسلماً وهانياً يسحبونهما في الأسواق، فبلغ خبرهما إلى بني مذحج، فركبوا خيولهم وقاتلوا القوم، وأخذوا مسلماً وهانياً فغسلوهما ودفنوهما.
وفي بعض مؤلفات أصحابنا عن (قبسات) الشيخ درويش علي البغدادي: لمّا قُتل مسلم وجرى ما جرى، ربطوا برجله حبلاً وجرّوه في أسواق الكوفة.
قال الشعبي: فمرّ به رجلٌ أعرابي من أهل واقصة يقال له: حنظلة بن مرّة الهمداني، وكان من شيعة عليّ بن أبي طالب، وهو راكبٌ على مطيّته، فقال: ويلكم يا أهل الكوفة، ما فعل هذا الرجل الّذي تفعلون به هذا الفعال؟! فقالوا: هذا خارجيٌّ خرج على الأمير يزيد بن معاوية. فقال: يا قوم، بالله عليكم ما يقال له؟ وما اسمه؟ قالوا: مسلم بن عقيل ابن عمّ الحسين (علیه السلام) . فقال: ويلكم، إذا علمتم أنّه ابن عمّ الحسين فلمَ قتلتموه وسحبتموه على وجهه؟!
ثمّ نزل يقاتل حتّى قتل أربعة عشر رجلاً، فتكاثروا عليه حتّى قُتل وعجّل الله بروحه إلى الجنّة، وربطوا برجله حبلاً وسحبوه على وجهه حتّى رمي على كناسة الكوفة بجانب مسلم بن عقيل.
ص: 515
فقال الشعبي: فبقيت تلك الجثّة الطاهرة على وجه الأرض من غير غسل ولا كفن.
ولمّا دجى اللّيل ونامت كلّ عين، شدّت زوجة مثيم التمّار على نفسها وخرجت إلى الكناس، وحملت مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وحنظلة بن مرّة إلى دارها، ولمّا انتصف الليل ونامت كلّ عين حملتهم إلى جانب المسجد الأعظم ودفنتهم بدمائهم، ولم يعلم بها أحدٌ إلّا زوجة هاني بن عروة، لأنّها كانت في جوارها (رحمة الله عليهم ورضوانه) ((1)).
... فأمر ابن زياد رجلاً شاميّاً أن يصعد به إلى أعلى القصر ويضرب عنقه ويرمي رأسه وجسده إلى الأرض ((2)).
فلمّا أُتي بمسلم وقد عرّس عبيد الله بن زياد بأُمّ أيّوب بنت عتبة، قال: فأُتي بهاني بن عروة المرادي، فلمّا أُدخل على عبيد الله قال: استأثر على الأمير بالعرس. قال: وهل ردت العرس يا هاني؟ ورماه بمحجنٍ كان في يده، فارتجّ في الحائط، وأمر به إلى السوق فضُربت عنقه.
ثمّ أمر بمسلم بن عقيل، فقال: ائذن لي في الوصيّة، فقال: أوصي. فدعا عمرو ابن سعد للقرابة بينه وبين الحسين، فقال له: إنّ الحسين قد أقبل في سيافة وتراسه وأُناسٍ من ولده وأهل بيته، فأبعث إليه من يحذّره وينذره فيرجع، فقد
ص: 516
رأيت من خذلان أهل الكوفة ما قد رأيت. فقال له عبيد الله: ما قال لك هذا؟ قال: قال لي كذا وكذا، فأخبره الخبر، فقال عبيد الله: إنّه لا يخون الأمين، ولكنّه قد يؤتمن الخائن ((1)).
ص: 517
ص: 518
تقديم.. 5
الديباجة. 9
المقدّمة. 21
أقسام الأخبار. 45
القسم الأوّل: المختصرة. 46
القسم الثاني: المفصّلة. 46
الأسر. 49
الأسر بعد أن بذل غاية المجهود. 49
متى انتهت الحرب؟. 51
الوقت الأوّل: في الليل.. 52
الوقت الثاني: في الصباح.. 53
هل أوثقوه كِتافاً؟. 54
ص: 519
الطائفة الأُولى: في مجلس ابن مرجانة. 54
الطائفة الثانية: بعد أن وقع صريعاً 55
وقفة مواساة مع البطل الهاشميّ الجريح.. 57
حركته (علیه السلام) من الميدان إلى القصر. 61
المجموعة الأُولى: من دار طوعة مباشرة دون حرب... 61
المجموعة الثانية: من ميدان القتال. 62
بين ميدان القتال وقصر الخَبال. 63
نُقِل على بغلة. 64
الفائدة الأُولى: الذهاب راكباً 65
الفائدة الثانية: ركوب المولى بنفسه. 65
الفائدة الثالثة: اختيار البغلة. 66
لماذا اختيار البغلة؟. 66
نُقل فوراً 68
باب قصر الخبال... 69
إحداهما: دخول السبايا والرؤوس... 71
الثانية: وقوف مسلم (علیه السلام) . 72
هل أُوقف المولى مسلم (علیه السلام) على باب القصر؟. 72
جلوسه على باب القصر. 75
المتواجدون على باب القصر. 75
عطشه (علیه السلام) . 79
تنبيهات... 79
ص: 520
التنبيه الأوّل: الاستسقاء. 79
التنبيه الثاني: العطش وطبيعة الحرب... 81
التنبيه الثالث: الإباء الطالبي.. 81
التنبيه الرابع: مواساة سيّد الشهداء (علیه السلام) . 82
التنبيه الخامس: شكا عطشه إلى الله أوّلاً.. 84
التنبيه السادس: امتناعه عن شرب الماء. 84
التنبيه السابع: سقيه وهو مكتوف... 85
التنبيه الثامن: سقوط ثناياه. 86
التنبيه التاسع: خسّة العدوّ ونذالته. 87
متى استسقى المولى الغريب (علیه السلام) ؟. 87
الأوّل: أثناء الحرب... 88
الثاني: بعد الأسر. 89
الثالث: على باب القصر. 89
مَن الذي ردّ على المولى الغريب (علیه السلام) ؟. 90
مَن الذي أمر له بالماء؟. 91
أحدهما: عمارة بن عقبة بن أبي معيط.. 91
الآخر: عمرو بن حريث الباهلي.. 91
مَن الذي باشر بسقيه؟. 92
من أين جاؤوا بالماء؟. 93
المحصّلة. 93
استمرار عطشه من الحرب إلى الشهادة. 94
ص: 521
داخل القصر. 97
دخول الأسد الهاشميّ على الجرو الأموي.. 97
التفاتة: مواساة عيال سيّد الشهداء (علیه السلام) . 99
رفض السلام على ابن زياد. 99
القسم الأوّل: لم تذكر السلام. 99
القسم الثاني: رفض السلام. 101
القسم الثالث: لم يسلّم بشرط الاستبقاء. 102
فرية تمنّي الاستبقاء. 104
تنكّر ابن زياد للأمان الّذي أمر به. 109
الوصيّة. 113
الوصيّة الأصل.. 113
طلب الوصيّة وقبول ابن زياد. 115
طلب المولى (علیه السلام) وإجابة اللّعين.. 115
مبادرة المولى بعد الطلب دون انتظار الإذن. 117
قول ابن أعثم.. 118
مبادرة المولى إلى الوصيّة دون طلب ذلك من اللعين.. 119
لم يذكر الوصيّة. 120
موقف عمر بن سعد. 120
الصنف الأوّل: مبادرة ابن زياد. 120
الصنف الثاني: مبادرة ابن سعد. 121
الصنف الثالث: قبول ابن سعد دون انتظار الإذن. 123
ص: 522
الصنف الرابع: امتناع ابن سعد إلّا بعد الإذن. 123
دواعي اختيار عمر بن سعد. 125
النكتة الأُولى: عمل أهل البيت (علیهم السلام) بظاهر الأنساب... 125
النكتة الثانية: تمسّك أهل البيت (علیهم السلام) بالقرابة وإن بعدت... 128
النكتة الثالثة: ما هي القرابة بين المولى الغريب (علیه السلام) وابن سعد؟. 129
النكتة الرابعة: تشكيك البعض.... 130
الداعي المنصوص عليه. 130
الدواعي غير المنصوص عليها 131
دواعي قبول الوصيّة من قِبل ابن سعد. 143
الداعي الأوّل: الداعي المنصوص.... 143
الداعي الثاني: التفاخر والمباهات... 144
الداعي الثالث: الإحراج أمام الملأ.. 145
الداعي الرابع: الطمع في تكذيب الصادقين.. 146
الداعي الخامس: أن تكون له يدٌ عند الهاشميّين.. 146
هل كانت الوصيّة سرّاً؟. 147
أولاً: خبث ابن سعد. 149
ثانياً: عزّة مسلم (علیه السلام) . 149
ثالثاً: رعايةً لمقام سيّد الشهداء (علیه السلام) . 150
موادّ الوصيّة. 150
الوصيّة في نقاط.. 153
نذالة ابن سعد وإفشائه السرّ. 171
الإفشاء بعد طلبٍ من ابن زياد. 172
ص: 523
مبادرة ابن سعد. 173
موقف ابن زياد من الإفشاء. 176
الإشارة الأُولى: تملّق ابن زياد وتوثّبه. 177
الإشارة الثانية: تنكّر الطاغية للأخلاق.. 179
الإشارة الثالثة: رياء الطواغيت... 181
الإشارة الرابعة: تحقير ابن سعد. 182
الإشارة الخامسة: معرفة ابن زياد بالمولى الغريب (علیه السلام) . 183
الإشارة السادسة: لا يخونك الأمين.. 183
إفشاء السرّ بعد الشهادة. 187
دواعي الإصرار على الإفشاء. 188
أثر إفشاء السرّ. 190
الجواب على الوصيّة. 192
القسم الأوّل: ردّ ابن زياد على ابن سعد. 193
القسم الثاني: الردّ على المولى ابن عقيل (علیه السلام) . 205
القسم الثالث: جواب عمر بن سعد. 208
تنفيذ الوصيّة. 210
المحاججة والمناظرة. 213
القسم الأوّل: المقتضبة. 217
القسم الثاني: المفصّلة. 220
وجود اختصار في النصوص المفصّلة. 232
فقرات المحاججة. 233
ص: 524
قوّة المولى في محاججة ابن زياد. 307
الأُولى: الدقّة في الجواب وتحديد موضع الردّ. 308
الثانية: قوّة الردود. 308
الثالثة: شدّة الصمود. 308
الرابعة: قوّة السكينة والوقار. 308
الخامسة: عدم الاستجابة للاستفزازات 308
السادسة: العمق الذي لا يُدرَك من الولاء الخالص.... 308
السابعة: المعرفة -- الّتي لا توصَف -- بالولاية. 308
الثامنة: المعرفة العميقة الّتي لا توصَف بالعدوّ المواجه له. 308
التاسعة: القوّة والدقّة والبلاغة والقدرة الفائقة على فضح العدوّ. 308
العاشرة: القوّة الخارقة في الدفاع عن الإمامة. 309
الحادية عشر: المعرفة الّتي لا تدرَك بالدين وأحكامه. 309
الثانية عشر: المعرفة الدقيقة بتفاصيل تاريخ الأُمويّين وابن زياد وأبيه. 309
الثالثة عشر: المعرفة الدقيقة بأساليب العدوّ وأسلافه. 309
الرابعة عشر: المعرفة الدقيقة بتفاصيل المجتمع الّذي أُرسل إليه. 309
الخامسة عشر: المعرفة الدقيقة الشاملة الكاملة بالمهمّة المكلَّف بها 309
السادسة عشر: الدقّة الفائقة في توظيف الكلمات والتعبير. 309
السابعة عشرة: الدقّة العالية في تحرّي الحقّ ومتابعته. 309
الثامنة عشر: الدقّة المرهفة في تجنّب أيّ موقفٍ أو تعبير يفيد ادّعاء شيءٍ أو حقٍّ شخصيّ له يدافع عنه في السلطان أو أيّ مقام دنيويّ أو منصب من مناصب الأئمّة من أهل البيت (علیهم السلام) ومقاماتهم.. 309
التاسعة عشر: الوثوق المطلَق بالله والثقة الكاملة غير المنقوصة أبداً بصلاح
ص: 525
الموقف وصحّته، والإيمان الكامل به ما دام في طاعة إمام زمانه. 309
العشرون: الرضا الكامل والتسليم المطلق لمؤدّيات الموقف... 310
الحادية والعشرون: الثقة الكاملة بحسن العاقبة. 310
الثانية والعشرون: الشجاعة في الردّ. 310
الثالثة والعشرون: الصبر والصلابة والتغافل عن الجراح والنزف... 310
الرابعة والعشرون: تجاهل العدوّ واحتقاره وسحق كبريائه وغروره. 310
الأمر بالقتل... 311
البند الأوّل: أن يُصعَد به فوق القصر. 313
البند الثاني: أن يُضرَب عنقه. 313
البند الثالث: أن يُتبَع رأسه جسده، أو يتبع جسده رأسه، حسب اختلاف النصوص.... 313
الشهادة. 317
القسم الأوّل: المقتضبةً جدّاً 317
القسم الثاني: فيها شيءٌ من التفصيل.. 320
من المباشر للقتل؟ هل هو بكر (بكير) بن حمران الأحمري؟. 327
الموضع الّذي قُتل فيه. 335
الاحتمال الأوّل: التصحيف... 337
الاحتمال الثاني: تقارب المواضع. 337
الاحتمال الثالث: اختلاف المواضع بمرور الزمان. 338
لماذا صعد به إلى السطح؟. 338
ذكر الله ودعاؤه عند القتل.. 341
ص: 526
ملاحظات... 343
تتمّات... 352
التتمّة الأُولى: قتلة لم يقتلها أحدٌ في الإسلام. 353
التتمّة الثانية: حضور ابن زياد! 353
التتمّة الثالثة: لم يُقتَل بأوّل ضربة. 354
التتمّة الرابعة: الردّ إلى آخر لحظة. 354
التتمّة الخامسة: الفخر عند الموت... 355
التتمّة السادسة: السؤال عن قتله. 357
التتمّة السابعة: ما رآه القاتل عند قتله وتعليل ابن زياد. 358
التتمّة الثامنة: يبست يد القاتل ورأى النبيّ (صلی الله علیه و آله) . 360
التتمّة التاسعة: كيف رُمي (علیه السلام) من فوق القصر. 361
تشويهات... 363
الصَّلب.... 369
موضع الصَّلب... 370
الصَّلب منكوساً 374
أوّل جثّةٍ صُلبَت لبني هاشم.. 375
مدّة الصَّلب... 376
جرّه في الأسواق... 377
اللّوعة الأُولى: السحب بالحبال. 380
اللّوعة الثانية: جرّ الصبيان. 381
اللّوعة الثالثة: بلوغ الخبر لسيّد الشهداء (علیه السلام) . 382
ص: 527
اللّوعة الرابعة: مدّة السحب... 384
تجهيز الأجساد الطاهرة. 385
الطائفة الأُولى: تجهيز ابن سعد. 385
الطائفة الثانية: تجهيز مذحج.. 386
الطائفة الثالثة: تجهيز زوجة ميثم.. 387
الطائفة الرابعة: الصلاة عليه! 388
ناصر الجثمان المقدس حنظلة بن مرّة. 389
فوائد. 390
الأُولى: أنّ الرجل الغيور كان من أهل واقصة. 390
الثانية: أنّه كان من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) . 390
الثالثة: أنّ المشهد كان غاية في البشاعة بحيث أثار هذا الغيور العابر. 390
الرابعة: أنّ القوم غاية في الانحطاط والسقوط.. 390
الخامسة: صرّح القوم بخضوعهم وخنوعهم وتبعيّتهم للقرد الأموي.. 391
السادسة: يبدو من قوله: «وسحبتموه على وجهه» أنّ الجثمان كان يُسحَب مكبوباً على وجهه! 391
السابعة: ما أعظم مواساته ودفاعه وغيرته وحميّته. 391
الثامنة: أنّ القوم فعلوا فعلتهم بعد الصلب... 392
التاسعة: أنّ مذحجاً لم تتقدّم بشيءٍ ولم تقاتل من أجل إنقاذ الجثث... 392
العاشرة: وما أدراك ما العاشرة! 392
بعث الرؤوس إلى الشام.. 393
عدد الرؤوس المبعوثة. 398
ص: 528
حاملو الرؤوس إلى الشام. 399
أوّل رأس هاشميّ يُحمَل.. 401
كتاب ابن زياد ليزيد. 402
المعلومة الأُولى: التصريح بأسماء حاملي الرؤوس... 403
المعلومة الثانية: أنّ كاتب ابن زياد هو عمرو بن نافع. 403
المعلومة الثالثة: أنّ الكتاب من ألفاظ ابن زياد. 403
المعلومة الرابعة: احتوى الكتاب على حزمة معلوماتية امتازت بتشويه الحقائق، واحتشد فيها الكذب 403
المعلومة الخامسة: بعث إلى يزيد بعبدين من عبيده المخلصين.. 404
جواب يزيد على كتاب ابن زياد. 406
مقاطع الكتاب... 410
صلب الرؤوس في الشام. 423
لفتة. 424
موادّ البحث.... 427
الطبقات الكبرى لابن سعد (ت 230) 427
ترجمة الإمام الحسين (علیه السلام) (من طبقات ابن سعد)، تاريخ الاسلام للذهبي.. 428
المحبّر لمحمّد بن حبيب (ت 245) 430
الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ت 276) 430
أنساب الأشراف للبلاذري (ت 279) 431
الأخبار الطِّوال للدينوري (ت 282) 436
تاريخ اليعقوبي (ت 292) 439
ص: 529
تاريخ الطبري (ت 310) 439
الفتوح لابن أعثم الكوفي (ت 314) 446
العِقد الفريد لابن عبد ربّه (ت 328)، جواهر المطالب للباعوني.. 453
مروج الذهب للمسعودي (ت 346) 454
الثقات لابن حبان (ت 354) 456
مقاتل الطالبيّين للأصفهاني (ت 356) 456
الإرشاد للشيخ المفيد (ت 413) 460
تجارب الأُمم لمسكويه (ت 421) 466
إعلام الورى للطبرسي (ت 548) 467
مقتل الحسين (علیه السلام) للخوارزمي (ت 568) 468
روضة الواعظين للفتال النيسابوري (ت 508) 474
لباب الأنساب لابن فندق (ت 565) 476
مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ت 588) 476
المنتظم لابن الجوزي (ت 597) 477
الكامل في التاريخ لابن الأثير (ت 630) 477
الحدائق الورديّة للمحلي (ت 652) 481
مطالب السؤول لابن طلحة (ت 652)، كشف الغُمّة للأربلي (ت 693) 481
تذكرة خواصّ الأُمّة لسبط ابن الجوزي (ت 654) 482
اللّهوف في قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس (ت 664) 482
تاريخ أبي الفداء (ت 732) 485
نهاية الأرب للنويري (ت 733) 485
تهذيب الكمال للمزّي (ت 742) 487
ص: 530
سيَر أعلام النبلاء للذهبي (ت 748) 488
البداية والنهاية لابن كثير (ت 774) 489
مثير الأحزان لابن نما (ت 841) 492
تهذيب التهذيب لابن حجر (ت 852) 495
الفصول المهمّة لابن الصبّاغ (ت 855)، نور الأبصار للشبلنجي.. 495
الجوهرة للبرّي (ق 7) 495
المنتخب للشيخ الطريحي (ت 1085) 496
بحار الأنوار للعلّامة المجلسي (ت 1111) 499
جلاء العيون. 505
ينابيع المودّة للقندوزي (ت 1294) 505
مقتل الحسين (علیه السلام) لأبي مخنف المشهور. 506
إبصار العين للشيخ محمّد السماوي (ت 1370) 510
معالي السبطين للمازندراني (ت 1384) 515
مقتل الحسين (علیه السلام) للمقرّم (ت 1391) 516
الأمالي للشجري.. 516
ص: 531